المنتج الأهم لهذه العلاقة الجدلية، هو مخاتَلة الدعاية المضلِلة، لكن هذه العلاقة أكثر تركيبا، وتصدر عن عوامل أكثر، من أن تقتصر فقط على كل من الصورة والتصور، فإدراك هذه العلاقة لا يكتمل بمجرد ملاحظتها بين هذين الحدين، فليس المقصود من هذه الملاحظة الموجزة هو الإحاطة بهذه القضية.
دون إفاضة في المقدمات النظرية، يمكن اتخاذ حزب الله نموذجا لهذه العلاقة الجدلية، لا فيما يتصوره هو عن نفسه، وإن كان تصويره الخارجي لنفسه مهما في ملاحظتنا هنا، وإنما فيما يتصوره مؤيدوه وأنصاره والمتكفلون بالدعاية له خارج مجاله الحزبي والطائفي وحتى الجغرافي، وبالضرورة فإن الصورة التي برع حزب الله في تقديمها عن نفسه، هي واحدة من مصادرهم ومشكّلات تصورهم، بالرغم من الثغرات الكثيرة في هذه الصورة بحيث لا تحتاج حصيفا ولا بصيرا لإدراكها لشدة ظهورها.
الصورة التي اهتم حزب الله في اختصار نفسه فيها، هي صورة الحزب المقاوم وحسب، وهذه صورة تستدعي صورة خطيرة كنتيجة لها وهي اختصار المقاومة في حزب الله، فالمقاومة هي حزب الله وحزب الله هو المقاومة، أو بحسب التعبير الصوفي حلت المقاومة في الحزب، وجسد الحزب روح المقاومة، وبهذا فإن كل ما يفعله الحزب مقاومة، وكل تحالفاته مقاومة، وكل خطابه مقاومة، وطالما أن المقاومة فعل نبيل، يرقى في الوجدان العربي المكلوم من الاستعمار إلى رتبة القداسة، فإن حزب الله حزب مقدس، والمقدس لا يُسأل عما يفعل بل هو الذي يسائل، بمعنى أن الحزب هنا ليس كيانًا يمارس فعلاً مقدسًا، بل هو المقدس ذاته.
وبَسَطَ الحزبُ المقاومةَ غطاء على حقيقته الطائفية، فصار التشيع الاثني عشري ذو الطبيعة المغلقة، والإحياء السياسي له من خلال نظرية مذهبية طائفية هي ولاية الفقيه، ميزة للحزب، بدلاً من الدلالة على طائفيته وتحركه حصرا في إطار مصالح هوية ضيقة مغلقة هي الهوية الشيعية الاثني عشرية بطبعتها الخمينية، فالعمامة جرت أيقنتها بقرنها بالكلاشنكوف وتغليفها بكاريزما القائد، حتى صار هذا المعم "سيد الانتصارات والمقاومة"، هكذا بكل الإطلاق الذي تطيقه اللغة! واستُدعيت مظلمة الحسين عليه السلام وبطولته من التراث الشيعي للاستخدام في الخطاب الحزبي المعروض للتداول العام في مقاربة ثورية شعاراتية مثل "هيهات منا الذلة" و"الدم الذي هزم السيف"، وكأن التشيع لدى حزب الله هو عين ثورة الحسين لا أكثر ولا أقل! وبهذا خلقت صورة جديدة مخاتلة، لم تقتصر مفاعيلها على الحزب ولحظته الراهنة، بل تمددت بأثر رجعي إلى الماضي لإعادة تأويل التاريخ الشيعي الاثني عشري كتاريخ ثوري، بالرغم من الحالة السكونية الانتظارية التي غرق فيها هذا النمط من التشيع على وجه التحديد، ويتمدد هذا التأويل بعد أن يتمكن من الذهن كتصور راسخ لقرن الثورة والمقاومة بالتشيع، حتى أمّل الواقعون في فخ هذه المخاتلة على مقاومة شيعية حصرا لإخراج الاحتلال الأمريكي من العراق، وحتى أن المقاومة الفعلية التي أخرجت المحتل الأمريكي لم تحظ بوصف المقاومة هذا لأنها من ناحية لم تكن شيعية ومن ناحية أخرى لم تنل اعتراف حزب الله بها كمقاومة! ويمكن سماع الدوي المرعب للسقوط في قعر هذه المخاتلة و(يساري فلسطيني) يعيد تأويل المشهد العراقي ليجعل من نوري المالكي بطل إخراج القوات الأمريكية من العراق، وقد كان لا بد من إعادة تأويل صورة القادم على الدبابة الأمريكية إلى بطل ينتصر على الولايات المتحدة الأمريكية ويخرجها صاغرة من بلده، حينما جمعت الساحة السورية ذلك القادم على تيك الدبابة مع حزب الله في مناصرة النظام السوري، وحزب الله كما صرح سيده لا يربطه بالأمريكان رابط ولا يجمعه بهم مكان واحد!
وبهذا لم يعد الحزب طائفيا في تصور مناصريه، أو في الصورة المأوّلة للحزب، فالصورة التي أخرجها عن نفسه للتداول العام جنبها المقولة الطائفية إلا ما أعيد تثويره مقرونا بصورة المقاوم، وصارت هذه الصورة هي المرجع الوحيد لفهم الحزب من هذه الناحية، حتى في إطار النشاط المعرفي، فالأكاديمي الذي شكل تصوراته النهائية المقدِّسة عن الحزب لا يذهب إلى ما خلف هذه الصورة، ويصبح أي كشف معرفي يذهب إلى ما خلف الصورة مُتهمًا بالطائفية، بالرغم من أن المعرفة لا تنم عن طائفية إلا حين تحويلها إلى خطاب، وبهذا يصبح النشاط المعرفي الصرف متهما وموصوما بالطائفية حراسة لحمى المقدس الذي حلت فيه روح المقاومة، ويصبح نفي الطائفية عن حزب الله خطابا أيديولوجيا قائما بذاته غايته طمس حتى المعرفة المجردة بكل الاعتساف الممكن، وليس فقط حماية للمقدس من استخدام المعرفة كأداة لخطاب مناوئ!
وإعادة التأويل لهذا التاريخ، لها مفاعيل في إعادة تصوير عموم الأمة التي تضيق بها الهوية الطائفية الشيعية، بحيث يُصَوَرُ هذا العموم في صورة المحافظ والمستكين والخانع، بالرغم من أن الحالة القتالية منذ فجر الدعوة طبعت سلوك هذا التيار العام في ممارسة ثورية تحررية متصلة تمثلت في العمل على إخراج العباد من عبادة العباد، لكن وبدلاً من استعراض التاريخ الجهادي الحافل للتيار العام في الأمة، يكفي القول أن التارخ الحديث والمعاصر افتتح بجهاد هذا التيار لدفع الاستعمار عن بلادنا، من المغرب إلى بلاد الشام، حتى اللحظات القريبة والراهنة في غير مكان في هذا العالم، من أفغانستان والشيشان إلى العراق وفلسطين، حتى رأينا، ولا نزال نرى عيانًا، ذلك الرجل الممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا التصور يعاد تدويره بإخراجه على شكل صورة إلى التداول العام، إما تعبيرا عن رأي غافل لأنه سقط أساسا في فخ هذه المخاتلة، أو غطاء على الحقيقة لتسويق ممارسات وأفعال تقبع أسفل هذا التصوير المضلل. والإشكال هنا كبير وأساسي، سواء تعلق الأمر بصاحب الرأي الغافل الذي يبدو معه الإشكال منهجيا لارتكازه عن حسن نية إلى تصور يحجب عن رؤية الأشياء كما هي، أو تعلق بذلك الذي يمارس عن وعي دعايته التضليلية بحجاب الأشياء عن إدراكها كما هي من خلال ترسيخ التصور المضلل في الوعي العام، إذ النتيجة واحدة، وهي إحلال المقاومة في حزب الله، وتقديمه كمجسد مطلق لها، بحيث لا تقتصر الخطورة على عملية التضليل وحسب، بل وفي استخدام هذا المرتكز كأداة سياسية في إسقاط كل من يختلف مع الحزب أو مع اصطفافاته، فالحزب في ذاته صار معيارا وهذه حتمًا تنطوي على إهانة بالغة.
علاقة حماس بهذا النقاش، وأمثلة على هذه الإشكالية في المقالة القادمة بإذن الله.
* الباحث في الفكر الإسلامي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق