الثلاثاء، 28 أبريل 2009
حماس.. مراجعات سياسية وعسكرية ....بقلم: مؤمن بسيسو
لم تكن حركة حماس –على مدار تاريخها الحافل- أشدّ حاجة وأكثر إلحاحا إلى إجراء مراجعات تقييمية لأدائها السياسي والعسكري كما هو الحال اليوم.
فالحركة التي خرجت لتوّها من جحيم حرب إسرائيلية استهدفت استئصالها وإجهاض سلطتها وضرب قدراتها، والتي تجاذبتها حوارات فصائلية ماراثونية برعاية مصرية إبان الأسابيع الأخيرة تقف اليوم على مفترق طرق بالغ الأهمية والحساسية تؤسس اتجاهاته لخيارات متناقضة وسيناريوهات متضاربة، وتواجه تحديات ثقيلة على مختلف الأصعدة والمستويات، ما يفرض عليها إبداء وقفة مسؤولة تراجع فيها -بجدية مطلقة وتفكير عميق- خياراتها وسياساتها وسلوكياتها السياسية والعسكرية.
مراجعات سياسية
إن أي مراجعة سياسية حقيقية تبتدرها حماس ينبغي أن تراعي جملة الحقائق الموضوعية التي يكرسها الواقع المعاش، وتفطن للحقائق الواضحة التي تحكم محددات السياسة الراهنة، محليا وإقليميا ودوليا.
أولى هذه الحقائق أن القضية الفلسطينية لم يرتكس حضورها يوما كما الارتكاسة الراهنة، وأن الحال الفلسطيني قد بلغ أسوأ مراحله انحدارا وانقساما وانفصالا، وأن العلاقات الوطنية لم تكن أكثر تدهورا مثلما هو الحال اليوم.
ثانية تلك الحقائق أن إعادة الإعمار تشكل أحد أهم التحديات المرحلية لحكومة حماس، وأن مفتاحها يكمن في تشكيل حكومة فلسطينية جديدة ذات قبول دولي.
ثالثة تلك الحقائق أن الحصار السياسي والاقتصادي والجغرافي المضروب لا زال على أشدّه، وليست هناك أي إرهاصات حقيقية لتفكيكه في المدى المنظور أو المتوسط إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه، وأن الزيارات واللقاءات والجولات التي يعرّج فيها مسؤولون ونواب أميركيون وأوروبيون إلى غزة أو دمشق لا تعدو كونها فعاليات ذات طابع استكشافي لسياسات ومواقف حماس، وطبيعة الأمور على أرض الواقع، أو محاولات استدراج متصاعدة لجهة صوغ مقاربات سياسية تقترب من مربعات الغرب وشروط "الرباعية"، ولا يمكن التعويل عليها بأي حال من الأحوال.
رابعة تلك الحقائق أن التيار المسيطر على حركة فتح ومنظمة التحرير ليس في وارد النزول عن شجرة السياسات والمواقف المعروفة التي تتشبث باتفاقات أوسلو وتوابعها والتزاماتها الأمنية إلى ما لا نهاية، وأنه يحاول -بكل وسيلة- جرّ حماس إلى مربعه السياسي، ما يؤشر إلى انسداد الأفق تماما أمام صياغة برنامج سياسي وحدوي فلسطيني مشترك متحرر من شروط "الرباعية" وقيودها المجحفة.
خامسة تلك الحقائق أن حركة فتح والقوى الإقليمية والدولية لا تبتغي من وراء حوار القاهرة سوى تشكيل حكومة فلسطينية جديدة وفق المقاسات الدولية، دون طرق أو علاج أي من القضايا الشائكة الأخرى.
سادسة تلك الحقائق أن وجود حماس في الحكم وسيطرتها على غزة قد منح إسرائيل الشرعية لشن حرب ضدها، وأن الظروف التي أنتجت الحرب الأخيرة مرشحة لإنتاج حرب أخرى حال بقاء حكم حماس مستقبلا في ظل انعدام فرص التوصل إلى تهدئة مع الاحتلال.
سابعة تلك الحقائق أن البناء الحركي والتطور المؤسسي الذي أنجزته حماس طيلة الأعوام الماضية، يبقى عرضة -بشكل أو بآخر- لخطر التبديد والاستهداف المباشر إسرائيليا مع أي حرب إسرائيلية جديدة.
ثامنة تلك الحقائق أن وجود حماس في الحكم وهيمنتها على الحكومة بعد الانتخابات التشريعية وما تلا ذلك من "حسم عسكري"، قد كلّف الحركة الكثير، سياسيا واقتصاديا وميدانيا وتنظيميا، وشغلها عن بعض المهام والأولويات التي يفترض أن تبقى في صدارة أجندة اهتمامات الحركة على الدوام، خاصة قضيتي المقاومة والشأن التنظيمي الداخلي، لصالح منح الأولوية والاهتمام لشؤون الحكم والسياسة.
إن كل هذه الحقائق تحتّم على حماس إعادة النظر في خياراتها وتكتيكاتها السياسية، وتحري الخيار الأصوب والأكثر مواءمة مع حقائق السياسة والواقع، وإبداء مرونة ذات مدى أوسع سياسيا، تطول التكتيكات والفرعيات لا الإستراتيجيات والكليات.
وقد يكون في قبول حكومة من المستقلين على أساس البرنامج السياسي لاتفاق مكة كأحد الخيارات المقبولة دوليا، الخيار الأصح لهذه المرحلة التي تعج بالمطبّات والألغام والتحديات، فهو -من جهة- يستجيب تماما للتحديات السياسية: الخارجية والداخلية، وتحدي إعادة الإعمار، فضلا عن كونه يحافظ على برنامج حماس السياسي، ويحجزه عن أي شكل من أشكال الخدش أو الانثلام من جهة أخرى.
إن أي مخاوف لدى حماس بشأن التعاطي مع "حكومة مستقلين" ذات مهام محددة قد لا تكون مبررة، انطلاقا من أن:
- حماس لا تستمد فاعلية دورها السياسي والوطني من قيادتها أو وجودها داخل الحكومة، بقدر ما تستمده من خدمة شعبها وتبنيها لهمومه وآلامه، ومدى التصاقها مع قضيته الوطنية ومشروعه المقاوم.
- قدرة الحركة على ترشيح وزراء مستقلين يخدمون برنامجها السياسي ورؤيتها الوطنية.
- أن الحكومة المطروحة لا يمكن أن تحظى بأكثر من دور سياسي واقتصادي، بعيدا عن أي دور أمني مركزي، في ظل تبعية الأجهزة الأمنية المعروفة لكل من فتح وحماس في الضفة والقطاع.
- أن الدور السياسي المناط بالحكومة لن يشذّ عن الخط التوافقي المرسوم، كونها تشكل مزيجا غير متجانس سياسيا، انطلاقا من تبعية أو ميل عناصرها –وإن كانوا مستقلين- لرؤى ومواقف القوى والفصائل التي تولت ترشيحهم.
- أن الخشية من استثمار أبو مازن لحالة التوافق السائدة لجهة التفرد بإبرام اتفاق نهائي مع الإسرائيليين، هي خشية ليس لها ما يبررها في ظل مواقف وسياسات الحكومة الإسرائيلية الراهنة.
ومن هنا فإن تشكيل "حكومة مستقلين" وفق المهام المتفق عليها، يضخّ دفقة أمل جديدة في أوصال القضية الفلسطينية، ويُعفي حماس من تبعات وتكاليف الحكم الباهظة، سياسيا وماليا واقتصاديا، ويحررها من مسؤولية الالتزام والمساءلة المباشرة أمام الجماهير في ظل الكارثة الاقتصادية المعاشة، ويقطع العديد من الذرائع التي تبرر تجدد العدوان الإسرائيلي بأشكاله الواسعة المنفلتة، ويمنح الحركة فرصة التفرغ لإعادة بناء وترميم وتدعيم بناها ومؤسساتها الحركية والتنظيمية والاجتماعية، ويهبها آفاقا أرحب نحو تفكير أدق وأصوب حيال المشروع المقاوم، وسبل صيانته وتنميته وإرساء قواعده ونشر أشرعته وفق رؤى تجديدية وتطويرية تتم بلورتها في ظل التحديات التي تعصف بالوضع الفلسطيني قاطبة.
مراجعات عسكرية
لا يمكن تبيان خطورة هذا المحور وآثاره البالغة في تقرير مسار المواجهة وطبيعة العلاقة مع الاحتلال، بمعزل عن فهم واستقراء واقع المعركة العسكرية التي دارت رحاها بين حماس وإسرائيل إبان الحرب الأخيرة على غزة.
فقد كشفت الحرب العديد من الثغرات وأشكال الخلل في إطار خطة وإستراتيجية المواجهة العسكرية التي رسمتها كتائب القسام الجناح المسلح لحماس رغم البلاء الحسن الذي أبدته في تصديها لجحافل القوات الإسرائيلية الغازية، المدججة بكل أنواع الأسلحة، والمعززة بآخر التقنيات والابتكارات التكنولوجية.
ابتداء، لا يمكن إنكار الجهد الهائل الذي بذلته حماس لتطوير قدراتها وأدواتها وبنيتها العسكرية والتسليحية، والقفزات النوعية التي تم بلوغها في إطار العمل المقاوم أثناء انتفاضة الأقصى وحتى اليوم، لكن إمكانات وقدرات حماس التي توفر لها فرصة المناوشة والاستنزاف والتصدي للاجتياحات المحدودة أو المتوسطة شيء، ومواجهة جيش جرار ذي ترسانة حربية هائلة يبغي السحق والإبادة والاستئصال شيء آخر تماما.
ولعل نظرة فاحصة لأداء حماس العسكري -على الصعيد الإيجابي- أثناء الحرب تقودنا إلى العرض التالي:
- أن حماس أفادت كثيرا من تأخر تنفيذ العملية البرية لجهة امتصاص الصدمة التي ولدتها المفاجأة الحاصلة بطبيعة وحجم وتوقيت الحرب، وإبداء أكبر قدر ممكن من التهيئة والاستعداد للنزال والمواجهة.
- أن الحركة حاولت بكل جهدها وطاقتها الإفادة من تجربة حزب الله في حرب تموز 2006 في لبنان، خاصة في مجال المواجهة البرية وحفر الخنادق والأنفاق وسبل إطلاق الصواريخ.
- أن الحركة قد مارست العديد من التكتيكات العسكرية التي فوجئ بها جيش الاحتلال، وأجبرته على بطء الزحف والتوغل وعدم الرعونة أو التهور.
- أن الحركة ابتعدت تماما عن الأساليب الاستعراضية والبهرجة الإعلامية الخاصة بمقاتليها وأدائها العسكري المقاوم.
- أن الحركة اعتمدت تكتيك استدراج القوات الغازية المتوغلة إلى حيث مناطق الكثافة السكانية، بدلا من السقوط في فخ استدراجها إلى المناطق المفتوحة التي يسهل فيها ضرب واصطياد عناصرها.
- أن الحركة استخدمت العديد من الأسلحة لصدّ العدوان والدفاع عن النفس، ومن بينها الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة والقذائف المضادة للدروع ذات المدى المحدود وقذائف الهاون وصواريخ القسام وصواريخ غراد ومضادات الطيران محدودة المدى.
- أن الحركة لم تستخدم كل عناصرها العسكرية في إطار المعارك.
ومع ذلك، كشفت تفاصيل الحرب جانبا من النواقص وأشكال الخلل لدى الجناح العسكري لحماس يمكن إجمالها في التالي:
- أن مستوى الاستعدادات والتجهيزات العسكرية لم يكن كاملا عامة، وجاء قاصرا عن بلوغ تحدي معركة كبرى بهذا الحجم رغما عن التهديدات الإسرائيلية التي لم تكن تنفك توقفا ضد غزة وحركة حماس.
- أن الاعتماد على محاكاة أساليب حزب الله فحسب لم يمثل عامل مفاجأة للجيش الإسرائيلي كما كان مأمولا، فقد عمد جيش الاحتلال إلى كبح وإحباط الكثير من هذه التكتيكات والأساليب التي تحسّب لها جيدا، وكان لا بد من إضافة أساليب أخرى ذات نمط إبداعي جديد لم يواجهها جيش الاحتلال من قبل.
- عدم امتلاك وسائل قتالية رادعة للطيران، أو على الأقل المروحيات، كشف الظهر الفلسطيني عموما، وقلل –إلى حد كبير- من هامش الحركة والفعالية الميدانية، وحدود وإمكانات المناورة لدى مقاومي الحركة في الميدان.
- عدم امتلاك الحركة قذائف مضادة للدبابات ذات مدى متوسط أو بعيد (تزيد عن 1000 متر) حرمها القدرة على مواجهة أرتال الدبابات والآليات الإسرائيلية، ومنح أفضلية ميدانية للقوات الغازية.
- وجود العديد من الثغرات الميدانية والمناطق الساقطة عسكريا التي كانت كافية للنفاذ منها إلى العمق السكاني الفلسطيني، بما يؤهل لإحداث اختراق إستراتيجي في مسار ونتيجة الحرب لصالح الاحتلال، ولم يخفف من وقعها سوى استغلال جيش الاحتلال لبعضها جزئيا دون استثمارها كليا لأسباب غير ميدانية.
- استبعاد الحركة كليا لخيار المواجهة الواسعة والاجتياح الشامل قبل نشوب الحرب، ورسم حسابات غير دقيقة لخيارات المواجهة مع الاحتلال.
- عدم وجود خطة إستراتيجية عسكرية لتنفيذ حرب عصابات طويلة المدى حال الاجتياح الإسرائيلي الشامل، واقتحام الاحتلال لعمق المناطق السكنية.
- ضعف القدرة على اكتشاف العديد من شبكات العملاء قبل الحرب، ما كان له الدور الأخطر في تقديم سيول من المعلومات التي أفادت جيش الاحتلال في ضرب الكثير من الأهداف والمواقع الفلسطينية.
يُضاف إلى ذلك العديد من مظاهر الخلل المزمنة التي تعاني منها ساحة الفعل المقاوم، خاصة في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، والمتمثلة في:
- عشوائية الفعل المقاوم لدى العديد من فصائل المقاومة، خاصة في مجال إطلاق الصواريخ.
- تضارب المواقف والأجندات لدى فصائل المقاومة في بعض الأحيان.
- غياب التنسيق الجدي بين أجنحة المقاومة المختلفة.
- عزل العمل المقاوم عن مظلة الاستثمار السياسي في كثير من الأحيان.
- ضعف التقدير الصحيح لتوقيتات العمل المقاوم الذي يفترض أن يرتبط بحسابات دقيقة تظللها المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.
- ظهور بعض "المجموعات المتطفلة" و"أدعياء المقاومة" في مفاصل ومنعطفات وطنية حساسة ابتغاء العبث والتخريب أو الاستهلاك والبهرجة الإعلامية.
ما سبق يُملي بوضوح على حماس أشكال العلاج المتوخاة، ويدفع باتجاه تدارك الخلل القائم، والنزوع الجاد والسريع نحو إصلاح الأخطاء الميدانية والبنيوية والعملياتية، والشروع في صوغ خطة إستراتيجية لاحتمالات اندلاع حرب جديدة، ورسم كل الخيارات والبدائل والاحتياجات، ووضعها موضع التنفيذ الفوري دون تأخير.
بموازاة ذلك، الحركة مطالبة بضبط وترتيب آليات العمل المقاوم على جبهة غزة، وإرساء توافق محسوب لدى فصائل المقاومة، يشتمل على وضع الحلول والأدواء المناسبة للسلبيات القائمة.
ولعل من نافلة القول أن الحركة قد استخلصت العبر والدروس من الحرب، أو جانبا معتبرا منها، إلا أن العقبة الكأداء التي تعترض سبل تنفيذ بعض الأجزاء الحساسة منها لا ترتبط بعناصر القدرة والدفع الذاتي للحركة بقدر ما تتعلق بالظروف الخارجية والمعوقات الموضوعية.
أخيرا.. على حماس أن تدرك أن حالة المراجعة والتقييم والاستدراك بقدر ما تُعبّر عن حكمة وحيوية وسعة أفق وفهم للمصلحة وإعمال لفقه الموازنات، بما يحفظ الوطن وفصائله المقاومة، والشعب وقضيته العادلة، وسط محيط التحديات العاصفة التي تنهشه من كل حدب وصوب، فإنها تعبر –أيضا- عن فهم دقيق لنواميس الكون، وانسجام واضح مع قوانين الوجود والحياة، التي لا تُحابي أو تستثني أحدا مهما كان.
فالحركة التي خرجت لتوّها من جحيم حرب إسرائيلية استهدفت استئصالها وإجهاض سلطتها وضرب قدراتها، والتي تجاذبتها حوارات فصائلية ماراثونية برعاية مصرية إبان الأسابيع الأخيرة تقف اليوم على مفترق طرق بالغ الأهمية والحساسية تؤسس اتجاهاته لخيارات متناقضة وسيناريوهات متضاربة، وتواجه تحديات ثقيلة على مختلف الأصعدة والمستويات، ما يفرض عليها إبداء وقفة مسؤولة تراجع فيها -بجدية مطلقة وتفكير عميق- خياراتها وسياساتها وسلوكياتها السياسية والعسكرية.
مراجعات سياسية
إن أي مراجعة سياسية حقيقية تبتدرها حماس ينبغي أن تراعي جملة الحقائق الموضوعية التي يكرسها الواقع المعاش، وتفطن للحقائق الواضحة التي تحكم محددات السياسة الراهنة، محليا وإقليميا ودوليا.
أولى هذه الحقائق أن القضية الفلسطينية لم يرتكس حضورها يوما كما الارتكاسة الراهنة، وأن الحال الفلسطيني قد بلغ أسوأ مراحله انحدارا وانقساما وانفصالا، وأن العلاقات الوطنية لم تكن أكثر تدهورا مثلما هو الحال اليوم.
ثانية تلك الحقائق أن إعادة الإعمار تشكل أحد أهم التحديات المرحلية لحكومة حماس، وأن مفتاحها يكمن في تشكيل حكومة فلسطينية جديدة ذات قبول دولي.
ثالثة تلك الحقائق أن الحصار السياسي والاقتصادي والجغرافي المضروب لا زال على أشدّه، وليست هناك أي إرهاصات حقيقية لتفكيكه في المدى المنظور أو المتوسط إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه، وأن الزيارات واللقاءات والجولات التي يعرّج فيها مسؤولون ونواب أميركيون وأوروبيون إلى غزة أو دمشق لا تعدو كونها فعاليات ذات طابع استكشافي لسياسات ومواقف حماس، وطبيعة الأمور على أرض الواقع، أو محاولات استدراج متصاعدة لجهة صوغ مقاربات سياسية تقترب من مربعات الغرب وشروط "الرباعية"، ولا يمكن التعويل عليها بأي حال من الأحوال.
رابعة تلك الحقائق أن التيار المسيطر على حركة فتح ومنظمة التحرير ليس في وارد النزول عن شجرة السياسات والمواقف المعروفة التي تتشبث باتفاقات أوسلو وتوابعها والتزاماتها الأمنية إلى ما لا نهاية، وأنه يحاول -بكل وسيلة- جرّ حماس إلى مربعه السياسي، ما يؤشر إلى انسداد الأفق تماما أمام صياغة برنامج سياسي وحدوي فلسطيني مشترك متحرر من شروط "الرباعية" وقيودها المجحفة.
خامسة تلك الحقائق أن حركة فتح والقوى الإقليمية والدولية لا تبتغي من وراء حوار القاهرة سوى تشكيل حكومة فلسطينية جديدة وفق المقاسات الدولية، دون طرق أو علاج أي من القضايا الشائكة الأخرى.
سادسة تلك الحقائق أن وجود حماس في الحكم وسيطرتها على غزة قد منح إسرائيل الشرعية لشن حرب ضدها، وأن الظروف التي أنتجت الحرب الأخيرة مرشحة لإنتاج حرب أخرى حال بقاء حكم حماس مستقبلا في ظل انعدام فرص التوصل إلى تهدئة مع الاحتلال.
سابعة تلك الحقائق أن البناء الحركي والتطور المؤسسي الذي أنجزته حماس طيلة الأعوام الماضية، يبقى عرضة -بشكل أو بآخر- لخطر التبديد والاستهداف المباشر إسرائيليا مع أي حرب إسرائيلية جديدة.
ثامنة تلك الحقائق أن وجود حماس في الحكم وهيمنتها على الحكومة بعد الانتخابات التشريعية وما تلا ذلك من "حسم عسكري"، قد كلّف الحركة الكثير، سياسيا واقتصاديا وميدانيا وتنظيميا، وشغلها عن بعض المهام والأولويات التي يفترض أن تبقى في صدارة أجندة اهتمامات الحركة على الدوام، خاصة قضيتي المقاومة والشأن التنظيمي الداخلي، لصالح منح الأولوية والاهتمام لشؤون الحكم والسياسة.
إن كل هذه الحقائق تحتّم على حماس إعادة النظر في خياراتها وتكتيكاتها السياسية، وتحري الخيار الأصوب والأكثر مواءمة مع حقائق السياسة والواقع، وإبداء مرونة ذات مدى أوسع سياسيا، تطول التكتيكات والفرعيات لا الإستراتيجيات والكليات.
وقد يكون في قبول حكومة من المستقلين على أساس البرنامج السياسي لاتفاق مكة كأحد الخيارات المقبولة دوليا، الخيار الأصح لهذه المرحلة التي تعج بالمطبّات والألغام والتحديات، فهو -من جهة- يستجيب تماما للتحديات السياسية: الخارجية والداخلية، وتحدي إعادة الإعمار، فضلا عن كونه يحافظ على برنامج حماس السياسي، ويحجزه عن أي شكل من أشكال الخدش أو الانثلام من جهة أخرى.
إن أي مخاوف لدى حماس بشأن التعاطي مع "حكومة مستقلين" ذات مهام محددة قد لا تكون مبررة، انطلاقا من أن:
- حماس لا تستمد فاعلية دورها السياسي والوطني من قيادتها أو وجودها داخل الحكومة، بقدر ما تستمده من خدمة شعبها وتبنيها لهمومه وآلامه، ومدى التصاقها مع قضيته الوطنية ومشروعه المقاوم.
- قدرة الحركة على ترشيح وزراء مستقلين يخدمون برنامجها السياسي ورؤيتها الوطنية.
- أن الحكومة المطروحة لا يمكن أن تحظى بأكثر من دور سياسي واقتصادي، بعيدا عن أي دور أمني مركزي، في ظل تبعية الأجهزة الأمنية المعروفة لكل من فتح وحماس في الضفة والقطاع.
- أن الدور السياسي المناط بالحكومة لن يشذّ عن الخط التوافقي المرسوم، كونها تشكل مزيجا غير متجانس سياسيا، انطلاقا من تبعية أو ميل عناصرها –وإن كانوا مستقلين- لرؤى ومواقف القوى والفصائل التي تولت ترشيحهم.
- أن الخشية من استثمار أبو مازن لحالة التوافق السائدة لجهة التفرد بإبرام اتفاق نهائي مع الإسرائيليين، هي خشية ليس لها ما يبررها في ظل مواقف وسياسات الحكومة الإسرائيلية الراهنة.
ومن هنا فإن تشكيل "حكومة مستقلين" وفق المهام المتفق عليها، يضخّ دفقة أمل جديدة في أوصال القضية الفلسطينية، ويُعفي حماس من تبعات وتكاليف الحكم الباهظة، سياسيا وماليا واقتصاديا، ويحررها من مسؤولية الالتزام والمساءلة المباشرة أمام الجماهير في ظل الكارثة الاقتصادية المعاشة، ويقطع العديد من الذرائع التي تبرر تجدد العدوان الإسرائيلي بأشكاله الواسعة المنفلتة، ويمنح الحركة فرصة التفرغ لإعادة بناء وترميم وتدعيم بناها ومؤسساتها الحركية والتنظيمية والاجتماعية، ويهبها آفاقا أرحب نحو تفكير أدق وأصوب حيال المشروع المقاوم، وسبل صيانته وتنميته وإرساء قواعده ونشر أشرعته وفق رؤى تجديدية وتطويرية تتم بلورتها في ظل التحديات التي تعصف بالوضع الفلسطيني قاطبة.
مراجعات عسكرية
لا يمكن تبيان خطورة هذا المحور وآثاره البالغة في تقرير مسار المواجهة وطبيعة العلاقة مع الاحتلال، بمعزل عن فهم واستقراء واقع المعركة العسكرية التي دارت رحاها بين حماس وإسرائيل إبان الحرب الأخيرة على غزة.
فقد كشفت الحرب العديد من الثغرات وأشكال الخلل في إطار خطة وإستراتيجية المواجهة العسكرية التي رسمتها كتائب القسام الجناح المسلح لحماس رغم البلاء الحسن الذي أبدته في تصديها لجحافل القوات الإسرائيلية الغازية، المدججة بكل أنواع الأسلحة، والمعززة بآخر التقنيات والابتكارات التكنولوجية.
ابتداء، لا يمكن إنكار الجهد الهائل الذي بذلته حماس لتطوير قدراتها وأدواتها وبنيتها العسكرية والتسليحية، والقفزات النوعية التي تم بلوغها في إطار العمل المقاوم أثناء انتفاضة الأقصى وحتى اليوم، لكن إمكانات وقدرات حماس التي توفر لها فرصة المناوشة والاستنزاف والتصدي للاجتياحات المحدودة أو المتوسطة شيء، ومواجهة جيش جرار ذي ترسانة حربية هائلة يبغي السحق والإبادة والاستئصال شيء آخر تماما.
ولعل نظرة فاحصة لأداء حماس العسكري -على الصعيد الإيجابي- أثناء الحرب تقودنا إلى العرض التالي:
- أن حماس أفادت كثيرا من تأخر تنفيذ العملية البرية لجهة امتصاص الصدمة التي ولدتها المفاجأة الحاصلة بطبيعة وحجم وتوقيت الحرب، وإبداء أكبر قدر ممكن من التهيئة والاستعداد للنزال والمواجهة.
- أن الحركة حاولت بكل جهدها وطاقتها الإفادة من تجربة حزب الله في حرب تموز 2006 في لبنان، خاصة في مجال المواجهة البرية وحفر الخنادق والأنفاق وسبل إطلاق الصواريخ.
- أن الحركة قد مارست العديد من التكتيكات العسكرية التي فوجئ بها جيش الاحتلال، وأجبرته على بطء الزحف والتوغل وعدم الرعونة أو التهور.
- أن الحركة ابتعدت تماما عن الأساليب الاستعراضية والبهرجة الإعلامية الخاصة بمقاتليها وأدائها العسكري المقاوم.
- أن الحركة اعتمدت تكتيك استدراج القوات الغازية المتوغلة إلى حيث مناطق الكثافة السكانية، بدلا من السقوط في فخ استدراجها إلى المناطق المفتوحة التي يسهل فيها ضرب واصطياد عناصرها.
- أن الحركة استخدمت العديد من الأسلحة لصدّ العدوان والدفاع عن النفس، ومن بينها الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة والقذائف المضادة للدروع ذات المدى المحدود وقذائف الهاون وصواريخ القسام وصواريخ غراد ومضادات الطيران محدودة المدى.
- أن الحركة لم تستخدم كل عناصرها العسكرية في إطار المعارك.
ومع ذلك، كشفت تفاصيل الحرب جانبا من النواقص وأشكال الخلل لدى الجناح العسكري لحماس يمكن إجمالها في التالي:
- أن مستوى الاستعدادات والتجهيزات العسكرية لم يكن كاملا عامة، وجاء قاصرا عن بلوغ تحدي معركة كبرى بهذا الحجم رغما عن التهديدات الإسرائيلية التي لم تكن تنفك توقفا ضد غزة وحركة حماس.
- أن الاعتماد على محاكاة أساليب حزب الله فحسب لم يمثل عامل مفاجأة للجيش الإسرائيلي كما كان مأمولا، فقد عمد جيش الاحتلال إلى كبح وإحباط الكثير من هذه التكتيكات والأساليب التي تحسّب لها جيدا، وكان لا بد من إضافة أساليب أخرى ذات نمط إبداعي جديد لم يواجهها جيش الاحتلال من قبل.
- عدم امتلاك وسائل قتالية رادعة للطيران، أو على الأقل المروحيات، كشف الظهر الفلسطيني عموما، وقلل –إلى حد كبير- من هامش الحركة والفعالية الميدانية، وحدود وإمكانات المناورة لدى مقاومي الحركة في الميدان.
- عدم امتلاك الحركة قذائف مضادة للدبابات ذات مدى متوسط أو بعيد (تزيد عن 1000 متر) حرمها القدرة على مواجهة أرتال الدبابات والآليات الإسرائيلية، ومنح أفضلية ميدانية للقوات الغازية.
- وجود العديد من الثغرات الميدانية والمناطق الساقطة عسكريا التي كانت كافية للنفاذ منها إلى العمق السكاني الفلسطيني، بما يؤهل لإحداث اختراق إستراتيجي في مسار ونتيجة الحرب لصالح الاحتلال، ولم يخفف من وقعها سوى استغلال جيش الاحتلال لبعضها جزئيا دون استثمارها كليا لأسباب غير ميدانية.
- استبعاد الحركة كليا لخيار المواجهة الواسعة والاجتياح الشامل قبل نشوب الحرب، ورسم حسابات غير دقيقة لخيارات المواجهة مع الاحتلال.
- عدم وجود خطة إستراتيجية عسكرية لتنفيذ حرب عصابات طويلة المدى حال الاجتياح الإسرائيلي الشامل، واقتحام الاحتلال لعمق المناطق السكنية.
- ضعف القدرة على اكتشاف العديد من شبكات العملاء قبل الحرب، ما كان له الدور الأخطر في تقديم سيول من المعلومات التي أفادت جيش الاحتلال في ضرب الكثير من الأهداف والمواقع الفلسطينية.
يُضاف إلى ذلك العديد من مظاهر الخلل المزمنة التي تعاني منها ساحة الفعل المقاوم، خاصة في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، والمتمثلة في:
- عشوائية الفعل المقاوم لدى العديد من فصائل المقاومة، خاصة في مجال إطلاق الصواريخ.
- تضارب المواقف والأجندات لدى فصائل المقاومة في بعض الأحيان.
- غياب التنسيق الجدي بين أجنحة المقاومة المختلفة.
- عزل العمل المقاوم عن مظلة الاستثمار السياسي في كثير من الأحيان.
- ضعف التقدير الصحيح لتوقيتات العمل المقاوم الذي يفترض أن يرتبط بحسابات دقيقة تظللها المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.
- ظهور بعض "المجموعات المتطفلة" و"أدعياء المقاومة" في مفاصل ومنعطفات وطنية حساسة ابتغاء العبث والتخريب أو الاستهلاك والبهرجة الإعلامية.
ما سبق يُملي بوضوح على حماس أشكال العلاج المتوخاة، ويدفع باتجاه تدارك الخلل القائم، والنزوع الجاد والسريع نحو إصلاح الأخطاء الميدانية والبنيوية والعملياتية، والشروع في صوغ خطة إستراتيجية لاحتمالات اندلاع حرب جديدة، ورسم كل الخيارات والبدائل والاحتياجات، ووضعها موضع التنفيذ الفوري دون تأخير.
بموازاة ذلك، الحركة مطالبة بضبط وترتيب آليات العمل المقاوم على جبهة غزة، وإرساء توافق محسوب لدى فصائل المقاومة، يشتمل على وضع الحلول والأدواء المناسبة للسلبيات القائمة.
ولعل من نافلة القول أن الحركة قد استخلصت العبر والدروس من الحرب، أو جانبا معتبرا منها، إلا أن العقبة الكأداء التي تعترض سبل تنفيذ بعض الأجزاء الحساسة منها لا ترتبط بعناصر القدرة والدفع الذاتي للحركة بقدر ما تتعلق بالظروف الخارجية والمعوقات الموضوعية.
أخيرا.. على حماس أن تدرك أن حالة المراجعة والتقييم والاستدراك بقدر ما تُعبّر عن حكمة وحيوية وسعة أفق وفهم للمصلحة وإعمال لفقه الموازنات، بما يحفظ الوطن وفصائله المقاومة، والشعب وقضيته العادلة، وسط محيط التحديات العاصفة التي تنهشه من كل حدب وصوب، فإنها تعبر –أيضا- عن فهم دقيق لنواميس الكون، وانسجام واضح مع قوانين الوجود والحياة، التي لا تُحابي أو تستثني أحدا مهما كان.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق