على الرغم من أن الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة لم تضع أوزارها بعد، فإن جملة من الملخّصات الإسرائيلية المرحلية باتت ناجزة، ونعتقد أن دلالاتها لن تتلاشى في قادم الأيام.
مهما تكن هذه الملخّصات، لا بُد من الإشارة على وجه التحديد إلى ما يلي وأساساً من خلال الاستناد إلى ما صدر حتى الآن عن محللين عسكريين إسرائيليين:
أولاً- نجاح المقاومة الفلسطينية في القطاع بعد انقضاء نحو أسبوع ونصف أسبوع على الحرب في أن تحافظ على قدرة على إطلاق الصواريخ على إسرائيل بوتيرة يومية شبه ثابتة، بما في ذلك إطلاق الصواريخ نحو مدن منطقة الوسط، برغم تكرار إسرائيل أنها دمرّت عدداً كبيراً من منصات إطلاق الصواريخ.
ثانياً- بعد مدينتي تل أبيب والقدس اللتين سبق أن دخلتا في مرمى صواريخ المقاومة خلال الحرب الإسرائيلية السابقة ضد القطاع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، أصبحت مدينة حيفا أيضاً في مرماها أثناء الحرب الحالية. وعملياً فإن المقاومة الفلسطينية أفلحت في أن تشوّش حياة نحو خمسة ملايين نسمة من سكان إسرائيل، إلى جانب تهديد عدة منشآت إستراتيجية، مثل المفاعل النووي في ديمونا ومطار "بن غوريون" الدولي.
ثالثاً- رسوخ قناعة لدى المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين بأن أي نهاية سياسية للحرب يجب ألا تكتفي بالتوصل إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار كون ذلك من شأنه فقط أن يهيئ لجولة مقبلة من القتال بين الجانبين. وفي ضوء ذلك أعلنت إسرائيل أنها تنوي من الآن فصاعداً أن تبذل جهوداً في الحلبة السياسية الدولية من أجل الدفع قدماً بخطة تقضي بتجريد القطاع من الصواريخ ومنصات إطلاقها ومن الأنفاق الهجومية.
رابعاً- أن لدى المقاومة مفاجآت على غرار الهجمات عبر الأنفاق، وعمليات التسلل من البحر، واستخدام طائرات من دون طيار. ولا شك في أن هذا الأمر شديد الأهمية والدلالة كونه يعني أن بوسع المقاومة ألا تعتمد فقط على إطلاق الصواريخ والقذائف الصاروخية التي غدت إسرائيل تمتلك رداً دفاعياً عليها من خلال منظومة "القبة الحديدية" وسائر المنظومات المضادة للصواريخ.
وبرأيي أن هذه المفاجآت هي التي جعلت مصدراً رفيع المستوى في قيادة الجيش الإسرائيلي يؤكد أول من أمس (الأربعاء) أنه في ظل الأوضاع القائمة حالياً لا يمكن تحقيق حسم في المواجهة العسكرية الدائرة بين إسرائيل وحركة "حماس" وباقي فصائل المقاومة في قطاع غزة.
خامساً- أن الشروط التي خاضت فيها إسرائيل هذه الحرب كانت شروطاً ممتازة ناجمة بصورة رئيسة عن وجود مناخ إقليمي ودولي مؤات. غير أن ذلك لا يعني أن هذه الشروط قد تتكرّر في حروب مقبلة، سواء ضد قطاع غزة، أو ضد جبهات أخرى مثل لبنان.
بطبيعة الحال، يمكن أن نستفيض أكثر في إيراد مثل هذه الملخصّات، غير أن ما أوردناه منها يبدو كافياً لإصدار حكم فحواه أن المعركة على ما يمكن تسميته "تشخيص الوضع" بشأن ما كان إلى الآن قد أسفرت عن نتائج مسبقة مهمة.
فماذا عن الاستنتاجات بشأن ما ينبغي أن يكون؟
إن الاستنتاج الأهم من هذه الملخّصات يبقى برأيي من نصيب الذين أكدوا أن الدرس الأكبر الذي يجب أن يكوي الوعي في الجانب الإسرائيلي بعد هذه الحرب، أن قوة الجيش الأعظم في الشرق الأوسط مهما تبلغ وتشتط لها حدود، وأن على القادة أن يوفروا أفكاراً بعيدة المدى كي يعالجوا جذور الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وإلا فإن الفترة التي ستمتد بين إنهاء جولة القتال الحالية وبداية الجولة التالية ستكون قصيرة.
وذهب البعض إلى أبعد من هذا، مؤكداً أن على "التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي" ألا يتوقف عند استعادة الردع، وأن ينتقل إلى وضع سياسة شاملة إزاء قطاع غزة وحركة "حماس" لا تكون مستندة إلى القوة فقط.
هنا علينا أن نعيد إلى الأذهان أن الفجوة بين التشخيص وبين الاستنتاج المطلوب في الممارسة الإسرائيلية العامة حيال القضية الفلسطينية ما زالت واسعة حتى في صفوف غالبية المحللين العسكريين والسياسيين وغيرهم من الذين يمكن إدراجهم في خانة "صنّاع الرأي العام".
وبالتالي يصح القول إن ثمة غزارة في التشخيص بموازاة سوء في الاستنتاج.
ومن الصعب الحديث حول فجوة كهذه في أوساط أصحاب القرار الإسرائيليين لأن ثمة خللاً بنيوياً لديهم في التشخيص أصلاً.
وحتى ساعة كتابة هذا المقال فإن ما يطالعنا من جوهر سلوك أصحاب القرار هؤلاء يشفّ عما يلي:
أولاً- أن تصرّف قباطنة المؤسستين السياسية والأمنية ما يزال متمحوراً من حول غايتين: تبرير الحرب على القطاع، وتبرير شكل أو طريقة استخدام القوة المفرطة في زمن الحرب. ويحضرني هنا تشخيص لأحد أساتذة العلوم السياسية في "مركز هرتسليا المتعدّد المجالات" حول الدول المدمنة على العنف رأى فيه أن إسرائيل تحتل المرتبة الأولى في قائمة هذه الدول في العالم أجمع، مشيراً إلى أن ميلها إلى الحروب والمواجهات العسكرية الاختيارية ("غير الاضطرارية") على مدار العقود الثلاثة الأخيرة ينمّ عن اتجاه متزايد نحو إدمان العنف وعلى صعيد عدم التفكير ببدائل منه، وإلى أن السياسيين الإسرائيليين يجدون دائماً مبرراً لذلك من خلال مصطلحات الضرورة التي تسم مبادئ شرعية الحرب مثل انعدام البدائل، الدفاع عن النفس، أو الضرر المتوقع.
ثانياً- ما تزال مسألة استعادة الردع الغاية التي يلّح عليها هؤلاء القباطنة وجيش المسؤولين الأمنيين السابقين. وما يحضرني في هذا الشأن توكيد أستاذ إسرائيلي آخر في العلوم السياسية أن إسرائيل لا تمتلك قوة ردع فعلية منذ ما قبل حرب حزيران/ يونيو 1967. فقد اندلعت هذه الحرب على الرغم من الإنجاز الإسرائيلي في الحرب التي سبقتها (حرب السويس سنة 1956). كما أن حرب الاستنزاف، في أواخر ستينيات القرن العشرين الفائت، اندلعت على الرغم من الإنجازات الإسرائيلية العسكرية في حرب حزيران تلك. وينسحب هذا الحكم على حرب تشرين/ أكتوبر 1973، وعلى ما تلاها من حروب ومواجهات مع منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله، وصولاً إلى حرب لبنان الثانية سنة 2006 والحروب الإسرائيلية ضد قطاع غزة. كما أنّ اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن لم تكونا محصلة قوة الردع العسكرية الإسرائيلية، في رأي هذا الأستاذ. علاوة على ذلك كله فإنه حتى امتلاك إسرائيل السلاح النووي "لا يردع أعداءها" قطّ، على حدّ تعبيره.
على الرغم من ذلك لم تصدر عن المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل أي إشارات إلى وجود نية بالتوقف عن اللهاث وراء قوة الردع العسكرية. بل يمكن القول، من دون خشية الوقوع في المبالغة، إنهما ستظلان منهمكتين بهذا اللهاث حتى إشعار آخر.
يبقى السؤال الذي ما من جواب جاهز عنه بعد هو: كيف ستحقق ذلك؟ وهل هو قابل لأن يتحقق أصلاً؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق