أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".
بعيداً عن الجانب الهزلي والانفعالي، تبدو ظاهرة "المتصهينين" العرب في حاجة للفهم والتفكيك والتحليل. فالأمر يتجاوز مسألة "الكيد" السياسي، والخلاف الإيديولوجي مع المقاومة الفلسطينية، كي يصل إلى حالة من "التحول" الاستراتيجي في توجهات النخبة العربية، وأفكارها وثوابتها، وصلت إلى حد الدفاع عن الكيان الصهيوني، وإدانة المقاومة الفلسطينية.
تيار "المتصهينين" العرب هو الثمرة العطنة التي أنتجها مسار "أوسلو" الذي بدأ قبل عقدين، وكان يهدف، بالأساس، إلى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، والاعتراف بإسرائيل مقابل لا شيء. وهو المسار الذي تبنته بعض الحكومات العربية، وسعت إلى تسويقه وترويجه رسمياً وشعبياً، واعتمدت، في ذلك، على آليتين: أولاهما دبلوماسية، من خلال تقوية علاقاتها منفردة بإسرائيل، سواء بفتح سفارات أو قنصليات ومكاتب تجارية مع الكيان الصهيوني. وثانيتهما ثقافية وإعلامية، بتشجيع بعض مثقفيها ونخبتها لترويج فكرة التطبيع مع إسرائيل، وقبول التعايش معها قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين. وهو ما حدث، بالفعل، حيث بدأ بعض المثقفين العرب، خاصة المصريين، في زيارة تل أبيب، والتقاء مسؤولين إسرائيليين رسميين وغير رسميين.
ويمكن القول إن تيار "المتصهينين العرب" مر بثلاث مراحل أساسية، طوال العقدين الماضيين، أولها مرحلة "كوبنهاغن"، التي بدأت مع عقد مؤتمر كوبنهاغن الذي ضم أكثر من ستين شخصية إسرائيلية، ومثلها من الجانبين المصري والعربي وعقد يومي 29 و30 يناير/كانون الثاني عام 1997، في العاصمة الدانماركية، تحت رعاية الاتحاد الأوروبي والحكومة الدانماركية. وقد أثار المؤتمر لغطاً كبيراً في الأوساط العربية، آنذاك، ورآه كثيرون "نكوصاً" وارتداداً عن الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل. كان ذلك المؤتمر بمثابة أول رصاصة تطلقها إسرائيل فى جدار المقاطعة الشعبية العربية. وكما هو متوقع، وظفت تل أبيب المؤتمر إعلامياً وسياسياً من أجل كسر حاجز العزلة العربية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت "جماعة كوبنهاغن" بمثابة رأس الحربة لتيار عربي، يزداد حضوراً وتأثيراً في أوساط النخبة، وظيفته الأساسية ترويج مسألة التطبيع مع إسرائيل، ونبذ المقاومة الفلسطينية، ودعم عملية السلام، وإن لم تحقق شيئا.
لذا، تلا مؤتمر كوبنهاجن زيارات ولقاءات بين مسؤوليين إسرائيليين ومثقفين مصريين وعرب. بل وحدثت لقاءات بين رجال دين إسرائيليين وبعض رجال الأزهر، كان أشهرها لقاء شيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي مع السفير الإسرائيلي في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 1997، ثم لقاؤه مع كبير حاخامات الطائفة الأشكنازية الإسرائيلية في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه. وكان الهدف الأساسي من الزيارة الضغط على شيخ الأزهر، من أجل إدانة أعمال المقاومة الفلسطينية وإصدار فتوى بشأن ذلك. وقد دافع شيخ الأزهر عن لقاءاته الحاخامات الإسرائيليين بعد أن انتقده بعض رموز المقاطعة الشعبية لإسرائيل. وعلى الرغم من جمود مسار "أوسلو"، ووصول عملية السلام إلى حائط مسدود، طوال العقد الماضي، فقد تحولت جماعة "كوبنهاجن" من مجموعة أفراد إلى "تيار" يضم مثقفين وإعلاميين وأدباء ورجال دين، لا يدافع فقط عن منهج "السلام المجاني" مع إسرائيل، وإنما يدين المقاومة الفلسطينية ويشجبها، وينتقد كل عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي.
المرحلة الثانية لتطور تيار "المتصهينين العرب" حدثت، قبل حوالي عقد، وتحديداً بعد وصول حركة حماس إلى السلطة عام 2006. فقد كان ذلك بمثابة نقطة تحول لم تأت على هوى هؤلاء المتصهينين الذين كانوا يراهنون على سقوط خيار المقاومة. لذا، لم يكن غريباً أن ينتقد هؤلاء الانتفاضة الثانية التي بدأت في سبتمبر/أيلول 2000، واعتبروها غير ذات جدوى. وفي كل مرة كانت تحدث فيها مواجهة مع العدو الإسرائيلي، كان كثيرون من هؤلاء ينبرون لانتقاد المقاومة، وتسفيه عملياتها، باعتبارها لا تنجز شيئا. ما بدا بوضوح خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وعلى غزة عامي 2008 و2012. ولذا، كان منطقياً أن ينتفض هؤلاء بعد صمود المقاومة وأدائها العسكري النوعي الذي أحيا فكرة المقاومة من جديد، ودفع بالقضية الفلسطينية مجدداً إلى مركز الاهتمامين العربي والعالمي.
الآن وصلنا إلى المرحلة الثالثة في تطور خطاب "المتصهينين العرب"، وهي مرحلة "الجهر بالسوء من القول"، والتي لا ينتقد فيها هؤلاء المقاومة فحسب، وإنما أيضا يدافعون عن إسرائيل، ويتبنون خطابها نفسه تجاه المقاومة الفلسطينية، باعتبارها إرهاباً يجب القضاء عليه، فى حين يجهر بعضهم بضرورة نزع سلاح المقاومة دون استحياء. وعلى عكس ما كان يحدث فى الماضي حين كان هؤلاء يعبرون عن مواقفهم على استحياء، فقد باتوا، الآن، أكثر جرأة وسفوراً في التعبير عن أفكارهم وانحيازاتهم. ولعل مصدر القلق أن هؤلاء المتصهينين الجدد نجحوا في بث سموم خطابهم ومنطقهم وأفكارهم بين قطاعات شعبية لا بأس بها، مستفيدين، في ذلك، من حالة النكوص التي يعيشها "الربيع العربي" وعملية خلط الأوراق التي تجري بين المقاومة المشروعة والارهاب من جهة، وبين سيطرتهم ومن يدعمونهم على وسائل الإعلام من جهة أخرى.
كشفت الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة، أن ظاهرة "المتصهينين العرب" ليست أمراً مفاجئاً، أو مؤقتاً، سوف ينتهي عندما تضع الحرب أوزارها، وإنما هي تيار ينمو ويترعرع بين ظهرانينا، ويزداد قوة وحضوراً وتأثيراً، وهو ما يتطلب عدم الاستخفاف به، أو مواجهته برعونة وانفعال. وإذا مددنا الخط على استقامته، سوف يتضح لنا أن هذا التيار هو نتيجة لعملية ممنهجة ومنظمة، تجري رعايتها وحمايتها من أطراف عديدة (رسمية وغير رسمية)، هدفها الأساسي تزييف الوعي، وقلب الحقائق، وإنهاء الصراع مع إسرائيل شعبياً، بعد أن انتهى رسمياً. وما لم تتم مواجهة هذا التيار بشكل منهجي ومنظم وواع، فلربما يأتي اليوم الذي يطالب فيه هؤلاء الشباب العرب بالتطوع في الجيش الإسرائيلي، باعتباره "جيش الله المختار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق