تدثّرت بعض «الرموز» الفلسطينية المهزومة بثياب الواعظين والحكماء ، وخرجت علينا أثناء الحرب على غزة وما بعدها ، وعبر الفضائيات ووسائل الإعلام المحسوبة حصراً على «الاعتدال» ، لتنثر عظاتها وخلاصات تجربتها «التاريخية» ، والتي لا شيء «تاريخياً» فيها سوى امتدادها في عمر الزمن لسنوات وعقود ، أملته أكذوبة «ديمقراطية غابة السلاح الفلسطينية».
أسهب هؤلاء في الحديث عن «اختلال» موازين القوى ، واستطردوا في شرح «عدوانية» إسرائيل التي لا تميز بين مدني وعسكري ، مقاتل وطفل ، لا لإدانة إسرائيل والمطالبة بردعها ، بل لتسويق الانصياع لإملاءاتها وتبرير الخضوع لمعايير التنسيق الأمني معها ، فضلاً بالطبع عن أحاديث ممجوجة ومكررة عن هزال الوضع العربي وتهافته ، وعدم جدوى حركة التضامن والتحركات الشعبية ، ودائماً بهدف البرهنة على عبثية الصمود والمقاومة ، وتبرير الخنوع والهزيمة ، وتسويق «صورة إسرائيل الردعية» التي تخدم هذا «الخط السياسي» أكثر مما تخدم «نظرية الأمن الإسرائيلية».
لو أن مؤرخاً فلسطينياً قرر الإصغاء لهؤلاء والأخذ بحكمتهم وموعظتهم «غير الحسنة» ، ما الذي كان سيقوله في قرار حركة فتح إطلاق الرصاصة الأولى ، وفي الظروف العربية والدولية التي نعرف...ما الذي سيكتبه عن معركة الكرامة وموازين القوى غداة هزيمة حرب الساعات الست...ما الذي كان سيقوله ويكتبه عن عمليات الفدائيين على امتداد غور الأردن وجنوب لبنان...ما الذي كان سيدونه عن حرب الاجتياح والحصار والصمود الأسطوري في بيروت لثلاثة أشهر متتالية ، ما الذي كان سيرويه عن قصص البطولة والصمود وفي الانتفاضتين الأولى والثانية؟.
كان بالطبع سيدين المقاومة والحركة الوطنية الفلسطينية التي «انتسب» إليها يوماً ، هؤلاء «المتقاعدين» من العمل النضالي ، الذين استمرأوا حياة الـ (VIP) ، كان ليكتب في كل فصل من فصول «التغريبة الفلسطينية» كيف أن هؤلاء المغامرين والحمقى وأصحاب «الأجندات الإقليمية» و«المراهقين» تحرشوا بإسرائيل «أزعر الحي» وكيف استحقوا ما أصابهم ، وأنهم كانوا عبئاً على «التخاذل العربي» وأزعجوا بصواريخهم وعملياتهم الفدائية حالة الصمت والغياب والهوان التي ميزت المواقف العربية ، منذ سنين طوال ، وليس الآن وفي غزة وبمناسبتها.
كل ما أورده «حكماء» فلسطين في بروتوكولاتهم الجديدة ، سبق وأن تلته أبواق إعلامية عربية رسمية معروفة على مسامعنا طوال أزيد من أربعين عاماً من الكفاح ، فلا عبقرية خاصة في اكتشاف النار أو إعادة تجريب المجرب ، وأكاد أحزم بأن تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة ، تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، هو تاريخ التصدي الشجاع لكل هذه المقولات ، هو تاريخ المقاومة الباسلة للثقافة الحزيرانية المهزومة ومركبات النقص المتأتية عنها.
من حسن حظنا أن التاريخ يكتبه المنتصرون ، وليس المهزومين ، وأنه لن يتاح لهؤلاء كتابة تاريخنا بأثر رجعي ، وإلا لفقدت أجيالنا القادمة حقها في قراءة الفصل الذي سيتحدث عن «حكومة فيشي» والناطقين باسمها في تاريخ حركة التحرر الوطني الفلسطينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق