كلمات قليلة عن "رؤية" لبعض "صفات" الدولة، تكررت في وثائق فلسطينية سابقة، دون أن تجيب خطة الحكومة عن أسئلة تتكرر في كل صباح فلسطيني جديد: ماذا عن مصير نصف مليون مستوطن يقيمون في مستوطنات تمزق جسد الدولة؟ وماذا عن الطرق الالتفافية والجدار؟ وكيف تجسد السيادة في دولة مستقلة؟ وأين؟ وما هو الموقف من الدولة "منزوعة السلاح"؟ وما هي علاقة الدولة بملايين الفلسطينيين خارجها؟ وكيف ستواجه سيناريو "توطين" اللاجئين فيها وعلى امتداد خارطة الشتات؟ وكيف يستعد "مشروع الدولة" بعد عامين لاستقبال مواطنيها "النازحين" منذ العام 1967 بلا خطط استيعاب وإسكان وتعليم وصحة وفرص عمل؟
أسئلة ربما تدور في ذهن واضعي الخطة، فلماذا تم تجاهل الإجابة عنها في سياق التخطيط لـ "تجسيد الدولة"؟
قد يكون التفسير الأهم أن السلطة لا تسيطر أصلاً على مفاتيح عملية التخطيط والتنفيذ، وأهمها القدرة على استغلال الموارد المتاحة لتنفيذ الخطة. فالموارد المتاحة فعلياً هي تلك التي تقع في نطاق ما يحدده اتفاق أوسلو ضمن مناطق (أ)، وجزئياً مناطق (ب). وهي موارد محدودة بحجم الولاية الجغرافية والاقتصادية، وحتى الأمنية، لسلطة الحكم الذاتي، التي لا تستطيع في أحسن الأحوال إلا أن تقدم خدماتها في المناطق الخاضعة لإدارتها. خدمات تجعل من السلطة "أم البلديات" في الضفة الغربية.
يعني ذلك أن السلطة تفقد من الناحية الفعلية قدرة السيطرة على المسار العام الذي تنشده خطة الحكومة، أي تحولها مما يشبه البلدية الكبرى إلى دولة مستقلة. ولا تعني محاولة التحكم باتجاه هذا المسار إلا الدخول في صراع مع المحتل للسيطرة على كل الموارد ومقومات تحقيق الاستقلال، لا الخروج منه إلى فضاء الرهان فقط على مساعدة العالم.
مظاهر تحييد الصراع عبر التعامل مع ما هو قائم، وتأجيل ما يتبقى بانتظار نتائج المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، لا تقود في واقع الحال إلا إلى تكييف عملية بناء مؤسسات السلطة وفق ما يتيحه الوضع القائم، بما يتسم به من تفوق لصالح الاحتلال في فرض الوقائع على الأرض بقوة الاستيطان، والجدار، والسلاح من جهة، وكذلك في فرض حدود الحيز العام المتاح لدور ووظائف وصلاحيات السلطة ذاتها من جهة أخرى. وبذلك، فإن تفاصيل عناوين الخطة لا يمكن أن تنفذ إلا في سياق التوافق مع سلطة الاحتلال، طالما أن هذه الخطة لا تطرح سوى الفعل في نطاق مسار أوسلو وليس التمرد عليه.
والمقصود بتعبير التمرد هو تكثيف العمل الفلسطيني لبناء المؤسسات وتطوير خدماتها، عبر الصراع اليومي مع الاحتلال في الحيز الجغرافي المحدد فلسطينياً لإقامة الدولة، وهو حيز يشمل مناطق (أ، ب، ج)، أي كل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران العام 1967. فالصراع مع الاحتلال لا يدور مثلاً حول تطوير المؤسسات داخل المدن الخاضعة أصلاً لولاية السلطة، بل في ريف هذه المدن وعلى تخوم الجدار والمستوطنات والمناطق العسكرية المغلقة أو المصنفة كمحميات طبيعية، وقبل كل ذلك في قلب مدينة القدس.
وفي هذه المناطق، يأخذ مفهوم الصراع "فلسطينياً" معناه الحقيقي الذي افتقرت له خطة حكومة فياض: المقاومة بأشكالها المختلفة لدحر مخططات الاحتلال، وجعل كلفة سيطرته على هذه المناطق تفوق كلفة رفع يده عنها، تمهيداً لدحر الاحتلال. ومثل هذه المقاومة فعل لا تدعيه حكومة فياض لنفسها، وهي التي تدرك قبل غيرها استحالة الجمع بين السلطة والمقاومة في ظل الوضع القائم. وحدها حركة التحرر الوطني هي القادرة على تمديد فعلها المقاوم ليطال حيز الصراع المركز اليوم في المناطق غير الخاضعة للسلطة، إن أولت هذه الحركة الوطنية اهتمامها لما هو خارج نطاق دور ووظيفة السلطة؛ أي التركيز على عملية إعادة البناء الوطني على مقاس كل خارطة الأراضي الفلسطينية المحتلة، لاسيما في مناطق الصراع المحتدم خارج الكانتونات الجاري ترسيمها في الضفة الغربية، واستعادة الوحدة الوطنية الداخلية بإنهاء الانقسام.
تجاهل الصراع الدائر وقضاياه اليومية في حياة المواطن، والقفز إلى "صف الكلام" المعبر والمؤثر، لا يقود إلى الدولة المستقلة كاملة السيادة، بل إلى التكيف في سياق الممارسة اليومية مع النتائج المترتبة على تقدم المشروع الإسرائيلي، الذي لا يترك للفلسطينيين - حسب تعبير وزير التخطيط في حكومة فياض – إلا "دولة البقايا".
يمكن تتبع مظاهر التكيف في نطاق الكانتونات من خلال بنود الخطة التي لم تأتِ من الناحية الجوهرية بجديد عما كان عليه الحال طيلة السنوات الماضية من عمر السلطة. بل أكثر من ذلك، فإن نحو 37 صفحة من مجموع صفحات الخطة هي عبارة عما يسمى "قطع ولصق" من خطط سابقة، تضمنت أهداف الوزارات ومهماتها منذ تأسيسها تقريباً، ولم يمنع الاحتلال السلطة من تطبيقها أصلاً في مناطق ولايتها، ولم تؤدِّ إلى دحر الاحتلال، طالما أن سقفها الالتزام بالقيود المحددة لدور السلطة ووظيفتها بموجب اتفاق أوسلو وملحقاته.
أما المسار العام لتطور "كيان السلطة"، فهو لا يبدو خاضعاً إلا لميزان القوى المختل لصالح الاحتلال في ظل تراجع دور الحركة الوطنية، واستمرار الانقسام الداخلي، بما يعلي في الوقت ذاته من وزن التدخل الخارجي في مسار بناء هذا "الكيان"، لاسيما وفق النموذج الذي تستعيره الولايات المتحدة من تجربتها في العراق.
وتبدي حكومة فياض انسياقاً وراء هذا النموذج القائم على الفكرة التي يلخصها المنسق الأمني الأميركي كيث دايتون بثلاث كلمات "السلام عبر الأمن". وهو أمن يخضع لاعتبارات المحتل الإسرائيلي ومصالحه بالدرجة الأولى. ولذلك، مثلاً يقول دايتون إن فريقه في الأراضي المحتلة حقق نجاحاً في تحويل قوات الأمن الوطني الفلسطيني إلى "جندرمة"، تعاون الشرطة المدنية في فرض النظام والقانون في المناطق السكنية الفلسطينية. وهو تحول في بنية ورسالة ووظائف قوات الأمن الوطني (نواة جيش الدولة) يتم بالتعاون والتوافق مع حكومة فياض، التي لا تفصح عنه في خطتها، على الرغم من كونه يصب في صالح الموقف الإسرائيلي الذي يدفع باتجاه إقامة كيان فلسطيني "منزوع السلاح" بلا سيادة، ولا سيطرة على موارده الأساسية وأجوائه ومعابره وغير ذلك.
ويذكر هذا المسار الذي تقوده الإدارة الأميركية بالتنسيق مع إسرائيل، بالتجربة الأميركية في العراق ذاتها. وكانت نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" (17 أيار 2007) عن ضابط عراقي قوله حول الخطة الأميركية لبناء القوات العراقية، أن "إشراك القطاعات العسكرية في مهام قتالية داخلية بأسلحة ومعدات خفيفة ضد أهداف غير واضحة المعالم بعدائها للوطن وخلف قيادات سياسية مثيرة للجدل، قد أفقد الجيش العراقي إرادة القتال، وحوّله إلى ما يشبه بمجاميع من الجندرمة التي لا ترتقي إلى الجيوش النظامية".
بناء "الجندرمة" أو "الدرك" الفلسطيني، بموافقة السلطة وبالتنسيق معها، ومع إسرائيل، يحدد مسبقاً طبيعة مخاطر "دولة البقايا" فاقدة السيادة، ومنزوعة السلاح، التي يمكن أن تفتح خطة حكومة فياض الأبواب أمامها، بدلاً من خطة تستهدف التصدي لهذا المسار، بإستراتيجية تضعها الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بالمرجعية الوطنية العليا، منظمة التحرير الفلسطينية، وتحدد بموجبها الطريق لتحقيق المشروع الوطني، ومن ضمنه شكل سلطة الحكم الذاتي ووظيفتها ودورها وربما مصيرها، عبر مراكمة الإنجازات والتغييرات على أرض الواقع في مواجهة الاحتلال، وليس في ظله، أو بالتكيف مع نتائج ما يفرضه بالقوة على الأرض الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق