الفكرة من حيث المبدأ، لا تتقتصر على الدول التي تشبه دولة قطر في نشأتها وسياساتها وقدراتها، فبالرغم من أن أي حركة مقاومة تحتاج إلى أشكال متنوعة من الدعم، وإلى بناء تحالفات تتجاوز الروابط الأيديولوجية والرؤى السياسية المتطابقة، وتقليل الأعداء وكسب الأصدقاء وتحييد من لا يمكن كسبه، وإلى قواعد خلفية آمنة، وإلى أجهزة تتمتع بقدر معقول من الحرية لإسناد حركة المقاومة في وظيفتها وهو ما يتطلب وجودًا على أرض خارج ساحة الصراع أو لا تخضع للاحتلال المباشر، فإن احتياج أي حركة مقاومة كليًا لدولة ذات سياسات خاصة، حتى لو كانت تتغطى بشعارات ومسلكيات ثورية أو مقاومة أو ممانعة هو مدمر على المستوى الاستراتيجي، بمعنى أن الاعتماد الأساسي ينبغي أن يكون على الذات وعلى جماهير الأمة، وهو الأمر الذي يحتاج تقليل الاعتماد على الأنظمة الرسمية، والدول ذات السياسات الخاصة، فحتى سوريا التي تمتعت حركة حماس داخلها بحرية واسعة غير مسبوقة وحظيت فيها بكل أشكال الدعم التي تحتاجها المقاومة، انخرطت في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع العدو الصهيوني، وكانت ولا تزال جزء من المبادرة العربية، وانتهجت سياسات لا تبدو متسقة مع شعارات القومية ومناهضة الاستعمار كما فعلت حينما شاركت في الحرب على العراق عام 1991 إلى جانب أمريكا، ودخلت في تحالف سياسي مع دول متصلة عضويًا بالولايات المتحدة الأمريكية كما في إعلان دمشق العام 1991 والذي جمع نظام حافظ الأسد إلى جانب نظام مبارك ودول الخليج الست، ولو أن المفاوضات غير المباشرة التي جمعتها بالعدو عبر وساطة تركية أفضت إلى اتفاق سلام لكان يترتب على هذا بالضرورة أن تعيد صياغة علاقتها بحركات المقاومة.
الأمر نفسه يمكن قوله في العلاقة مع إيران، أو مع حزب الله المرتبط عضويًا بإيران والذي له حساباته الخاصة في لبنان والإقليم، وهذا أبدًا لا يجعل الدول والأحزاب التي قدمت دعمًا واسعًا لحركة المقاومة وتبنت سياسات مناوئة للإمبريالية الأمريكية تقف على نفس درجة الدول التي تحتمي بالقواعد الأمريكية، لكن للدول والأنظمة والأحزاب المرتبطة بها سياساتها التي قد تتعارض مع حركة المقاومة، أو مع ظروفها وخصوصيتها.
فارتباط قدرات ومقومات وإمكانات حركة مقاومة بشكل كلي بدولة، أي دولة حتى لو أعلنت عن سياسات مناوئة للعدو الصهيوني أو للإمبريالية الأمريكية، هو أمر خطير، فهذه الحركة ستصبح رهينة تحولات هذه الدولة، وخاضعة لابتزاز دعمها المالي، ومن هذه الناحية فإن الحركات المرتبطة عضويًا بدول دعمت المقاومة بسقف مفتوح لا تبدو على المستوى الاستراتيجي في وضع أحسن من حماس، ويمكننا رصد مصير حركات الثورة الفلسطينية التي ارتبطت عضويًا بنظام صدام حسين أو بالنظام السوري، أو الرهانات الخاسرة للثورة الفلسطينية على نظام عبد الناصر، أو اضطرار حزب الله للقتال في سوريا دفاعًا عن ظهيره الاستراتيجي واستجابة لأمر مرجعيته الدينية.
فإذا كان اللجوء لقطر، وحتى تركيا، لا يبدو متسقًا مع طبيعة ودور حركة المقاومة، فإن الاحتياج الكلي لأي دولة أخرى حتى لو كانت داعمة للمقاومة هو أيضًا لا يتسق مع الطبيعة والدور المفترضين لحركة المقاومة، ومن باب أولى القول أيضًا أن رهان حركة المقاومة على تحولات سياسية تنهض على رمال متحركة لا ينم عن وعي كافي بخطورة الدور الذي تقوم به الحركة، ومن ثم فإن حسابات حركة المقاومة الفلسطينية دقيقة جدًا ولا تحتمل المغامرة الواسعة ولا التفريط المستعجل بقواعدها ومكتسباتها، وهي وبدلاً من الرهان على الرمال المتحركة ومنح الأولوية لانتظار التمكين لعمقها الأيديولوجي يفترض أن تقوم بدورها التحرري في وسط الأمة من خلال المقاومة وبالتركيز على أن الشرط التحرري للأمة مربوط بمواجهة الحالة الاستعمارية في فلسطين، وهذا الدور يمكن القيام به من خلال فعل المقاومة نفسه، وبالخطاب الذي تتجه به الحركة للجماهير العربية عبر أجهزتها ومؤسساتها والفعاليات المتنوعة بربط تلك الجماهير بفلسطين كقضية أولى لها وكشرط ضروري لإنجاز التحرر على مستوى الأمة، وبممارسة الضغط والتعبئة والنفوذ داخل الحركات التي تقاسمها الخط الأيديولجي، بدلاً من أن توفر لتنازلات تلك الحركات تحت شعار التدرج وانتظار التمكين الغطاء باسم المقاومة، فإذا كان رهن القضية الفلسطينية إلى تمكن الأنظمة القومية وأنظمة العسكرتاريا من إنجاز بناء دولها وجيوشها كما حصل في العقود الماضية مرفوضًا، فالأمر نفسه مرفوض أيا كانت القوى التي في السلطة إسلامية أو غير ذلك، وقد تبين عمق الحضور الصهيوني في الانقلاب المصري، وكيف أن إدراك النهضة التونسية لهيمنة القوى الاستعمارية على الدول العربية يجري التعبير عنه بصورة سلبية كالتصويت بالضد على مقترح تجريم التطبيع في الدستور، أو تأييدها الأولي لغزو فرنسا لمالي!
وعلى كل حال، فقد ثبت أن حماس لم تكن ترتبط عضويًا بالدول التي قدمت لها ذلك الدعم الواسع في كل ما تحتاجه كحركة مقاومة، وبالتالي من باب أولى أنها لن ترتبط عضويًا بالدول التي تقدم دعمًا دون ذلك، أو التي لجأت إليها حماس مضطرة من بعد التحولات في الإقليم، أو التي لا تجمعها بـحماس نفس الأرضية المقاومة والمناوئة للاستعمار الصهيوني، كما أن حماس لا تزال تمتلك مقدرات ذاتية وتنتمي إلى حاضنة جماهيرية واسعة تجعلها أقل اعتمادًا من غيرها من حركات المقاومة على الدول والأنظمة، وهذا لا يعني أن حماس لم ترتكب الأخطاء في تعاطيها مع هذه التحولات وفي اعتمادها على توقعاتها بخصوص هذه التحولات، ولا يعني أنها قامت بواجباتها على أكمل وجه كطليعة تحررية للأمة كلها، ولا يعني أنه لم يكن لها خيارات سياسية حمّلتها أعباء مضاعفة فاقمت من احتياجها للدول والأنظمة، ولا يعني أنها خالية من معضلات ومشكلات في جوانب أخرى، كما لا يعني أن لجوءها لدول لا تقف على نفس الأرضية المقاومة لحماس لن يكون مؤثرًا على بعض سياسات وخيارات الحركة.
إلا أن هذا اللجوء لقطر، يجري إخراجه عن سياقه، وتصويره على غير حقيقته، وتوظيفه في عمليات ابتزاز ومناكفة وكيد سياسي بهدف تشويه الحركة، والطعن في استقلال قرارها، وتصفية الحساب معها من بعد الخلاف بخصوص الموضوع السوري، وهو الأمر الذي كنت أود مناقشته مباشرة خاصة بعد ردود الفعل على مقالتي: "خداع الصورة والتصور: حماس وحزب الله"، حيث يتركز النقد كلما اجتهد بالظهور بمظهر موضوعي ورصين على لجوء حماس إلى قطر من بعد خروجها من سوريا، إلا أنني ارتأيت أنه لا بد من وضع التفسير الآتي إن شاء الله لهذا اللجوء في سياق الرؤية الأصلية من وجهة نظري، وهو ما استدعى هذه المقدمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق