أيضًا وكأن هذا السؤال يفترض أننا بدعة في التاريخ الإنساني! فهل كان بإمكان أي مقاومة في التاريخ أن تنطلق أساسًا فضلاً عن تحقيقها أهدافها لو أنها أخذت بعين الاعتبار كل رأي معترض عليها أو رافض لأن يشاركها الواجب النضالي من خلال دفع الثمن؟ هل هذا ممكن أساسًا؟! ما هو دور المجتمع وأفراده في التخلص من الاحتلال؟ وهل نحن الشعب الوحيد الذي يدفع أفراده ثمن مقاومته للاحتلال؟!
الإشكال الثاني في هذا السؤال، أنه خاطئ من أساسه بنسبة معتبرة، ولعله مستدعى من الحالة اللبنانية المختلفة تمامًا عن الحالة الفلسطينية، وكأن الأفكار المعادية للمقاومة قابلة للاستيراد مهما اختلفت الظروف والسياقات! أو مؤسس على مقدمات مختزلة وقاصرة تتمثل في انفراد حماس في حكم قطاع غزة، مع أن هذا الانفراد في الحكم لم ينعكس على المقاومة التي تتعدد فصائلها ولا تنفرد بها حماس.
وتحميل حماس المسؤولية عن شركائها في المقاومة يقتضي أن تهمين حماس على هؤلاء الشركاء ما يجعلها في النتيجة متفردة بقرار المقاومة بما يتعارض مع أصل السؤال! وقد حصل فعلاً وأن خاضت بعض فصائل المقاومة مواجهات مسلحة مع الاحتلال دون اشتراك حركة حماس فيها، وقد كانت النتيجة دائمًا تحميل الاحتلال حماس المسؤولية عن كل ما في القطاع أو ما ينطلق منه، فهذا السؤال بوجه ما مشترك مع الاحتلال، فما المسؤولية الواجبة تجاه ذلك؟ مشاركة الاحتلال مقولاته وذرائعه، أم تفنيدها وتطوير نضالاتنا؟!
وإذا كانت فصائل المقاومة مطالبة بمزيد من التنسيق والتنظيم في المجالين السياسي والميداني بما لا يلغي بالضرورة تعدديتها، فإن الإشكال الثالث في هذا السؤال أنه لا يحدد مسؤوليات القوى الأخرى التي لا تمارس المقاومة أو لا تؤمن بها، بمعنى أنه يحمل المقاومة المسؤولية تجاه المجتمع وتجاه المختلف مع المقاومة ويخلي الآخرين من مسؤولياتهم تجاه حقيقة موجودة وهي المقاومة، كما أنه وإذ يتحدث باسم المجتمع وما يدفعه من أثمان نتيجة المقاومة، فإنه لا يحدد مسؤوليات المجتمع في النضال والبدائل النضالية التي يمكنه أن يوجدها عن المقاومة المسلحة وآليات تنفيذها أو آليات إشراكه في قرار المقاومة، مع أن مسؤولية النضال هي مسؤولية المجتمع أولاً وأخيرًا، والاحتلال لا يقع على الفصائل فقط بل على هذا المجتمع، والفصائل ليست منفكة عن هذا المجتمع، فالمقاتلون لهم عوائلهم وأسرهم وبيوتهم ومصالحهم التي تتعرض للقصف والقتل والتدمير، والفصائل المقاتلة لها أجهزة مدنية يتعرض كوادرها للاستهداف، والمقاتلون لا ينتظمون في جيش نظامي يتبع دولة، لنتحدث عن فصل بين المقاتل والمجتمع، بل هم نتاج المجتمع الذي يتبرع بهم، وبالتالي ما معنى الحديث عن اشتراك المجتمع في دفعه ثمن المقاومة التي لا يشترك في قرارها؟
يقيس هذا السؤال انفراد حماس في الحكم بقطاع غزة على وظائف وواجبات وإمكانات الدولة تجاه مجتمعها، وهو قياس خاطئ يقوم على فرضية خاطئة، لكن العجيب أن تتولد هذه الفرضيات لدى من يؤكد ويلح دائمًا على أن السلطة في قطاع غزة ليست دولة ناجزة وإنما هي سلطة واقعة تحت الاحتلال بقدر ما، وهذا صحيح، ولذلك وجدت في القطاع مقاومة، والذي وإن فرغ من الوجود الاحتلالي المباشر داخله، فإنه جزء من الوطن، ويتحمل مسؤوليته تجاه بقية الوطن التي بقيت خاضعة للوجود الاحتلالي المباشر.
ومع أن الحديث عن انفراد حماس في الحكم يحمّل الحركة فوق ما ينبغي أن تتحمله من مسؤوليات بسبب إغفاله السياقات التي أدت إلى هذه النتيجة، ويفترض في المقاومة واجبات لا تقتضيها إلا الأوضاع الدولاتية، فإن ثمة إسقاطًا للظروف القاسية التي تحدّ من ممكنات المقاومة في غزة تجاه المجتمع أو حتى على الصعيد القتالي، من حيث المساحة الجغرافية الصغيرة للقطاع، والكثافة السكانية العالية، والحصار المطبق، وانعدام الظهير، وتحالف الجغرافيا السياسية مع العدو، والافتقار إلى نقطة ارتكاز تنطلق منها المقاومة وتعود إليها، والتضاريس المكشوفة، وإذن فإن أي مطالبة للمقاومة بتطوير قدراتها سواء في الاتجاه القتالي أو في واجباتها تجاه المجتمع ينبغي أن يأخذ كامل الظروف في عين الاعتبار، وإلا لتحول النقد إلى محض انتقاص، ولا يكفي ذكر هذه الظروف دون ظهور فاعليتها في العملية النقدية، كما أن البعض يحصي هذه الظروف للوصول إلى نتيجة مغايرة رافضة للمقاومة من الأساس بحجة ضيق الظروف المساعدة.
وأخيرًا فإن هذا السؤال ينتهي إلى تحميل حماس مسؤولية العدوان على القطاع، أو في أحسن الأحوال جعلها شريكة مع العدو في حربه على القطاع، ويعجز عن رؤيتها كجرء من المجتمع الذي يتعرض للعدوان، وكأن الحديث يجري عن مقاتلين آليين مبرمجين على افتعال الحروب ومجردين من الشعور الإنساني، فلا عائلات ولا أطفال ولا ممتلكات لعشرات آلاف العناصر المنتسبين لحركة حماس من مقاتلين وغير مقاتلين.. وإذن فهل ثمة شيء سوى رفض المقاومة غاية تستتر خلف قناع النقد، إن لم يكن واضحًا أن هدف النقد تطوير المقاومة لا رفضها من أساسها؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق