الجمعة، 1 نوفمبر 2013

هل التقسيم أمر حتمي؟ ...سري سمّور

أثار المقال الذي كتبه روبن رايت(ROBIN WRIGHT) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أواخر شهر أيلول(سبتمبر) الماضي بعنوان:لنتخيل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط(Imagining a Remapped Middle East) لغطا واهتماما ومخاوف كثيرة، ثم ما لبث الموضوع الجديد-القديم إلا أن اختفى بعد بضعة أيام وأنا أتعمد طرح هذا الموضوع في هذه المقالة بعد حوالي شهر على تلك الضجة، ويجب أن يبقى الموضوع قيد البحث والمناقشة والعمل الدؤوب في سبيل درء هذه الكارثة...وللتذكير فإن المقال تحدث عن تـقسيم خمس دول عربية إلى أربع عشرة دولة على أسس طائفية وعرقية؛ حيث أنه بحسب المقال ستقسم سورية إلى ثلاث دويلات(علوية وكردية وسنية)، وستقسم السعودية إلى خمس دويلات(وسط وغرب وشرق وشمال وجنوب)، وستقسم ليبيا إلى دويلتين أو ثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان) أما العراق فسيقسم بين الأكراد والسنة والشيعة، وتـقسيم اليمن إلى دويلتين بإجراء استفتاء على فصل الجنوب الذي سيصبح ربما جزء من السعودية!
صحيح أننا نتحدث عن مقال منشور في صحيفة، ولكن التسريبات الأمريكية كثرت حول هذا الموضوع، كما أن النزعات الانفصالية في المنطقة العربية جرّاء الصراعات على أسس مذهبية وعرقية، فهل أصبح التقسيم أمرا حتميا، والسؤال هو:متى سيحدث؟بدلا من:هل سيحدث فعلا؟وكيف يمكن منع تنفيذ هذا المخطط، وأصر على أنه مخطط وليس مجرد هلوسات كاتب أو صحافي؟ هذا ما سأحاول مناقشته في هذه المقالة.
(1) دولة موحدة...إلى حين!
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله؛ هذه القاعدة التي حددها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- وهي كما يظهر من السياق تخص العرب أكثر من غيرهم، فالعرب كانوا يعيشون في قبائل أو في ممالك مقسمة، يتبع بعضهم الروم(الغساسنة) ويتبع بعضهم الفرس(المناذرة) ويتصارع الفرس والأحباش على اليمن السعيد(كما كان يسمى لكثرة خيراته) وعرب الحجاز ونجد يعيشون في مجتمعات قبلية؛ أغلبيتها الساحقة تعبد الأصنام، ويأكل قويها ضعيفها، وتنتشر بينهم الحروب على أمور تافهة، ولم يكن لقبائل العرب نظام سياسي جامع، وجاء الإسلام في مكة التي من ميزاتها أنها لا تخضع لروم أو فرس هي وعموم منطقة الحجاز، وأسس النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- نواة الدولة الإسلامية، التي كانت مدنية؛ فقد ضمن ميثاقها من أول يوم حقوق اليهود باعتبارهم مواطنين يدينون بدين غير الإسلام، وكما نعلم امتد سلطان هذه الدولة إلى عموم جزيرة العرب، بالحرب والسلم، ومن ثم ما لبثت أن امتدت إلى الجوار، فقضت على دولتي الروم والفرس في الشام والعراق وبلاد فارس، ومن ثم إلى مصر، واللافت أن هذا تم في سنوات قليلة نسبيا.
وفي عهد الأمويين وصل سلطان الدولة الإسلامية إلى أفريقية وإلى الأندلس(أسبانيا والبرتغال/شبه جزيرة إيبيريا) فأصبح للمسلمين دولة قوية مترامية الأطراف يحكمها رجل واحد، اصطلح على تسميته خليفة أو أميرا للمؤمنين، وله في المناطق المختلفة ولاة يأتمرون بأمره وينفذون سياسته، وللأمة في هذه الدولة جيش واحد، واقتصاد يكمل بعضه بعضا، وأخذت الأمة تحقق إنجازات في مجال العلوم والصناعات، وعاش أصحاب الديانات الأخرى في كنف هذه الدولة في ظل تسامح مشهود، وكان للعديد منهم حظوة عند الحكام.
إلا أن النظام السياسي في هذه الدولة أصيب بثلمة بعد مرحلة الخلفاء الراشدين حيث صار الحكم يقوم على التوريث والغلبة بدل الشورى، ووقعت معارك داخلية بين المسلمين بسبب ذلك، راح ضحيتها حفيد النبي وسيد شباب أهل الجنة؛ الحسين بن علي-عليهما السلام- ناهيك عن صراعات أخرى كثيرة، ولكن المميز أن المتخاصمين في تلك المرحلة لم يفكروا قط في الاستعانة بالعدو الخارجي، والذي كان وقتها مملكة الروم البيزنطيين وعاصمتها القسطنطينية بل إن معاوية حذّر وهدد ملك الروم حينما أرسل له علّه يـقبل به حليفا ضد علي-كرم الله وجهه- وأوضح له أن عليا ابن عمه وأنه إذا لزم الأمر سيتحد معه ضد ملك الروم، ولم يشذ طرف في تلك المرحلة بحيث يستعين بعدو خارجي بمن في ذلك الخوارج...ومع أن الدولة كانت موحدة قوية إلا أن الخلل في النظام السياسي واعتماده التوريث والمغالبة ساهم في إضعافها في مراحل لاحقة، وما زلنا نعاني تبعات هذا الخرق لمبدأ الشورى.
(2) العباسيون...بداية التفكك
بالغلبة أيضا تمكن العباسيون من الإطاحة بالحكم الأموي (750م،132هـ) ولكنهم عجزوا عن ضم الأندلس إلى سلطانهم فأصبح للأمة خليفة في المشرق وآخر في المغرب، ثم أخذ الضعف يتسرب إلى الدولة العباسية، وسيطر العساكر الأتراك وغيرهم على مقاليد السلطة والحكم، وبـقي الخليفة أشبه بديكور، ليس له سوى اللهو والمتعة، وانشقت أقاليم كبيرة عن جسد الدولة العباسية التي كانت عاصمتها بغداد أهم وأكبر مدن العالم في زمانها، وقامت الدولة الفاطمية التي صار لها هي الأخرى خليفة والتي تأسست في المغرب ثم استولت على مصر والشام.
والجدير بالذكر أن العنصر أو العرق العربي في الدولة الإسلامية منذ القرن العاشر الميلادي(كان يمثلها العباسيون) لم يعد له أي نوع من السلطة السياسية والعسكرية، ولكنه بقي متنفذا بحكم المال والعلم والعدد والمكانة الاجتماعية والثقافة السائدة؛ فغياب العرب كعرق وعنصر عن صنع القرار في المشرق العربي ليس جديدا كما يحاول البعض أن يروّج.
(3) الحروب الصليبية والخيانات والتتار والمماليك
في ظل هذا الوضع الإسلامي-العربي الضعيف والمنقسم كان من السهل على الحملات الصليبية القادمة من أوروبا(وليس من بيزنطة المجاورة الضعيفة نسبيا) أن تستولي على الساحل الشامي، وأن تحتل القدس وترتكب فيها المجازر وأن يبقى المسجد الأقصى اسطبلا للخيول الصليبية قرونا طويلة.
ولأن الأمة حية وليس من السهل استسلامها وخضوعها للغزو الخارجي، فقد هبّ بعض القادة للتصدي للعدوان الفرنجي، وكان من أبرزهم عماد الدين زنكي ونجله نور الدين، ومن ثم صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية، حيث تمكن هؤلاء القادة عبر حروب طويلة متواصلة من تحرير الكثير من الأراضي التي اغتصبها الفرنجة، وتمكن صلاح الدين من توحيد المدائن الشامية غير المحتلة مع مصر والحجاز وليبيا واليمن وغيرها وحقق انتصارات مبهرة أبرزها معركة حطين التي كان من نتائجها تحرير القدس.
وهنا يجب أن نتوقف عند بعض الملاحظات المهمة جدا في تلك الفترة:-
1) لم يتمكن صلاح الدين من توحيد الأمة جميعها لأنه لم يكن راغبا في القضاء على الدولة العباسية لأنه آمن برمزيتها مع إدراكه ضعفها، كما أن الأندلس أخذت تتآكل أمام ضربات البرتغاليين، وكان الضعف والفوضى والتقسيم قد أصابها مثلها مثل المشرق.
2) لم يتمكن صلاح الدين من تطهير كافة المناطق المحتلة من الممالك الصليبية لأسباب كثيرة، بل إن عكا أعاد ريتشارد قلب الأسد احتلالها وبقيت مئة سنة محتلة.
3) النظام السياسي بقي مثلوما قائما على التوريث ولا يلام صلاح الدين على ذلك لأنه اتخذ من قضية التحرير أساسا لتحركه ولو فتح هذا الموضوع لانفض الكثيرون من حوله ولكانت جهوده استنزفت بلا جدوى سواء على صعيد التحرير أو على صعيد إصلاح النظام السياسي.
4) بعكس الصراعات التي حدثت في صدر الإسلام، فإن العديد من قادة وحكام المدائن العربية تعاونوا مع الصليبيين، أو بمفهوم عصرنا كانوا عملاء لهم، ولعل هذا أهم أسباب طول بقائهم في بلادنا، مع أنهم لم يمتلكوا لا صواريخ ولا أسلحة دمار شامل، ولكن وجدوا من يتعاون معهم، ويمارس ما نسميه اليوم بالتطبيع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
5) كانت أوروبا تخضع لسلطة الكنيسة والإقطاع أي أن نظامها السياسي والاجتماعي متخلف وفاسد، ولا جاذبية فيه من أي وجه للعرب والمسلمين، ناهيك عن تخلف الفرنجة العلمي حد الظلامية، مقابل تـقدم المسلمين علميا وطبيا وثـقافيا، وهذا جعل احتلال الفرنجة لبلادنا فقط مقتصرا على الجانب العسكري، بدون وجود ما يسمى الغزو الثقافي، لأن المحتلين أصلا بلا ثقافة منافسة.
على كل وفي خضم الوجود الصليبي، وبالتزامن مع ضعف وفساد الحكم العباسي في بغداد جاءت جحافل التتار ودمرت بغداد واحتلت أجزاء من الشام، ولكن المماليك الذين خلفوا الأيوبيين أو ورثوا حكمهم تمكنوا من صد هجوم التتار وحماية بيضة الأمة، وتمكنوا من تطهير الساحل الشامي تماما من الممالك الصليبية، وانتهى وجود الفرنجة في بلادنا، بل وتمكنوا من إلحاق الهزيمة بملك فرنسا لويس التاسع الذي حاول تكرار الحملات الصليبية السابقة وسجنوه ولم يطلق سراحه إلا بدفع فدية كبيرة.
هذه الإنجازات الكبيرة والمهمة للمماليك لم تجعلهم قادة يتقبلهم المزاج الشعبي للأمة لأن صفتهم ظلت ملازمة لهم، أي أنهم مماليك، كما أنهم ظلوا عموما عسكريين بلا فكر سياسي ينهض بالأمة، ونظامهم السياسي لم يعتمد التوريث بل الغلبة، أي لا محل للشورى!
(4) الدولة العثمانية...وحدة بلا عرب!
استمر ضعف وتفرق المسلمين في الأندلس حتى أخرجوا تماما منها، وعاد للمشرق العربي تـفرقه وتمزقه واستشراء الفساد فيها، وجاء الخلاص هذه المرة من العثمانيين الأتراك، الذين توغلوا في أوروبا لدرجة تمكنهم من تحقيق حلم فتح القسطنطينية(1453م)، وضموا جنوب شرق أوروبا لسلطانهم، وكذلك أجزاء من غرب آسيا، ثم جاء تمدد العثمانيين إلى البلاد العربية فقضوا على حكم الصفويين وحكم المماليك وتسلموا الخلافة رسميا من آخر الخلفاء العباسيين، وتسلموا مفاتيح الحرمين الشريفين(1517م وما قبلها وبعدها)...وبهذا عاد المسلمون إلى حالة لم توجد منذ الأمويين يحكمهم خليفة(سلطان) واحد وتجمعهم راية واحدة، وباستثناء الأندلس فإن كل البلاد التي حكمها العرب أصبحت تحت وحدة سياسية-عسكرية لم يسبق لها مثيل.
لكن العثمانيين لم يكونوا عربا، ورفضوا أن يتعربوا بالمفهوم الثقافي واللغوي، والعرب لحالة الاستعلاء النفسي القديمة المتجذرة فيهم، رفضوا أن يحكمهم غير العرب، مع أن الرفض طابعه نفسي ولم يتخذ لقرون أي صيغة سياسية أو عسكرية، ولكن كان له أثر لاحق.
ولو أن السلطنة العثمانية جمعت حماستها الإسلامية وقوتها العسكرية مع الثقافة العربية، على اعتبار أن العربية هي اللسان وأنها لغة القرآن لتمكنت من إحداث تغييرات جذرية أوسع لا تـقتصر على الوجود العسكري والسلطوي الذي يزول بضعف الدولة عسكريا وسياسيا.
(5) استعمار متطور
وكما هي سنة الله في خلقه؛ فقد دخلت السلطنة العثمانية طور الضعف والهرم، في وقت كانت الدول الأوروبية الكبيرة تتقدم في المجال العلمي والاختراعات التي غيرت مسار الصناعة وحركة النقل، وتطور نظامها السياسي بتحجيم دور الكنيسة، والقضاء على الإقطاع والنبلاء، ومع أن بناء الدولة الأوروبية الديموقراطية أخذ أكثر من مئتي سنة من الصراعات والجدل، والنجاح تارة ثم الإخفاق والتراجع تارة أخرى، مقابل حالة ركود سادت في الجانب الإسلامي، سواء في مجال العلوم، حيث كان التعليم بدائيا للغاية، وانتشرت الأمية بين الناس، خاصة النساء، والنظام السياسي لم يتطور وبقي على حالته المعروفة.
وحين بدأت أوروبا تنهش في جسد السلطنة العثمانية، اختلفت الصورة عن غزو الفرنجة، لأن المستعمر هذه المرة لديه مخطط كامل للسيطرة على الأرض والسكان؛ وهو متفوق عسكريا وعلميا وثـقافيا...وكانت حملة نابليون على مصر والشام، قد أظهرت مدى التقدم الذي وصلت له أوروبا مقارنة مع المسلمين، وكشفت في الوقت نفسه أن الغازي الأوروبي ما زال على حالته الوحشية التي عانت منها البلاد قبل قرون، فالغازي وإن أظهر التحضر والتمدن هو قاتل سفاح سلاّب نهاب.
ولكن الاستعمار الجديد بهر بعضا من العرب والمسلمين، والذين رأوا أن أوروبا لم تتقدم إلا حينما نبذت المسيحية، وبالتالي لن نتقدم ما لم نترك الإسلام، وقد شجع المستعمر هذا التوجه، وذلك خوفا وتحسبا من النزعة الدينية لدى المسلمين، وقد جرب فاعليتها في تجييش الناس ضد الغزو عبر التاريخ، وهو قادم هذه المرة بناء على تخطيط، ومعه علماء وسبقه مستشرقون، وأدرك أن في الإسلام هو المحفز الأقوى للتصدي للغزو الغربي...وقد عمل الغرب على ترسيخ مفاهيمه عبر الإرساليات والبعثات، وأنتج أناسا مهزومين نفسيا ويشعرون بدونية دينهم وأمتهم وجرى تهيئة الظروف لهم ليمسكوا بناصية التعليم والإعلام والتوجيه...وللمرة الأولى في تاريخها تعاني الأمة وما تزال من صراع على أهمية النص المقدس ودوره في الحياة، في حين كان الصراع في القرون الماضية حول تـفسير النص وحول من هو أحق بالخلافة ومكانة شخص ما، ومنذ القرن التاسع عشر هناك صراع بين القوى الإسلامية المختلفة حول الأولويات وتـفسير النص، وبين هذه القوى والقوى التي استوردت الأفكار الغربية كالقومية والاشتراكية والليبرالية والعلمانية...إلخ.
(6) سايكس-بيكو وما قبلها وما بعدها
كثير من المتحدثين والكتبة يتحدثون عن سايكس-بيكو(1915-1916م)؛ أي الاتفاقية الموقعة بين الدبلوماسي الإنجليزي مارك سايكس، والفرنسي جورج بيكو، وروسيا القيصرية(تم كشف الاتفاقية بعد الثورة البلشفية وانسحبت روسيا منها) لتقاسم منطقة الهلال الخصيب؛ بحيث تعطى فرنسا سورية ولبنان، وتأخذ إنجلترا العراق(عدا الموصل) والخليج وتكون فلسطين تحت إدارة مشتركة تمهيدا لوعد بلفور...يتحدث الكتبة عن هذه الاتفاقية وكأنها أول الاعتداءات والمخططات لتقسيم واحتلال المنطقة العربية، ولكن لو أمعنا النظر فإن الاستعمار بل الغزو الغربي الأوروبي سبق هذه الاتفاقية بكثير، وقد بدأ بحملة نابليون، ثم احتلال الإنجليز لمصر في أواخر القرن التاسع عشر، وقبلها احتلال فرنسا للجزائر(1830م) وتوسع الاحتلال إلى المغرب ودخول إسبانيا إلى جزء منه، ولاحقا احتلال الطليان لليبيا(1911م)...وباختصار لم يبق عشية نهاية الحرب العالمية الأولى للسلطنة العثمانية سوى تركيا الحالية والجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، وتقوقعت الدولة العثمانية إلى تركيا الحالية جرّاء تلك الحرب، وانتهت العلاقة العربية-التركية بأمور محزنة منها وقوف العرب أو جزء منهم مع الحلفاء ضد العثمانيين، وقيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة واعتماد الأحرف اللاتينية بدل العربية، أما الاستعمار الأوروبي فقد امتد إلى سائر بلاد الشام والعراق والخليج.
(7) إنشاء إسرائيل
نظرا لاكتشاف عصب الصناعة الحديثة بوفرة في المنطقة أي النفط، ولوجود قناة السويس ولأسباب خاصة بوضع اليهود في أوروبا أنشأ الاستعمار فكرة الصهيونية على أساس خرافة تتلبس الدين اليهودي، وعملت بريطانيا التي احتلت فلسطين على تهيئة الأجواء وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبسبب الدعم الأوروبي الكبير والتفوق العلمي فإن اليهود تمكنوا من احتلال معظم الأرض الفلسطينية وتشريد مئات الآلاف من سكانها، وأقاموا دولة قوية مدعومة من كل القوى الكبرى بالمال والسلاح والتأييد السياسي، ولاحقا سيقبل العرب بوجود إسرائيل ويستسلمون لها رسميا، وكل ما يطالب به العرب اليوم هو انسحاب إسرائيل من 22% من مساحة فلسطين الانتدابية فقط!
والمشكلة أن النخب العربية السياسية والفكرية ليست على قناعة تامة بأن الغرب لن يسمح بتنمية سياسية في المحيط العربي بسبب إسرائيل وضمان توفقها النوعي، وبرأيي بأن أي مشروع نهضة عربي أو إسلامي لا يضع فكرة تصفية إسرائيل على سلم أولوياته سينتهي بالفشل الذريع.
(8) تحرر منقوص ودول شوهاء!
قاوم العرب الاستعمار الأوروبي وقاتلوا ببسالة للخلاص من براثنه وقدموا تضحيات كبيرة في سبيل هذا الهدف، ولهذا السبب ولأسباب أخرى انسحب الاستعمار الغربي الأوروبي من المنطقة العربية عسكريا، ولكن نفوذه السياسي والاقتصادي والأهم الثقافي بقي قائما، ورسم المستعمر الحدود بين كل دولة عربية وأخرى، وأبقى في كل منطقة تقريبا بؤرة للصراع والنزاع، ولم يتم حل هذه المشكلات التي هي من مخلفات الاستعمار حتى اللحظة.
فتحرر العرب من الاستعمار وقيام دول عربية لكل منها علم ونشيد وطني وتمثيل في الأمم المتحدة منقوص، وقد بنيت الدول العربية جميعا على أساس العقلية البوليسية الفجة، بغض النظر عن الشعارات التي ترفعها والديماغوجية التي ميزت بعض حكامها، فالعرب رسميا اختلفوا وتقاتلوا على كل شيء، بل إن حزب البعث الذي رفع شعار القومية العربية حكم قطرين عربيين مهمين هما العراق وسورية، ولكن كان الخلاف والنزاع سيد الموقف بين جناحي البعث...لكن العرب في ذروة خلافاتهم لم تتوقف اجتماعاتهم في تونس(وزراء الداخلية) وكأن كل شيء محل خلاف إلا القمع والاستبداد!
والدولة العربية القطرية لم تراعي المكونات العرقية والطائفية التي استغلها الغرب والصهاينة، ولم تتعامل معها بروح الشعار الذي يردد ولا ينفذ:دولة لكل مواطنيها، وسادت أجواء من التحريض الداخلي بين المكونات السكانية على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية أو مناطقية، وكان النظام السياسي العربي سعيدا بها لأنها تشغل الناس عنه نسبيا!
وافتقد النظام السياسي العربي إلى عقد اجتماعي سلمي، يضمن تداولا سلسا للسلطة، وحكمت البلاد العربية بالترغيب والترهيب، واصطدمت النظم السياسية بقوة بكل من عارضها أو طالب بإصلاحات ولو شكلية، وانتشر الفقر والفساد والتخلف التجمعات العربية الكبيرة، لدرجة أن عدد الأميين العرب يقدر حاليا بحوالي 70 مليونا!
وكانت التجمعات السكانية قليلة عدد السكان قد حظيت بالنفط، ولهذا سادتها حالة من الوفرة، ولكنها ظلت حتى اللحظة تعتمد على الغرب في حمايتها، ولم تمنح الوافدين المقيمين فيها منذ عشرات السنين جنسيات، بل إن بعضها يحرم بعضا من مواطنيه من الجنسية، وبحكم المال استطاعت التحكم بجزء كبير من الفضاء الإعلامي، واستمالة كثير من حكام الدول العربية الكبيرة.
ولكن التبعية السياسية(إضافة للثقافية والاقتصادية وغيرها) ظلت سمة الدول العربية، حيث انتقلت من حضن بريطانيا وفرنسا، ثم انقسمت بين واشنطن وموسكو إبان الحرب الباردة، ثم ارتمت في حضن واشنطن بعد أحداث أيلول(سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن، ولكن التبعية لم تجلب للفرد العربي نظاما سياسيا ديموقراطيا كما هو حال المتبوع، ولا منظومة حقوقية تضمن كرامة المواطن، ولا خدمات تعليم وصحة وفرص عمل، فأصبح الفرد العربي في حالة مشوهة، فهو لا يعيش ضمن قبيلة كما كان قبل 1400 سنة، ولا يعيش مثل ألمانيا بعد مشروع مارشال، بل هو في حالة أعلى بقليل من الحكم القبلي والعشائري وأدنى بكثير من المفهوم العصري للدولة والمؤسسات!
(9) ثورات عربية...فتش عن إسرائيل!
أمريكا انتهجت العنف والضربات الاستباقية إبان حكم بوش الصغير؛ فاحتلت العراق، ومع أن قواتها انسحبت إلا أن العراق انتقل إلى مرحلة ما قبل الدولة، وأصبح هذا البلد الغني بالنفط والمياه، والذي يعتبر من أكبر بلاد العالم الثالث من حيث وجود الكفاءات البشرية جحيما تتناهشه الصراعات الطائفية والعرقية، وشماله واقعيا منفصل أما وسطه وجنوبه ففي الطريق نحو التقسيم!
وكان من الطبيعي ألا يطول صبر الناس على القهر والاستبداد والفساد، فاندلعت الثورات العربية التي أشعل شرارتها محمد البوعزيزي في تونس التي حكمها نظام بوليسي عماده بضع عائلات، وامتدت الثورة إلى غير بلد، ومع أن التحليل الذي يقول أن الثورات كانت مؤامرة لتقسيم المنطقة العربية من جديد، يأخذ شعبية متزايدة، فإنني لا أميل إلى هذا الرأي؛ بل أرى أن الغرب في البداية فوجئ من هذا الطوفان الثوري، ومع مرور الزمن، ولأن الفرد العربي حكمته أنظمة استبدادية أثرت على عقله وفكره تمكن الغرب من احتواء الحراك ولو مؤقتا، وامتصاص الثورات وتغيير مساراتها، وزرع الفتنة على أساس حزبي أو طائفي أو عرقي في معظم البلاد العربية.
والسؤال هو لماذا يقوم الغرب بذلك؟هل فقط من أجل النفط؟أم هل هو الحقد التاريخي والخوف من دولة عربية متطورة؟الإجابة الأقرب على الأسئلة المطروحة أن السبب بالدرجة الأولى وجود إسرائيل وضرورة بقائها قوية آمنة من وجود أي دولة عربية تحفظ كرامة مواطنيها وتعتمد على نفسها، وكان خطأ التفكير لدى كثير من الثوار العرب ومن آزرهم من المفكرين الإسراف في تأجيل طرح القضية الفلسطينية خوفا من استفزاز الغرب، وتحسبا لاستغلال النظم المهتزة لهذه المسالة بحيث تطرح نفسها وفق معادلة:أنا أخدم إسرائيل أكثر ممن لا تعرفون طريقة حكمه!
إسرائيل هي المشكلة بل هي المصيبة، وما دامت إسرائيل قائمة فلن تنطلق عجلة التغيير في بلاد العرب، وستبقى متعثرة، وستجد الأفكار القائمة على النزاع الطائفي بيئة خصبة، ومن يفكر أنه يمكن إرضاء الغرب بحيث يسمح بوجود دولة مدنية مستقرة مؤسساتية في أي بلد عربي وإسرائيل موجودة فهو واهم إلى حد كبير!
(10) كيف نمنع التقسيم الجديد؟
صحيح أن خريطة المنطقة العربية رسمها قلم الاستعمار، وصحيح أن هذه الخريطة ليست التي كانت موجودة قبل مئتي سنة، ولكن تقسيم المقسم وتجزئة المجزّأ كارثة، ومقال روبن رايت لم يأت من فراغ، والتعامل مع الأمر بمنطق الشعارات الرنانة والكلمات العاطفية خطأ، والخطأ الأكبر الاستسلام والسلبية والانتظار، خاصة أننا أمام مخطط يجري تنفيذه فعلا على أرض الواقع، فقد فصل جنوب السودان عن شماله(جمال عبد الناصر فصل السودان عن مصر سابـقا) ودارفور وكردفان تنتظران مصيرا مشابها، كما أن وضع اليمن صعب، ووضع العراق وليبيا ومصر وغيرها لا يسر، وعليه فإن التقسيم سيصبح أمرا حتميا وكل دولة سيأتيها دورها، ما لم تكن هناك إجراءات عملية، وأنا في الاستعراض التاريخي المطول سابقا قصدت أن نتعلم وأن ندرك مواطن الضعف والقوة، ومع أن الأمر يحتاج جهدا جماعيا، إلا أنني أضع مقترحات في نقاط محددة ستساهم بعون الله في إفشال هذا المخطط الكارثي ألا وهي:-
1) بما أن إسرائيل هي سبب الرغبات التقسيمية الرئيس فيجب التركيز على القضية الفلسطينية وجعلها أولوية تتقدم غيرها من القضايا، ولا أتحدث هنا عن الوقوع في خدعة نظم سياسية تزعم أنها مع فلسطين لتواصل تسلطها؛ بل عن إجراءات وخطوات فعلية على الأرض تجاه فلسطين، ولا بأس من التسامح مع أي نظام قديم أو جديد وفق تعاطيه مع القضية الفلسطينية بإيجابية، وهنا فإن مسئولية تاريخية تقع على عاتق حزب الله وحركة حماس؛ فعلى الحزب الانسحاب بصخب أو بهدوء من تدخله في الصراع الدائر في سورية، وعودته إلى المقاومة، ولو تحت عنوان تحرير مزارع شبعا، وعلى حماس النأي بنفسها عن التأييد لإخوان مصر أو غيرهم والانشغال بفلسطين فقط، وإبرام صفقة مع العسكر في مصر على هذا الأساس، ومع أن هذا يبدو شبه مستحيل ولكن لو انعقدت النية فإنه ممكن، وقد تطرقت إلى صلاح الدين وكيف انه جعل قضيته الأولى هي التحرير، أما من لا يفهم من سيرة الرجل إلا أنه قضى على الدولة الفاطمية لأسباب مذهبية أن يتعمق أكثر في دراسة الحروب الصليبية.
2) التفاهم مع كل الطوائف والعرقيات بصراحة ولنا في تركيا خير مثال بتفاهمها مع أكرادها؛ فيجب ألا نغض الطرف عن أكثرية شيعية تحتاج حقوقا في البحرين، وسنة عرب هضمت حكومة المالكي حقوقهم السياسية والاقتصادية، وأكراد من حقهم العيش ضمن دولة تضمن لهم حقوقهم وتحافظ على ثقافتهم ولغتهم، ولكن دون الانـفصال بالاستعانة والاستقواء بالأجانب، والتفاهم يجب أن تبادر له نخب من علماء الدين والمفكرين، وأن يباركه الساسة.
3) وبما أن اللعب صار مكشوفا يجب إرسال تهديدات صريحة إلى الغرب بان مصالحه كلها لن تكون في أمان إذا أصر على تنفيذ مخطط التقسيم بتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية، وحتى لو كان الثمن تهمة الإرهاب السخيفة.
4) وقف التحريض والتهييج الطائفي والذي يمارسه بعض المشايخ من السنة والشيعة وتدعمه فضائيات عربية ومواقع إنترنت وأقترح إنشاء فريق هكرز عربي مهمته إغلاق أي موقع تحريض طائفي سواء أكان سنيا أو شيعيا، ويجب كتابة ميثاق شرف سني-شيعي يلتزم ببنوده الجميع، وعلى الطرفين نسيان حلم أن ينهي الواحد منهما الآخر أو أن يظن أنه يمكن في زماننا التعامل بمنطق فرعون:وإنا فوقهم قاهرون، فهذا حلم دونه خرط القتاد سواء للسنة أو للشيعة.
5) أعلم أن أزمة سورية معضلة كبيرة وليس في الأفق ثمة أمل بحسم الصراع عسكريا أو بتفاهم سياسي، ولكن ينبغي إرساء قاعدة للحل يشترك فيها الجميع وخاصة الطائفة العلوية في سورية.
6) الضغط على دول الخليج لإلغاء نظام الكفيل، واستبداله بنظام إقامة متطور و سن قانون تجنيس.
7) إيران وتركيا دولتان إقليميتان مهمتان في المنطقة ويمكن للعرب التفاهم معهما على أساس التساوي بدل منطق المفاضلة العبثي الذي ينم عن مراهقة سياسية يمارسها البعض، بغض النظر عن الملاحظات والتحفظات على دور كل منهما، فهما تبقيان جزء أصيلا من المنطقة، بعكس إسرائيل التي يسعى العرب رسميا لرضاها.
8) محاربة الخلافات وإنهاء النزاعات والبدء بكل أسرة وعائلة وحي سكني، فالأساس لدينا فيه خلل، وهذا الأمر يتطلب تـفعيل دور كل من قد يسهم في تطييب الخواطر.
9) في لقاء على فضائية الجزيرة تحدث مؤرخ ليبي عن رغبة في جعل الليبيين خلال عشرين سنة أقلية في هذا البلد شاسع المساحة، وأرى أن فكرة الرجل قد آن أوان تطبيقها، فليعمل الجميع على ملء البلاد الشاسعة بسكان من مختلف المناطق، فالتزاوج والاختلاط في تجمعات مدنية كفيل بنزع المشاعر الانفصالية والفكر القبلي الجهوي.
10) نشر ثـقافة القراءة والاطلاع لأن الجهلة هم الذين يبقون في إطار العشيرة والطائفة والتقوقع السلبي، وتقديم المحفزات المادية للإنتاج الأدبي والفكري خاصة الذي يحض على التماسك والتوحد والعمل على إنتاج أغان وأعمال درامية تحذر من كارثة التقسيم والانفصال على أي أساس كان.
التقسيم ليس قدرا محتوما، وهو يبقى في إطار التخطيط البشري، وهو قابل للفشل الذريع لو أنه جوبه بمخطط مضاد، وهذا يتطلب جهدا من كل فرد ولا يستهينن أحد أنه قد يسهم في وقف المخطط الكارثي...هذا وإلا فإن ما كتبه روبن رايت سيتحول واقعا نبكيه ونندب حظنا عليه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق