قبل يومين استوقفتني في "خان يونس" زفة عروسين؛ أنخت سيارتي جانباً، وأطلتُ التأمل في موكب العرس، طبولٌ، ومزاميرٌ، وشبابٌ يتراقص في عيونهم الفرح، وأبواق سيارات تنادي بالحياة، لقد دق قلبي بالأمل؛ أين الطائرات الإسرائيلية، وأين الزوارق البحرية، وأين الدبابات، وأين الجيش الصهيوني ووحداته المختارة؟ فما زلنا في غزة أحياء، ونلبس ثياب الأماني، وما زال في قلوبنا متسع لموجة الرجاء، وما زلنا قادرين على توديع الدمعة، والتخلص منها، لقد هزني المشهد الذي طالما انتقدته، ولم يرق لي سابقاً، وكنت أحسبه مظهر خلاعة، وفجور، وبهرجة لا داعي لها، ولكن في ظل الحصار، وبعد الحرب على غزة، فهمت أن هذا شكل من أشكال التعبير الوجداني عن إرادة الحياة التي تواجه سطوة الموت، وهو تعبير عن ذروة التحدي لشعب يرفض أن ينحني، وأن ينزوي في آخر ركن من فلسطين ينتظر سكين الجزار، وقسوة الحصار، لقد فهمت زفة العروسين بأنها التأكيد على نهاية زمن الانفلات، وبداية زمن الاستقرار، وأنا استرجع تجربتي في السجن عندما كان السجناء خلف القضبان يصنعون الضحكة، ويخلقون معالم الحياة أمام عين السجان.
لقد شجعت حركة حماس ثور الحزن على الانفلات وهي تقدم ثلاثة آلاف دولار لكل شاب يتقدم إلى الزواج من أرملة شهيد، في خطوة أحسبها تفيض إنسانية، ولا تخدم العروسين فحسب، وإنما ترمُّ عظم المجتمع، وتكسر الحصار الداخلي، والفهم المغلوط الذي تفرضه بعض العادات الفلسطينية، التي ترى بالأرملة، أو المطلقة درجة ثانية من النساء. لقد أقدم الخليفة عبد الملك بن مروان على الزواج من هند بنت المهلب، بعد أن طلقها الحجاج بن يوسف الثقفي، ولم ينقص من مكانتها أنها كانت تحت عامله، بل ردت على الخليفة قائلة: لقد نقض وضوئي كلبٌ فلست بطاهرة، وباقي القصة معروف، والشاهد؛ أن هنداً اشترطت على الخليفة أن يقود هودجها إلى قصره الحجاج نفسه، وكانت قد قالت عنه وعنها:
وما هندُ إلا مهرةٌ عربيـةٌ ســـليلةُ أفراسٍ تحللها بغلُ
فإن ولدت فحلاً فلله درها وإن ولدت بغلاً، فجاء به البغلُ
إن في الزواج من أرملة، أو مطلقة لهو انفلات من حصار العادة، وسوء الفهم لمشاعر المرأة التي لا يعيبها تجرؤها على الواقع، ورفضها الصمت على ثقل علاقة زوجية ممجوجة، فآثرت الخلاص العلني من زواج الخنوع، وهي تمسح من عينيها الدموع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق