كنت وما زلت من المتحمسين للحوار والمصالحة والائتلاف حول برنامج سياسي ونضالي مشترك بين مختلف القوى والفصائل لا سيما كل من فتح وحماس،أو على الأقل إيجاد وخلق حالة من التعايش تنهي الجدل والمناكفات الداخلية استعدادا لمواجهة الأخطار المحدقة بقضيتنا الفلسطينية ،وهي أخطار وتهديدات قد تكون الأصعب في تاريخها منذ عقود، وبعيدا عن التفاخر؛ فقد كتبت عن الحوار والمصالحة مرات عدة، وطرحت آلية مقترحة لحوار مثمر، انطلاقا من عقيدتي كمسلم يرى أن واجبه محاولة إصلاح ذات البين المأمور به بنص قرآني صريح «وأصلحوا ذات بينكم» ، ومن كوني أحد أبناء الشعب الذي يتطلع إلى الخلاص من الاحتلال ويرى أن الوحدة الوطنية ضرورة لا غنى عنها من أجل مواجهة مخططات العدو، ولقناعتي بأن ما يجمع شعبنا بمختلف أطيافه أكثر بكثير مما يفرقه،بل لقد لاحظنا أنه وتزامنا مع انطلاق مسيرة الحوار في القاهرة تساقطت الأمطار بغزارة،وأغاث الله سبحانه وتعالى شعبنا بماء منهمر بعد حالة من القنوط،والخوف من عام قحط وجفاف،ولم يفت أبناء شعبنا أن يعلقوا على هذا التزامن بين الغيث والحوار بتفاؤل وفرح وابتهال إلى الله جل وعلا.
وربما من المخيف أو المزعج استخدام أداة الاستدراك (لكن) لأن ما وراءها في العادة ينسف أو يلغي ما قبلها ، المهم بأن قناعتي وقناعة الكثيرين من أمثالي لم تتزحزح بهذا الشأن ، وتنفست الصعداء حين رأيت أن طاولة الحوار قد جمعت الفصيلين الكبيرين مع إدراكي لاختلاف البرنامجين وتعارض النهجين ، وتباين الآراء حول مجمل القضايا ، ومازال الأمل معقودا على سير عجلة الحوار نحو الهدف المنشود ، رغم ما يعكر الصفو وهو موضوع المقال.
أول أمس (السبت) ظهر خبر مزعج تلاه أو تزامن معه خبر لا يقل إزعاجا، وتفاعل الخبران مع الوضع مما بعث شعورا بأن قطار المصالحة توقف في محطة انطلاقته وأن عطبا قد أصابه أو أن الوقود اللازم لسيره على السكة لا يكفي!
الخبر الأول هو تجديد مهمة الجنرال الأمريكي «كيث دايتون» لمدة عامين،والخبر الثاني هو تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» بأن الحوار لن ينجح إلا إذا التزمت حماس بشروط الرباعية الدولية وان على حماس نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل والتقيد بالالتزامات السابقة!
كالصاعقة نزل الخبران على كل من تفاءل ، وعلى المتشائم أيضا حيث أن المتشائمين –على الأغلب-كانوا يتوقعون أن يسير قطار المصالحة فيتوقف في منتصف الطريق أو قبل المحطة الأخيرة ، لا أن يتوقف فور انطلاقه.
إن دايتون هو سبب المشكلة كما نعلم ، ولا يمكن أن يكون هو الحل ،وبصراحة متناهية هناك سؤال يطرح نفسه بقوة ويطرق أبواب غرفة الحوار ويتجلّى على مائدته ، وهو سؤال بالمناسبة قد طرحه أكثر من خبير وأكاديمي ومراقب:كيف يمكن إعادة بناء وترتيب الأجهزة الأمنية وهناك ثلاثة جنرالات من الأمريكان يشرفون عليها مباشرة ويتواجدون باستمرار في الضفة الغربية،لا سيما دايتون الذي ذاع صيته؟!
علما بأنه قد تم تشكيل لجنة للأجهزة الأمنية ، تعنى بإعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية ووطنية، وهذه لجنة يعول عليها الكثير لأن اتفاق مكة قد تعطل بسبب المعضلة الأمنية ، وهل يريد دايتون أن يبسط نفوذه على غزة أيضا؟قد يكون من المبكر الحكم على الأمر من وجهة نظر البعض لأن اللجان لم تبدأ المحادثات ولم تشرع في بحث التفاصيل،صحيح،ولكن تجديد مهمة دايتون يضعنا في حيرة وقلق وخوف من العودة إلى الوراء ،أما تصريحات هيلاري كلينتون الرافدة لتجديد مهمة جنرال بلادها فتصب في اتجاه مشابه،وترسم معالم السياسة الأمريكية في عهد أوباما ، فعهد بوش كان عهد الحروب الاستباقية ، وسياسة «الفوضى الخلاقة» التي تبنتها وزيرة خارجيته رايس ويبدو أن أوباما يريد العودة لسياسة العصا والجزرة ، وإذا كانت إدارة بوش قد وضعت فيتو على انطلاق الحوار،وعلى مجرد عقد لقاء بين فتح وحماس، فإن إدارة أوباما تتبع على ما يبدو سياسة السماح بالحوار مع وضع الشروط والمحددات والتصور لما يجب أن يخرج من أو ينتج عن هذا الحوار!
وكالعادة يشعر المرء بالامتعاض من الصلف الأمريكي ، فلماذا يطلب من حماس وحدها الالتزام بشروط وتعهدات،فيما الطرف المعني وهو الاحتلال غير ملتزم بها؟فنتنياهو يعلن عما يسميه «الاقتصاد مقابل الأمن» وليس الأرض مقابل السلام ولم يعلن عن قبوله بحل الدولتين ،في الوقت الذي يضغط الجميع على حماس للقبول به من جهات عربية و فلسطينية ومن الجانب الأمريكي والأوروبي، أولو قبلت حماس بهذه الاشتراطات ستوافق حكومة الاحتلال أيا كانت على إقامة دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران؟ ولماذا ينجح الأمريكيون والأوروبيون دائما بتحويل الجدل إلى الداخل الفلسطيني ليظهر الأمر وكأن الاحتلال يقول بأنه على أتم الاستعداد للانسحاب من الأراضي المحتلة والسماح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة شريطة قبول حماس بهذا؟فالمشكلة هي في الاحتلال وسياسته العدوانية، وليست في حماس ، في الماضي قالوا بأن المشكلة هي عرفات ووجوده على رأس سلم القيادة ، وتم حصار عرفات ونزع الصلاحيات منه وصولا لتسميمه ، فلم يقدموا شيئا وجاءت الانتخابات وفازت حماس، فأصبحت المشكلة هي حماس، فإلام سنظل ندور في دائرتهم الشيطانية؟ وهل ستمتنع «المسز هيلاري» عن مصافحة ومعانقة ليبرمان الذي قد يتولى حقيبة الخارجية في حكومة الاحتلال القادمة،أم أن مجرد مقال كتبه قبل أيام يكفي لتعتبره «حمامة سلام»؟!
أعلم أن المال هو المشكلة وأن الخوف من فرض الحصار على أي حكومة تشكل مستقبلا هو الهاجس الذي يؤرق حركة فتح، ولكن على حركة فتح أن تنظر إلى الأمور نظرة شاملة وعميقة وتضع في اعتبارها الأمور التالية، وهي أمور ليست من نسج الخيال بل حقائق بدأت تظهر بوضوح يزداد رويدا رويدا:-
1) أمريكا أصبحت الرجل المريض في العالم، والدول الكبرى لا تريد توجيه ضربة قاضية لها الآن لأن ذلك سيحمل تداعيات مضرة بالاقتصاد والأمن العالميين أكثر مما هو قائم فعلا ، والعمل جار في السر والعلن على حصر نفوذها وقصقصة أجنحتها بخطى مدروسة تمهيدا لانكماشها وخروجها من موقع القطب الواحد الذي جلست فيه منذ نحو عشرين عاما ، وأزمة أمريكا المالية ستتفاقم كما يقر المسؤولون فيها والخبراء والمراقبون، فلا داعي للتعلق بمن هو في انتظار الانكماش والتقهقر والتراجع وإذا كانت فتح لا تزال تفخر بثوريتها فإن الثورات تسبح عكس التيار،وليس في التاريخ ثائر إلا وامتاز بأنه قد تحدى الواقع وجابه الطغيان غير آبه بقوته،فكيف الحال وهذا الطاغية على وشك الانكماش والانحسار؟!
2) حكومات الاحتلال من اليمين أو اليسار لم تقدم لنا شيئا ، وهي دائما تسعى لإظهار أن المشكلة عندنا أو فينا ، فمن العبث واللامنطق الضغط على حماس لتقبل اشتراطات لا يلتزم الاحتلال بها أصلا.
3) إذا كانت فتح قد رفعت شعار «بالبندقية نزرع وبالسياسة نحصد» فعليها التخلص من سياسة التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض؛ بل إن الحال وصل إلى رمي كل الأوراق وتقديم كل التنازلات في سبيل التفاوض،فالتفاوض دون وجود ورقة المقاومة على الطاولة ثبت بشكل قطعي وبالتجربة أنه يؤدي إلى شراهة العدو وإمعانه في الغطرسة ومحاولة فرض الإملاءات،فقد جلس المفاوض على الطاولة بعد تنازله سلفا عن 78% من فلسطين ،وبقيت الـ 22% محل أخذ ورد وقابلية للتبادل والمساومة،ودون نتيجة، ولتتذكر فتح أن العدو إذا رأى البندقية على كتف المفاوض سيحسب لها ألف حساب، أما إذا رأى المفاوض قد رمى البندقية وجلس على الطاولة معتمدا على تصور وهمي بضغط دولي فسيطلب منه المزيد،فهذا التصور ليس سوى طفولة سياسية،مع الأسف،فالأسد الهصور الضرغام الغضنفر...إلخ لا يخيف ويرعب لمجرد حمله لهذه الأسماء والصفات بل لأن له مخالب وأنياب تخدش وتنهش وتُدمي؛ولو أزيلت الأنياب من فيه والمخالب من أطرافه ،لبات لعبة بيد الأطفال،والمعنى واضح!
4) السلطة وسيلة وليست غاية،وتحولها إلى غاية انحدار،والأدهى والأمر هو أن تتحول رواتب موظفي السلطة لأداة ابتزاز ناجعة بيد العدو وحلفائه الغربيين،وأن تصاغ العلاقات والمشاريع السياسية والعلاقات الداخلية بناء على الحسابات المتعلقة بهذه المسألة،وبالمناسبة أنا موظف وأتقاضى راتبي من السلطة،ولا أستبعد بعد نجاح الابتزاز السياسي في مجال الرواتب،أن يأتي يوم تطلب فيه الرباعية من كل موظف أن يكتب إقراراً خطيا يوقع عليه ويبصم بإبهامه يتضمن الاعتراف«بحق إسرائيل في الوجود ،ونبذ العنف،والالتزام بالسلام ووو...!» ،هذا السيناريو ليس مستبعدا ما دامت وسيلة الابتزاز أظهرت نجاعتها بشكل مذهلّ!
5) ربما كان يؤخذ على أبي عمار حرصه على حفظ خط الرجعة مع الجميع؛ولكن سياسة فتح العامة بعده كأنها انتقام وثورة على تلك السياسة فيما يتعلق بشكل خاص بطرف فلسطيني،فأبجديات السياسة تتطلب عدم قطع شعرة معاوية،وألا تعلن مواقف مطلقة غير قابلة للتأويل،وتجنب الصعود على الشجرة،حتى لا يضطر السياسي –المحنك طبعا- لطلب النجدة للنزول عنها،عدا عن تجنب انتهاج طرح وخطاب متشنج منفر؛فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أحد أعضاء وفد فتح للحوار لم يتردد في إطلاق أمنية له عبر شاشة تلفزيون فلسطين بعيد تفجيرات بحر غزة قائلا:«كنت أتمنى أن تطال هذه التفجيرات أبطال الحرب الأهلية من سعيد صيام للجعبري...!!» أولم يكن من الأجدر تجنب مثل هذا الكلام،ولو حتى من باب أنه قد تأتي لحظة- وقد أتت فعلا- يجلس فيها مع هذا الفريق وجها لوجه؟ وبعد شهور من هذا التصريح استشهد الرجل الأول مع ابنه،أما الثاني فهو من أخطر المطلوبين في قوائم الاغتيالات الصهيونية،وقد فقد قبل بضع سنين ابنه البكر وبعضا من أشقائه في قصف صهيوني لمنزله،ومع الأسف انسحبت هذه الثقافة أفقيا وعاموديا،وكثيرا ما سمعنا وقرأنا أثناء الحرب على غزة ألفاظا «وأمنيات» مشابهة،والمطلوب مراجعة سياسة القطع وعدم حفظ خط الرجعة فورا وبلا تردد،فليس من المعقول إبقاء الباب مفتوحا للتفاوض والحوار مع عدو غاصب،وإغلاق باب الحوار والتفاهم مع من لا مجال لتعداد نقاط الالتقاء معهم من أبناء الوطن،بل حتى أن الشراكة تصل للجذور الفكرية ،فهناك إجماع بأن العديد من مؤسسي حركة فتح كانوا إما أعضاء أو مناصرين لحركة الإخوان المسلمين،وهي الحركة الأم لحماس.
هذه بعض الملاحظات والحقائق التي أتمنى على حركة فتح بمختلف مستوياتها النظر إليها بعيدا عن التشنجات والأحكام المسبقة ،لأن فتح هي التي يمكنها -إذا أرادات – أن تلقم هيلاري حجرا،وأن تضع حدا لدايتون وغيره،وهذا الأمر يتعلق بمصير فتح ومستقبلها وأيضا يمس مجمل الوضع الفلسطيني.
وفيما يخص حركة حماس ومحاولات «ترويضها» و«توريطها» بعد الفشل الذريع لمحاولات تصفيتها عسكريا ،فهذا موضوع المقال أو المقالات القادمة بمشيئة الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق