بصورة دراماتيكية وقف رئيس المجلس الوطنى الفلسطينى «سليم الزعنون» أثناء حوار ضيق قبل عشرين سنة منفعلا بالصور المتلفزة من غزة وأريحا لدخول منظمة التحرير الفلسطينية قائلا: «لقد فعلها أبوعمار.. تظاهر بأنه قد انبطح أرضا وبنى سلطة على الأرض المحتلة تمهد للدولة أن تولد».
انتشاء اللحظة أنسته أسبابه فى معارضة اتفاقية «أوسلو» وأخذ الرهان الجديد مداه غير أن الحقائق بددته.
لا إسرائيل خدعت ولا فلسطين نالت دولتها ولا «عرفات» ترك حيا.
استهلك الزمن اللعبة كلها وأحالت «أوسلو» القضية الفلسطينية إلى أطلال تنعى عدالتها وتضحياتها.
«عرفات» راهن على مناورة بين التفاوض والسلاح بين أدوات السلطة وتنظيمات المقاومة غير أن الذين خططوا اللعبة نجحوا فى حصاره واختراق مقره فى رام الله واغتياله بالسم.
الرجل الذى خلفه على رأس السلطة «محمود عباس» هو نفسه عراب الاتفاقية ومنظرها الرئيسى والصوت الأعلى تنديدا بما سماه «عسكرة الانتفاضة» والشخصية الأقرب إلى ما كانت تسميه إسرائيل بـ«الشريك الفلسطينى فى السلام».
مع ذلك كله فلم تؤد لعبة التفاوض إلى أى شىء وما خلفته من أوراق ووثائق وخرائط بعد مداولات ماراثونية أودع الأرشيف الإسرائيلى واحتفظ الفلسطينيون بنسخ منها للذكرى أو كتابة المذكرات تاليا.
بعد رحلة طويلة ومضنية خسرت القضية الفلسطينية وحدتها واحترامها تقوض إلهامها ومسخت روحها.. وبدا أكثر الفلسطينيين اعتدالا بالمصطلح السياسى الشائع مقتنعا بأن المشهد المزرى تجاوز فى عبثيته أى حد يحتمل.
الأكثر إثارة أن عراب «أوسلو» وسلطتها يضع فى خياراته الأخيرة إعلان حلها.
سألته قبل نحو أربع سنوات فى حوار بقصر الأندلس القاهرى بحضور رؤساء تحرير وشخصيات فلسطينية أبرزها «عزام الأحمد» الذى وقع نيابة عنه اتفاقية المصالحة فى غزة: «لماذا لا تعلن حل السلطة؟». وكانت إجابته مباشرة وبسيطة: «قد يفاجئك أننى أفكر جديا فى هذا الخيار لكن ليس الآن».
راهن تاليا على دور يلعبه وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» وأبدى استعدادا لتنازلات جديدة مقابل حلحلة المفاوضات والتوصل إلى تسوية ما.
تعبير «تسوية ما» هو أكثر التعبيرات استهجانا فى التاريخ التفاوضى الفلسطينى لكنه الأكثر شيوعا وارتباطا باللعبة كلها.
اقترح «عباس» بحسب ما صرح فى وقت سابق لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية أن تتضمن التسوية دوريات وقوات لحلف «الناتو» فى الضفة الغربية والقدس وتأجيل رحيل قوات الاحتلال الإسرائيلى من الضفة لخمس سنوات وألا يكون هناك جيش للدولة الجديدة.
مشروع الدولة أقرب إلى مشروع بلدية تحت الاحتلال وهو ما لا يفرق كثيرا عن الوضع الحالى للسلطة.
خطته تنطوى على شطب حق العودة وقبول لتبادل الأراضى. ولم تكن خطة وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» فى خطوطها العريضة بعيدة عما يمكن أن يوقع عليه رئيس السلطة الفلسطينية وعراب «أوسلو». ومع ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية رفضت هدايا المنهكين استنادا على أمرين رئيسيين. أولهما أن الانقسام الفلسطينى لا يخول أحدا شرعية الحديث باسم قضية شعبه والانقسام يفضى بالوقت إلى حصد نتائج أفضل بلا فاتورة واحدة.. وثانيهما أن العالم العربى مشغول بأحواله المضطربة وحروبه الأهلية شبه المعلنة عن القضية الفلسطينية التى كانت توصف بقضية العرب المركزية، ورغم أن مشروع تفكيك العالم العربى ارتبط على نحو وثيق بتفكيك القضية الفلسطينية إلا أن الكلام كله فى الجامعة العربية لا يخرج عن الكلاشيهات المعتادة مثل التأكيد على «عدم غلق أى باب لاستئناف المفاوضات تحت الرعاية الأمريكية شريطة أن تكون على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التى أعلنت عام ٢٠٠٢».
التأكيد الإنشائى لا يعنى شيئا عمليا ومؤثرا فى المصائر المعلقة.
بالقرب من مقصلة النهاية عادت قضية المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام بين رام الله وغزة أو فتح وحماس إلى الواجهة مرة أخرى كخيار اضطرارى.
فى حالة فتح لا أفق سياسى لمستقبلها وتفسخ الروح المعنوية ينال بقسوة من بقاء السلطة نفسها. وفى حالة حماس فإن هناك مخاوف من إحكام الحصار عليها وسط تراجع فادح فى شعبيتها عربيا وفلسطينيا وفى غزة نفسها.
مشروع المصالحة طوق إنقاذ للطرفين المأزومين، طرف تقوض رهانه على التفاوض لكنه يتشبث بخيط أمل أن يعود إلى موائدها وطرف آخر خسر سمعته كمقاومة ولديه أمل أن يحسب عليها مجددا.
التوجه إلى إعلان حكومة توافق وطنى فى غضون خمسة أسابيع يمهد لانتخابات عامة تضمن تمثيل الأطراف السياسية كلها لا جديد فيه شكلا أو نصا، فقد جرى الاتفاق عليه فى جولتى محادثات بالقاهرة والدوحة. الجديد الآن: إرادة التنفيذ.
يبدو من سياق التفاعلات أن كلا الطرفين يحاول أن يتجاوز المطبات والخلافات والإحن القديمة وألا يتحمل مسئولية فشل المصالحة، فـ«عباس» يتحدث عن حكومة تلتزم بالاعتراف بإسرائيل وتنبذ العنف وحماس لا ترى فيما يقول أية خلافات تستحق التوقف عندها.
وقد أدت الاعتراضات الأمريكية والإسرائيلية على المصالحة الفلسطينية إلى إضفاء شىء من القيمة المعنوية على وضع اضطرارى وشىء من الأمل ألا تخرق هذه المرة.
إخفاق المصالحة غير مستبعد لكن تكاليفه باهظة بالنسبة للقضية الفلسطينية وللطرفين المأزومين. المفارقة الكبرى أن الاعتراضات توفر تماسكا ضروريا تفتقده ودعما شعبيا عربيا تحتاجه.
«خيبة الأمل» بتعبير وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» يفضى إلى شعور ما بأن هناك رقما جديدا يمكن أن يولد فى المنطقة الممزقة.
كلام «بنيامين نتنياهو» من أن المصالحة «قتل للسلام» ترفع الروح العامة التى أدمنت تسول تسوية على مدى عقدين كاملين.
فى الاعتراضات سبب معلن يثير الدهشة والتأمل من أن إسرائيل لا تستطيع التفاوض مع حكومة مدعومة من جماعة إرهابية لا تعترف بها.
الاعتراض يناقض سياقه، فحماس جزء من حركة الإخوان المسلمين التى تطالب الإدارة الأمريكية حتى الآن بدمجها فى الحياة السياسية المصرية وأشادت بدور الرئيس السابق «محمد مرسى» فى إبرام هدنة غزة لصالح الأمن الإسرائيلى.
رغم أية شكوك فى صلابة ومستقبل المصالحة فمن واجب مصر أن تدعمها بقدر ما تستطيع حتى لا تلقى الإخفاق القديم ذاته.
القضية الفلسطينية مسألة أمن قومى ومصير مشترك وغزة ملف حساس لا يمكن تجاهله أو التعامل معه بخفة لا تحتمل.
فى المصالحة الفلسطينية عودة إلى أصول القضايا لا هوامشها وعودة أخرى إلى حق غزة فى متنفسها المصرى وحق مصر فى سلامة حدودها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق