لماذا الوضع صعب في غزة: لان المعركة الأخرى الصعبة والتي نجحت في قلب معادلة الشرق المتوسط قبل عامين ونصف تعتبر أكثر سهولة مقارنة بوضع غزة.
وربما يتذكر الجميع طبيعة الهجمة في صيف 2006 على لبنان. وكيف توقعت كثير من القوى انتهاء معادلة حزب الله والمقاومة وبالتالي انهيار الحركات المقاومة تباعا في المنطقة لفتح أفق لشرق أوسط جديد تنبأت به الداية السوداء كوندي وأنها بانتظار المولود وتسمع ألام الوضع.
كانت أميركا وسياسة المحافظين الجدد في أوجها. وتوقع كثير من الناس عدم وقوف أي شيء أمام أميركا وتسابقت أقلام ومواقف نخبوية في اعتبار حركة حزب الله حركة مغامرة.
وتمت خسائر فادحة في الأرواح والجرحى ودمار كبير في البناء وخسائر في الاقتصاد. وجاءت الأمم المتحدة وينيفيل. وتوقع بعض الناس خلال مرحلة الوصول للقرار الدولي أن المسالة منتهية رغم مقاومة حزب الله وصموده. وأنها مسألة وقت فقط لدورة انتقام جديدة من حزب الله.
لكن كثيرين أيضا لم يستطيعوا قبول أو استيعاب إمكانية نجاح المشروع الأميركي واعتبر صمود موقف حزب الله إشارة إلى بداية تشتت المشروع بإجماله.
واعتبر صمود حزب الله كتراجع استراتيجي للسياسة الأميركية وفشل إسرائيلي من الطراز الأول رغم ما شهدنا بعد ذلك من العربدة البوشية. في الأساس رأينا تراجعا مستمرا بكل جبهات السياسة الأميركية.
علينا طبعا أن نعرف هنا أن التراجع نسبي ولا يفهم منه انهيار بقدرة أميركا القتالية أو الاقتصادية يترجم مباشرة على الأرض أو انسحاب في قدرة إسرائيل الهجومية يؤدي إلى هروب. انه فقط فشل في الاستراتيجية الأميركية التي بدأها بوش بمشاريع احتلال أفغانستان والعراق. وأن أي توسع بنفس النمط لا بد سيؤدي إلى مشاكل أكبر.
تمكن حزب الله بصموده إذن من تعريف مرحلة فشل الاستراتيجية الأميركية في تطويع وتطبيع المنطقة العربية والإسلامية. (لمزيد من التفصيل يمكن العودة إلى دراسة: مسائل في الأمن القومي العربي http://www.grenc.com/a/smsalman/show_Myarticle.cfm?id=2721)
طبعا لا نفهم من نجاح موقف حزب الله توقف الهجوم الأميركي والإسرائيلي. بل نرى ما حصل العكس حيث تكثفت حركة الولايات وإسرائيل منذ تلك اللحظة لمحاولة الوصول إلى حلول في العراق وفلسطين لا تتراجع عن الهدف الاستراتيجي لكنها تحمل توجهات براغماتية. جاءت مفاوضات إعادة جدولة الانسحاب طويل الأمد من العراق ومشروع انابوليس تعبيرا عن بقاء الأهداف ولكن بنفس أقل طموحا.
واعتمدت الولايات المتحدة لتحقيق الأهداف على دعم زعماء المنطقة الموالين (ومعظم الزعماء كذلك) وعزل وتهميش من يعتبرون متمردين أو ممانعين ما أمكن ذلك بدلا من السياسة السابقة لحرب لبنان التي تميزت بالعربدة المطلقة.
ومرت فلسطين منذ ذلك الوقت بمحاولات للوحدة الوطنية فشلت بسرعة بسبب بعد الهوة بين موقف التيار المقاوم وتيار الحل بفلسطين والمنطقة بشكل عام. وتوج ذلك بالانقسام في منتصف عام 2007 تبعه تحلل من الاتفاقات الموقعة لمشاريع العمل الوطني الموحد. وتشكلت حكومة الفياض دون دعم قانوني وبقيت حكومة حماس بغزة تمارس دورها وبدا أن الانقسام دائم.
تمت اجتهادات كثيرة منذ ذلك الحين بخصوص اقصر الطرق للوصول إلى حل للموقف الداخلي ويمكن تلخيص هذه المواقف مواقف بالتالي
1- اعتبر تيار المقاومة ( وحماس بدرجة أكثر وضوحا) أن الانقسام تعبير عن رفض لهيمنة سياسة فرض الحل الأميركي الإسرائيلي. وبالتالي لا بد من التمسك بغزة دون تنازلات لصالح سياسة الحل مهما كلف الأمر مع الاستعداد للتفاهم مع تيار الحل بشروط ندية على الأقل.
2- تيار الحل (وبشكل خاص رئيس السلطة) كان مقيدا بموقف فيتو أميركي إسرائيلي يمنع أي تفاهم مع تيار المقاومة. ولإعادة الوضع لما قبل الانقسام فرض شروطا تعجيزية وتطلب قبولا من تيار المقاومة بشروط الحل وقرارات الرباعية.
3- وبقيت طبعا محاولات من كثيرين من الوسطيين والقوى المستقلة وبعض الحريصين على وحدة الهدف الفلسطيني إيجاد صيغ سحرية دون جدوى.
وانقسمت الساحة الجماهيرية والعربية حسب نفس هذه المواقف الثلاثة. وحسب أول موقفين من السهل اعتبار أية محولات لرأب الصدع قفزا في الهواء.
وعندما اقتربت مرحلة استحقاق الرئاسة والتي أعلنت حماس وقوى تيار المقاومة أنها تصادف 9-1-2009 أعلنت معظم قوى تيار الحل وتبعها معظم قوى النظام العربي بتأكيد استمرارية أبو مازن رئيسا حتى يتم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة وان أي حل يقفز عن ذلك لن يعتمد دوليا أو رسميا.
لكن الأزمة كانت تتفاقم بسبب صعوبة بقاء الوضع ساكنا وخاصة عند تزامن ذلك مع نهاية ولاية بوش وفشل سياسته العامة وخاصة في الاقتصاد والسياسة والاستراتيجيا الإقليمية. فوق هذا سقط اولمرت وكلفت ليفني تشكيل حكومة فشلت في تحقيقها مما دفع إلى جدولة انتخابات إسرائيلية مبكرة في شباط 2009.
كان واضحا أن ثلاثي انابوليس يتلاشى وان المرحلة القادمة تحمل الكثير من رياح التغيير.
بالنسبة لإسرائيل كان هناك موقفان استراتيجيان: الأول لباراك وليفني يتفقان فيه على استمرار تبني السلطة الفلسطينية بأضعف أشكالها وإمكانية إيجاد حل حسب الشروط الإسرائيلية. ويستلزم هذه الموقف تأصيل مرجعية فلسطينية شاملة مما يتطلب حسم مسألة غزة قبل الدخول بأية تسوية ملزمة لفلسطين تحديدا.
الموقف الآخر تمثل في موقف الليكود وقوى اليمين المتطرف الإسرائيلي والتي تعتقد باستحالة تحقيق أي حلول تحقق الطموح الإسرائيلي وتعتمد على ماكينة منظمة التحرير والسلطة. وأن حماس ربما تمثل "شرا سينمو لا بد من استئصاله". لكن ليس لتقديم غزة لحكومة فلسطينية بل لإبقائها كيانا منفصلا. وتيار نتنياهو لا يؤمن بحل أصلا ويتمسك بأراضي الضفة الغربية بحدها الأقصى.
وعندما انتهت التهدئة في غزة مع نهاية العام الحالي كان واضحا أن كلا الموقفين يتفقان فقط في هدف تصفية حماس. وهذا هيأ الأرض للهجوم الحالي رغم اختلاف أهداف الأطراف ذات العلاقة.
في إسرائيل تأمل الحكومة الحالية وأي تحالف مستقبلي بين العمل وكاديما تسوية أمر غزة بما يؤمن تنفيذ تفاهمات أنابوليس أو ما يشبهها.
بالنسبة لبوش واوباما معا فتفاهمات انابوليس تستلزم دعم هذا التوجه وهم بالتالي لا يعارضون تسوية أوضاع غزة بما يتناسب.
بالنسبة لتيار الحل العربي والفلسطيني يبدو أن هذا طريق إجباري للوصول للمرحلة القادمة رغم ما يحمل من إحراج أمام الشعب العربي واحتمال فقدان الشرعية في حالة فشل تسوية وضع غزة خلال فترة قصيرة.
أما بالنسبة لتيار المقاومة وحلفائهم من العرب والمسلمين ( إيران وسوريا بشكل خاص) فقد توصلوا كما يبدو إلى نتيجة أن قبول شروط التسوية الأميركية الإسرائيلية مهما كان الإخراج سيؤدي عمليا إلى القضاء على حركة المقاومة في المنطقة وهذا لا يمكن قبوله وليس هناك بديل إلا الصمود. وكما صمد حزب الله في 2006 ونجح فربما ينجح الموقف هنا مرة أخرى.
ليس هناك مواقف غير مدروسة من أي من الأطراف إذن وليس هناك تحركات غوغائية. وأي تفاوتات ربما لا تزيد عن مؤثرات تكتيكية حول الموقف العام.
نحن الآن عند هذه النقطة.
بدأت إسرائيل هجومها وبشكل تدميري شديد يحمل في محتواه نسبة من الحقد الطبيعي على كل ما هو فلسطيني وهو أيضا يحاول إرهاب كل من يفكرون بالتحدي. لكن الهدف الحقيقي هو إسقاط تيار المقاومة وفتح المجال أمام بروز "موقف حمساوي" جديد يقبل الشروط أو ظهور قوى من غزة تساعد في قلب الموقف أو من خلال موقف دولي يفتح المجال لوضع جديد في غزة يسمح بسيطرة تيار الحل وموقفه.
وربما يتطلب الأمر قرارا من مجلس الأمن بوقف العمليات يتبعه دخول قوات عربية أو دولية لغزة.
يفترض هذا الهدف انهيار حماس أو تحولها طبعا وإلا فلن يتمكن احد من صنع تسوية من هذا النوع طالما تمتلك قوى المقامة ترسانة وإرادة قتالية. وهذا يفسر شدة المعركة بأمل في تسريع الانهيار.
الرهان على انهيار غزة يعتمد على مجموعة مميزات وظروف تجعل توقع ذلك أكثر وعدا من حالة لبنان عام 2006. نأمل أن يعذرنا السيد نصر الله عندما نقر بتقديره بتقارب المواقف بين غزة 2008 ولبنان 2009 ولكن مع إضافة أن وضع غزة أصعب أكثر.
ولكن قبل أن نعد أوجه الصعوبة نضع نقاط التشابه:
1- الموقف الداخلي: حالة انقسام على الاختلاف السياسي والموقف من المقاومة.
2- الموقف العربي: عجز وتآمر وتعاطف شعبي.
3- الموقف الدولي: اتفاق على ضرورة إلغاء دور المقاومة.
4- الموقف العسكري لا دفاع جوي وتفاوت حاد مع قدرة العدو النارية.
5- كلا القوتين حلفاء لسوريا وإيران ويتم التركيز على أنهما جزء من محور شيعي ضد عموم أهل السنة. مع الاعتراف بأنه كان أسهل ادعاءا في حالة حزب الله من حالة حماس بحكم علاقة حماس التاريخية مع دول الخليج وخلفيتها السنية وهذه نقطة لصالح حركة المقاومة الإسلامية بفلسطين.
أما نقاط الاختلاف فتتلخص في:
1- مساحة غزة صغيرة جدا ومكشوفة ومحاصرة جغرافيا من إسرائيل.
2- عدم وجود جار داعم استراتيجي. فموقف مصر من حماس والمقاومة بشكل عام يختلف جذريا عن موقف سوريا من حزب الله.
3- ما يتبع ذلك من اغلاق حدودي وحصار معيشي واستراتيجي.
4- الموقف العسكري في غزة أكثر صعوبة.
ويتبين بوضوح أن أهم فرق هو اختلاف موقف الجار الاستراتيجي. فبينما تدعم سوريا بكل ما يمكنها وفي بعض الأحيان تحاول إنكار حجم الدعم لأسباب تكتيكية ترى في مصر طرفا لا يمكن أن يكون حليفا لحماس لأسباب ومبررات استراتيجية.
وهذا يوضح صعوبة معركة غزة. وهو ربما يفسر لماذا بادر السيد نصر الله بالتركيز على هذه الفارقة الرئيسة وربما يفسر أيضا لماذا تتركز الأضواء ضد مصر بأكثر من موقف شعبي.
وهو ربما يفسر أيضا لماذا تتصرف مصر بدفاعية غير مسبوقة. مصر تتصرف بذعر ووزير الخارجية يتناوب المواقف بشكل محزن. مصر أم الدنيا تعتذر يوميا عن حرج موقفها وتفتش عن أعذار يثبت بعد لحظات أنها أقل إقناعا من الأسباب الحقيقية.
لا نريد الخوص في خصوصية الموقف المصري لكن ليس من الصعب فهم آلياته ولماذا هو هكذا لأن من الصعب جدا تخيل إمكانية تكون موقف المصري غير ما هو عليه.
وعليه لا أتوقع قيام مصر بتغييرات استراتيجية تخفف من الضغط العسكري على حماس مع أنها ستتدخل ما أمكنها لتخفيف المعاناة الإنسانية. وهذا رغم ضالته يمثل نقطة رصيد لصالح استمرار قدرة وصمود التيار المقاوم.
ربما من المفيد تحديد عوامل القوة والضعف للموقف الحمساوي والفلسطيني والمقاوم في غزة بما يلي:
1- قدرة الصمود القتالية: هل تتمكن من الاستمرار بإطلاق الصواريخ وهل تحتفظ بتسليح كاف للدخول بمصادمات في حالات الاقتحام وهل من الممكن افتراض وجود قدرة مقاومة لا تقل عن قدرة حزب الله رغم اختلاف التسليح.
2- مدى احتمالية تنفيذ عمليات في العمق الإسرائيلي: وهذه نقطة مفصلية فان فشلت المقاومة بالقيام بأية مبادرات خلال فترة الهجوم سيكون صعبا عليها تحقيق الحد الأدنى من الردع.
3- قدرة الشعب على الصمود: يعترف الجميع بقوة شكيمة أهل غزة رغم أن شدة الضرب ليست مألوفة. لكن يبدو أنه تم تجاوز جزء كبير من الصدمة.
4- الدعم الجماهيري: ويبدو أن هذا الدعم سوف يستمر طالما هناك مقاومة لها أمل بالصمود.
ومن هذه المعطيات يبدو حتى هذه اللحظة أن موقف المقاومة قوى لدرجة لا تستعجل التوصل إلى نتائج محسومة. بالمقابل فان الضغط السياسي سوف يستمر لتحقيق اختراق في موقف حماس والتيار المقاوم للحصول على تنازلات وهذا مألوف. وتحركات اللجنة الرباعية والموقف الدولي وبعض الدول العربية تصب ضمن هذا التحرك. وحسب المعطيات من المستبعد تنازل حماس استراتيجيا. وهنا نعود مرة أخرى لنقطة التشابه مع الموقف في لبنان.
ولكن كما تمت في لبنان تسوية دولية وتوقفت العمليات العسكرية ولم يتنازل الموقف المقاوم بل شارك بشكل أقوى ضمن معادلة الحكم ما الذي يمنع تسوية مشابهة تبقى فيها حماس قوة مشاركة في الموقف الداخلي مقابل توقف للعمليات طويل المدى.
كما يبدو تميل قوى المقاومة للوصول إلى تسوية مشابه لما حصل بلبنان وهم يعتبرون ذلك انتصارا. بالمقابل تأمل قوى الحل إن يكون هناك حل شبيه للبنان مع فارق واحد هو تنازل حماس بحكم قوة السيطرة الإسرائيلية وفقدان العمق الاستراتيجي.
كيف تنتهي الأمور: الله وحده يعلم ولك الله يا غزة. وليس أمامك إلا الصمود والصبر وتوكيل ما غير ذلك على الله وحده.
* أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية – قلقيلية – فلسطين. smsalman70@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق