الثلاثاء، 15 يوليو 2014
البحث عن الضفة في غمرة الحرب ...سري عرابي
بدأ السؤال عن الضفة الغربية قبل سبع سنوات، لكنه بدا حينها وكأنه يعني حماس وحدها، وقام على أساس من المقارنة بين أوضاع الحركة في غزة وأوضاعها في الضفة، مرهونًا إلى الصورة الطاغية في لحظته الراهنة ساعتها؛ صورة الحركة القوية في القطاع، والمسحوقة في الضفة، محيلاً الإجابات على اعتبارات ذاتية صرفة، أشبه بالانطباعات الاستشراقية التي تسند رؤيتها إلى جواهر ثابتة تميز هذه الذات عن تلك، مسقطًا مقدمات التاريخ ومعطيات الواقع والفوارق التي تفسد هذا النمط من المقارنات. كان السؤال وقتها يتخد أشكالاً متعددة في الصيغة والقسوة، فابن حماس في الضفة يقسو على نفسه وهو يردّ كل الذي يجري إلى ضعفه وقصوره، ولكن يسأل في الوقت نفسه عن حقه على القطاع والخارج في إسناده وهو يرزح تحت العذاب ويعاني السحق ومحاولات الاستئصال، بينما كان ابن الحركة نفسها في القطاع عاجزًا عن تفسير الفارق في أوضاع الحركة بين القطاع والضفة، ليغيب التاريخ تمامًا تحت وطأة هذه الأسئلة القاسية، حتى التاريخ القصير، حينما ألقت الضفة كل ثقلها في انتفاضة الأقصى لتواجه بعد ذلك حملة السور الواقي التي أعادت احتلال مناطق (أ) منها. هذه المرة، لا يخصّ السؤال حماس وحدها، بل يتجاوزها إلى الشعب الفلسطيني كله في القطاع وهو يتلقى الموت الهابط من السماء كل ثلاث دقائق، وتسأله أوساط واسعة في الضفة وهي تتحسس قهرها وتتفلت من عجزها، ويسأله حائرون من المراقبين ممن يبدأ التاريخ عندهم عادة منذ لحظة الحدث. لماذا لا تساهم الضفة في الحدث بما يكافئ هذا الحدث؟ سواء بانتفاضة شعبية واسعة، أو بمقاومة مسلحة، طالما أن هذا الشعب واحد؟ مثل هذا السؤال لم يكن مطروحًا قبل الانقسام، ما يجعل هذا الانقسام إحدى مداخل التفسير الأساسية، فالضفة في العام 1987 التحقت بغزة سريعًا لتتشكل انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى، ثم طوّرت على العمل العسكري لحماس الذي بدأ في غزة وتوسع في الضفة، بينما انطلقت منها شرارة انتفاضة الأقصى وكانت منطلق العمل الجهادي الأكثر إثخانًا بحكم تداخلها مع الوجود الاحتلالي، بمعنى أنها لم تكن متخلفة عن القطاع في المقاومة إلا بعد الانقسام. المدخل التفسيري مركب، إحدى عناصره الانقسام، بيد أنه يتكون من عناصر أخرى من أهمها انتفاضة الأقصى، فقد كانت نتائجها في القطاع مختلفة تمامًا عن الضفة، والسبب في ذلك متعلق باختلاف الموقعين من الصراع من حيث الأهمية الاستراتيجية للضفة الغربية لدى الاحتلال، وهو ما مكّن القطاع من استكمال التحرير ومراكمة قوة مقاومة لم تستطع السلطة الفلسطينية تجاوزها، بينما أعاد الاحتلال سيطرته على المناطق (أ) في الضفة، وتمكن من القضاء على بنى المقاومة السرّية والمتناثرة والمفتقرة للمركزية والتي لم تتخذ الطابع الميلشياوي الهجين ما بين تنظيم الجيوش وتنظيمات العصابات كما صار إليه الحال في قطاع غزة، فلم يكن هذا متاحًا مع خضوع الضفة الغربية لاحتلال مباشر يفرض حضوره اللصيق على البشر والجغرافيا في نفس الوقت، وانعدام قدرتها على التواصل الفعّال بسبب اتساع المساحة الجغرافية المقطّعة، وإن كانت الفصائل ومجموعاتها المسلحة تتحمل مسؤولية ذاتية بانعدام الرؤية وهيمنة الارتجال، بيد أن هذه المسؤولية الذاتية ليست منفصلة أبدًا عن الظروف الموضوعية. انتهت انتفاضة الأقصى على واقعين مختلفين؛ فقطاع غزة الذي تحرر من بقية الوجود الاحتلالي راكم قوة مقاومة غير مسبوقة، تتمتع بالمركزية والتنظيم، في مقابل سلطة ضعيفة، بينما آل الحال في الضفة إلي عكس ذلك تمامًا، فالاحتلال الذي كان موجودًا أعاد تعزيز وجوده باحتلال المناطق (أ) وقضى على بنى المقاومة المتناثرة ما جعل السلطة وحدها سيدة الساحة. على ضوء هذا الواقع دخلت حماس الانتخابات التشريعية، فالانتفاضة من وجهة نظر حماس فرضت واقعًا جديدًا، لا ينبغي أن يكون ما بعده كما الذي قبله (غزة محررة، سلطة ضعيفة فيها، مقاومة قوية فيها)، ومن الواضح أن هذا التفكير كان وجيهًا إلى حد كبير، خاصة مع رفع حركة فتح لشعار "شرعية البرامج والسلاح تأتي من صندوق الانتخابات"، إلا أن هذه الرؤية لم تكن قد أجابت على كل الأسئلة الأخرى والتي أظهرت مشكلاتها لاحقًا، فحركة مقاومة ترفع شعار "يد تبني ويد تقاوم" لن تتمكن أبدًا من الحكم من داخل قواعد الاحتلال (منظومة السلطة الناشئة عن أوسلو في ظل وجود احتلال مباشر) في المنطقة الجغرافية الأخطر إستراتيجيًا على الاحتلال، أي الضفة الغربية. هذا الشعار "يد تبني ويد تقاوم" يكشف عن الواقع المشوّه، فحركة مقاومة تستدعي مقاومتها بالضرورة هدمًا ماديًا تدخل سلطة لإدارة شؤون الناس في ظل الاحتلال، لكنها على الأقل مارست المقاومة المسلحة والبناء المعنوي، ومن بعد الانقسام أدارت حكومة بلا سابق خبرة واجترحت أدواتها من انعدام الممكنات متجاوزة الحصار والحروب المتواصلة، إلا أن الأهم من هذه التجربة هو نتائج هذه الحروب التي يعدّونها ثلاثة مع الحرب الأخيرة الدائرة الآن، لكنها أكثر باحتساب عدد المواجهات والاشتباكات والتصدي للتّوغلات وهجمات الاحتلال. تطبّع الشعب مع المقاومة فقط بوجود مقاومة مستمرة، تتخذ شكل الاشتباك المباشر، أو شكل الإعداد، أو شكل تحول الحكومة السياسية إلي خادم للمقاومة وتسخير أجهزتها الأمنية لتوفير بيئة أمنية سليمة للعمل المقاوم، مع وجود حالة عداء صريحة وصارخة مع الاحتلال، فتطبّع مع المقاومة كل سكان القطاع بما في ذلك خصوم حماس، فرغم المعاناة المتواصلة فإن الحروب المستمرة أوجدت حالة من الاعتياد لا تلغي حتمًا شوق الناس إلي حياة مستقرة كما هو شأن البشر كلهم. من بعد الانقسام سادت هذه الصورة في القطاع، حركة مقاومة تحكم، بينما سادت في الضفة صورة مقابلة، فبرنامج التسوية واتخاذ المفاوضات خيارًا وحيدًا هو الحاكم من خلال سلطة تمارس سلوكًا دولاتيًا لمطابقة المجتمع مع سياسات برنامج التسوية، فهذه السلطة تتبع لها أجهزة سياسية وأمنية وإعلامية واقتصادية وثقافية وتعليمية تمارس عملية إخضاع للمجتمع، معتمدة على أهميتها الاقتصادية للمواطن ومركزية الراتب في الدورة الاقتصادية وقدرتها الأمنية التي تعززت بذريعة الانقسام، وبواسطة تحالفها مع رأس المال المستفيد من وجودها وسياساتها وبدور من مؤسسات المجتمع المدني الممولة غربيًا أنتجت سياسات اقتصادية نيوليبرالية أغرقت المجتمع في نمط استهلاكي لا يتناسب مع شعب خاضع للاحتلال، وعززت لديه الفردانية، واشتغلت على خلط أولوياته. في هذا الواقع، وعلى المستوى الشعبي فإن التوسع في انتفاضة جديدة يعني اصطدامًا بالسلطة التي يبدو أنها لم تجر أي تعديل على سياساتها بالرغم من الأحداث الأخيرة، لكن المجتمع لا يصنف السلطة كعدو ولا يرغب في الاصطدام بها، وعلى مستوى الدور الفصائلي سواء في قيادة حراك شعبي واسع، أو إدارة مقاومة مسلحة، فبمعزل عن نقطة الاصطدام بالسلطة التي لا يريدها أحد، فإن سياسات السلطة ومن بعد الانقسام قضت على القدرة الفصائلية، فحركة فتح متماهية تمامًا مع السلطة وكأن وجودها مرتبط بها، بينما لا تتمتع حركة حماس بأي قدرات تنظيمية بسبب الاستنزاف المزدوج، أما الفصائل الأخرى فإما أنها ضعيفة الحضور أصلاً في الضفة، أو تراجعت في صورة يافطات لا تعكس وجودًا حقيقيًا كما هو شأن فصائل اليسار. فقصور الضفة نتيجة لسياسات السلطة وتماهي حركة فتح معها، إلا أن هذه السياسات ليست نهائية، ولا تعني أبدًا أن عملية الإخضاع قد أنجزت مهمتها، فالأحداث الأخيرة بدأت في الضفة ثم توسعت في القدس وفلسطين المحتلة عام 48 ثم انتقلت إلى غزة التي كانت قد راكمت وطورت هذه المقاومة التي نراها الآن، وقبل ذلك فإن سيرة هذا الشعب تثبت دائمًا أنه عصي على التدجين والاختراق.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق