ربما يكتشف قادة الحكم العسكري في مصر فيما هو قادم من ايام ان وجود الرئيس المنتخب محمد مرسي في قفص الرئاسة، ارحم بكثير، واقل كلفة، من وجوده خلف القضبان معتقلا، او متهما امام قضاة محكمة هزلية، وما جرى صباح امس اثناء الجلسة الافتتاحية القصيرة والسرية لمحاكمته احد المؤشرات المهمة في هذا الصدد.
الحكم العسكري كان هو الذي يقف في قفص الاتهام، والنظام القضائي المصري معه، وكذلك وسائل الاعلام الرسمية والخاصة، فهذه المنظومة التي تشكل امتدادا لحكم مبارك اعتقدت ان قلب نظام الرئيس المنتخب والزج به خلف القضبان ومعه معظم قيادات الاخوان المسلمين من الصفين الاول والثاني، سينهي الازمات المصرية كلها، ويعيد الامن والاستقرار والرخاء الى البلاد، ولكن ما يحدث هو العكس تماما، رغم كل عمليات التجميل والتزوير على الصعد كافة.
الرئيس محمد مرسي اثبت انه وهو في قفص الاتهام الاقوى من سجانه الفريق اول عبد الفتاح السيسي الرئيس الفعلي للبلاد والجيش المصري الذي يتزعمه، معنويا على الاقل، فالنظام المصري الحاكم بدا مرتبكا في التعاطي مع المحاكمة وظروفها، فلم يكتف بتغيير مكان انعقادها قبل يوم واحد من بدئها، بل بدا ايضا خائفا من نقل وقائعها على الهواء مباشرة اسوة بما فعله المجلس العسكري السابق بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي اثناء محاكمة الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وحشد عشرين الف جندي و1500 دبابة لحماية المكان، وكأنه ذاهب الى حرب كبرى.
من حق الرئيس مرسي ان يعلن، وفي اولى جلسات المحكمة، انه “رئيس الجمهورية” وان من ينبغي محاكمتهم هم من انقلبوا على الشرعية، وعطلوا الارادة الشعبية، وحكم صناديق الاقتراع في اول انتخابات رئاسية حرة في ناريخ مصر.
ومن حقه ايضا ان يشكك في هذا القضاء الذي قبل على نفسه ان يحاكم رئيسا منتخبا اطاح به انقلاب عسكري وفق جرائم ملفقة، فالقضاء المستقل العادل يرفض ان يتنازل عن حياديته واستقلاليته، ويقبل ان يتحول الى قضاء مسيس.
الرئيس مرسي لم يرتكب اي جريمة جنائية يعاقب عليها القانون، واذا كانت هناك جريمة وقعت فعلا، فهي تلك التي ارتكبت في حقه وجميع زملائه، فهؤلاء لم يقتلوا “بعوضة”، ومن تعرض للقتل والتعذيب والاعتقال التعسفي السياسي فهم انصارهم سواء اولئك الذين قُتلوا بدم بارد امام قيادة الحرس الجمهوري او الآخرين في ميداني رابعة العدوية والنهضة برصاص قوات الامن والجيش او دهسا بدباباتهم وجرافاتهم.
جميع التهم الموجهة الى الرئيس مرسي مفبركة، والمحاكمة سياسية بالدرجة الاولى، فالقول انه حرض على القتل ممجوجة وغير مقنعة، فكيف يحرض الرجل على القتل للمتظاهرين والمحتجين امام قصره وجميع هؤلاء من معارضيه وكادوا يقتحمون القصر لقتله وسحله واضطر للخروج من باب خلفي للنجاة بحياته، وثمانية من الضحايا العشرة من انصاره، ثم كيف يقف في قفص الاتهام بتهمة التحريض على القتل وادوات القتل، اي وزير الداخلية ومساعديه ما زالوا في مناصبهم، لم توجه لهم اي تهمة على غرار الحبيب العادلي ومساعديه، والاكثر من ذلك ارتكبوا مجازر في الميدانين المذكورين عندما اقدما على فض اعتصاماتهما بالقوة والرصاص الحي؟
ولعل التهمة الاسخف التي يواجهها الرئيس مرسي تلك المتعلقة بتخابره مع حركة المقاومة الاسلامية “حماس″ فمتى كان الاتصال مع الاشقاء المقاومين جريمة تستحق الادانة والسجن، ألم يكن نظام الرئيس مبارك ورموزه على اتصال بحركة “حماس″ ويستضيف قياداتها في افخم فنادق مصر، ويفرش لهم السجاد الاحمرفي كل مرة تطأ اقدامهم مطارات مصر ومعابرها؟ ولم نسمع مطلقا، ونحن الذين تابعنا محاكمات هؤلاء جميعا، تهمة واحدة يحاكمون من اجلها، لتخابرهم مع حركة “حماس″ بل لم نسمع اي ذكر في المحاكمات للحركة الفلسطينية هذه، فاذا كان التخابر مع حماس تهمة فيجب اعادة محاكمة مبارك، والجامعة العربية، وقادة جهاز المخابرات المصري القدامى والجدد.
الرئيس مرسي ما زال الرئيس الشرعي لمصر، اتفقنا معه او اختلفنا، فاذا كان ارتكب اخطاء فترة حكمه، وفشل في انقاذ البلاد من ازماتها، فحسابه سياسي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومن قبل الشعب عبر صناديق الاقتراع ثم ان فترة حكم الرجل لم تزد عن 12 شهرا فقط، وجاءت حافلة بالمظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات واعمال البلطجة من قبل خصومه من انصار النظام السابق الذين عقدوا العزم على افشاله وحكمه ولم يعطوه الفرصة لاصلاح اخطائه او حتى التقاط انفاسه.
الذين يستحقون المحاكمة فعلا هم من اطاحوا برئيس منتخب، وارسلوا الدبابات والجرافات لسحق محتجين سلميين في رابعة العدوية وامام قيادة الحرس الجمهوري، وحولوا مصر الى ديكتاتورية عسكرية، وصادروا الرأي الآخر، وكمموا وسائل الاعلام، واجهضوا حرية التعبير ابرز انجازات الثورة المصرية العظيمة.
مصر بحاجة الى رجل قوي فعلا، يجسد الخيار الثالث، يضع حدا لهذه المهازل، ويعيد الهيبة للدولة ويحترم الشرعية، ويؤسس لديمقراطية حقيقية ترتكز الى المصالحة الوطنية، وتكريس التعايش ونبذ الاقصاء وبدون ذلك، وفي ظل النزاعات الثأرية الانتقامية التي نراها حاليا لا نعتقد ان البلاد ستشهد استقرارا قريبا.
عبد الباري عطوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق