منذ زمن، بل ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو وشعار لا يجوز التخوين يرتفع، والهجمة ضد كل من يتهم آخرين بالخيانة تتسع وتتمدد. وقد حول العديد مسألة الاتهام بالتخوين إلى قضية أخلاقية على اعتبار أن من يصف الآخرين بالتخوين عبارة عن شخص مهووس ومغامر، ولا يعرف احترام الرأي الآخر ولا يحترم مبادئ الدمقراطية والحرية.
وقد تبنى هذا الموقف عدد من المثقفين العرب الموالين للأنظمة العربية والمؤيدين للسياسات الأمريكية في المنطقة والمدافعين عن نهج المفاوضات مع الكيان الصهيوني، وعن اتفاقيات الصلح والسلام والتطبيع. وقد بات واضحا أن هؤلاء الذين تستفزهم مسألة التخوين هم أنفسهم الذين باتوا يقبلون بإسرائيل ويتهاونون بالحقوق الفلسطينية ويتعاونون بطريقة أو بأخرى مع إسرائيل.
العديد من هؤلاء الذين تستفزهم عبارات التخوين كانوا يستسهلون تخوين الآخرين، ولم يكن يردعهم شيء عن وصف الآخرين بالجاسوسية والتعاون مع العدو الصهيوني. هؤلاء أنفسهم لم يكونوا يتقبلون نقدا لا لفتح ولا لمنظمة التحرير ولا لأي شخصية قيادية فلسطينية، ولا لأي نهج أو قرارات فلسطينية. كانوا يفتحون بوابات التخوين بسهولة ضد أي شخص يأتي على ذكر عرفات بنقد أو لسياساته بعدم ارتياح، أو أن ينبس ببنت شفة ضد نهجهم في السياسات الداخلية أو الخارجية. هؤلاء أنفسهم عملوا على تشويه صور آلاف الناس والأشخاص المحترمين لا لسبب إلا لأنهم كانوا يشعرون بالغيرة على فلسطين وشعبها المشتت في كل مكان، أو كانوا ينتقدون سياسات منظمة التحرير وقرارات المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
لم يكن يتردد هؤلاء باتهام من يبتسم ليهودي عن بعد كيلومتر بالخيانة، ولم ينج إطلاقا من تخوينهم من كان يقابل صهاينة سواء كانوا سياسيين أو أساتذة جامعات أو محامين، أو من كان يقيم علاقة مع يهودي لا علاقة له بالسياسة أو الأمن. كان مجرد التفكير بالحكم الذاتي عبارة عن خيانة عظمى، وقد هددت القيادات الفلسطينية مرارا وتكرارا كل من يقبل بالحكم الذاتي، واعتبرته خائنا يستحق القتل، وخونت كل من يفكر بالاعتراف بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، وكل من يقبل بقرار مجلس الأمن 242، الخ.
كان من السهل نعت معارضين أو منتقدين بالجواسيس، وكان يتم تعميم النعت على مساحة فلسطين من أجل إخراج الشخص المعني من ملة الوطنيين. وقد استعمل هذا السلاح من أجل إسكات الآخرين وإبقاء الساحة خالية لهم يصولون ويجولون كيفما شاؤوا. وأخذا بعادات وتقاليد لا تكترث بالبحث والتدقيق، كان المجتمع يتجاوب مع الشائعات، ولم يكن يرحم من تثور ضده شبهة، أو تحوم حوله شائعة.
جدلية التخوين ارتدت بقوة ضد الذين كانوا يستعملونها بدون تردد وبدون ضمير، فأخذوا يهاجمونها بقوة على اعتبار أنها نوع من الفساد والإفساد، وأسلوب يؤدي إلى التفسخ الاجتماعي. وهنا أسأل:
هل الذي يوقع اتفاقا مع إسرائيل خائن أم لا؟
هل الذي يعتنرف بإسرائيل خائن أم لا؟
هل التنسيق الأمني مع إسرائيل خيانة أم لا؟
هل التطبيع مع إسرائيل خيانة أم لا؟
هل ملاحقة ما يسمى بالإرهاب والإرهابيين خيانة أم لا؟
هل السعي إلى تفكيك خلايا المقاومة خيانة أم لا؟
أنا أطلب إجابة من أبطال التخوين اذين كانوا قد نصبوا أنفسهم حكاما على وطنية الناس. ما الذي يجعل الآخرين خونة، بينما تبقون أنتم وطنيين تحت كل الظروف والأحوال؟ إذا لم تكن هذه الأعمال خيانة، فماذا نسميها؟ نريد إجابة منكم حول تسميتها، وحول ما يمكن أن نعتبره الآن خيانة. ما هي الخيانة الآن، ومن هو الخائن؟
القضاء الثوري الفلسطيني
أجاب القضاء الثوري لمنظمة التنحرير الفلسطينية على بعض الأسئلة أعلاه. هناك نصوص كثيرة في مجموعة التشريعات الجزائية المنبثقة عن القضاء الثوري الفلسطيني والتي ما زالت في الخدمة حتى الآن، أي ما زال معمولا بها حتى الآن من قبل منظمة التحرير الفلسطينية. وقد سبق للسلطة الفلسطينية أن حاكمت بعض عناصر فتح بعد سيطرة حماس على قطاع غزة بناء على هذه التشريعات. أورد هنا بعض النصوص الواردة تحت عنوان "الجرائم التي تقع على أمن الثورة الخارجي":
مادة 130: يعاقب بالإعدام كل من حمل السلاح على الثورة الفلسطينية أو التحق بأي وجه كان بقوات العدو المسلحة."
وهنا أسأل عن حكم الشخص الذي يحمل السلاح وفقا لاتفاقيتي أوسلو وطابا بترخيص من العدو ووفق قاعدة ملاحقة الإرهاب المنصوص عليها بالاتفاقيتين؟
مادة 131: يعاقب بالإعدام كل من:
أ- سعى لدى دولة أو جهة معادية للثورة أو تخابر معها أو مع أحد ممن يعملون لمصلحتها للقيام بأعمال عدوانية ضد الثورة.
ب-سعى لدى دولة أجنبية معادية أو تخابر معها أو مع أحد ممن يعملون لمصلحتها لمعاونتها في عملياتها الحربية أو للإضرار بالعمليات الحربية للثورة الفلسطينية.
مادة 132: يعاقب بالإعدام كل من دس الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونه بأي وجه كان على فوز قواته على الثورة الفلسطينية.
مادة 133: يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من دس الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى العدوان ضد الثورة أو ليوفر الوسائل إلى ذلك وإذا أفضى عمله إلى نتيجة عوقب بالإعدام.
مادة 134: يعاقب بالإعدام كل من أقدم بأية وسيلة كانت على الإضرار بالمنشآت والمصانع والبواخر والمركبات والأدوات والذخائر والأسلحة والمؤن وسبل المواصلات وبصورة عامة أي شيء ذي طابع عسكري أو معد لاستعمال قوات الثورة أو القوات الحليفة.
ماد 136: يعاقب بالإعلام كل من أتلف أو عيب أو عطل عمدا أسلحة أو سفنا أو طائرات أو مهمات أو منشآت أو وسائل أو مواصلات أو مرافق عامة أو ذخائر أو مؤنا أو أدوية أو غير ذلك مما أعد للدفاع عن الثورة أو مما يستعمل في ذلك.
ويعاقب بالإعدام كل من أساء عمدا صنعها أو إصلاحها وكل من أتى عمدا عملا من شأنه أن يجعلها غير صالحة ولو مؤقتا للانتفاع بها فيما أعدت له أو أن ينشأ عنها حادث.
مادة 137: يعاقب بالإعدام كل آمر أو قائد سلم إلى العدو الموقع الموكول إليه دون أن يستنفذ جميع وسائل الدفاع لديه وبدون أن يعمل بكل ما يأمر به الواجب والشرف.
مادة 138: يعاقب بالإعدام كل قائد وحدة مسلحة يسلم في ساحة القتال إذا أدى ذلك إلى وقف القتال أو إذا لم يعمل قبل مخابرة العدو بكل ما يأمر به الواجب والشرف.
مادة 139: يعاقب بالإعدام كل آمر استعمل أية وسيلة إرغام أي قائد أو شخص آخر على أن يهجر أو يسلم بصورة شائنة أي حصن أو مكان أو نقطة أو مخفر مما هو مترتب على ذلك القائد أو الشخص الآخر الدفاع عنه.
مادة 140: يعاقب بالإعدام كل فرد:
أ- ألقى سلاحه أو ذخيرته أو عدته بصورة شائنة أمام العدو.
ب-تخابر مع العدو أو أعطاه أخبارا بصورة تنطوي على الخيانة أو أرسل إلى العدو راية المهادنة عن خيانة أو جبن.
ت-أمد العدو بالأسلحة أو الذخيرة أو المؤن أو آوى أو أجار عدوا ليس بأسير وهو يعلم أمره.
ث-قام عن علم منه أثناء وجوده بالخدمة بأي عمل من شأنه أن يعرض للخطر نجاح أية عمليات تقوم بها قوات الثورة أو أية قوات من القوات الحليفة.
هل من الممكن أن نعتبر كل فلسطيني يقوم بأي عمل مشين من الأعمال المنصوص عليها أعلاه خائنا خيانة عظمى؟ من الذي كتب هذه النصوص وما زال يتمسك بها؟ بالتأكيد لست أنا، وليس القرضاوي أو عبد الباري عطوان أو اسماعيل هنية أو حسن نصر الله، وإنما ذلك الذي تشتعل في رأسه النار كلما سمع كلمة خيانة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق