صحيح أن السلطة في رام الله أطلقت سراح 45 حمساوياً، من بين 400 تحتجزهم في سجونها، إلا أن استمرار الاعتقال والتنكيل أثناء اجتماعات القاهرة له رسالة يتعذر تجاهلها، تقول إن الموقف الجوهري قد يهدأ، لكنه لن يتغير.
هذه الإشارة إلى ما هو جوهري في المواقف تستدعي خلفية أخرى يتعين التذكير بها قبل أي دخول في التفاصيل، حتى نكون على بينة من أصل الخلاف وجذوره، والقوى والعناصر التي تتحكم في مساره. ذلك أننا نبسط الأمر كثيراً ـ هكذا قلت أكثر من مرة ـ إذا حصرنا الخلاف بين حركتي فتح وحماس، أو اعتبرناه صراعاً حول السلطة، لأنه في حقيقته خلاف حول المنهج يتجاوز الحركتين ويطرح نفسه بقوة في الساحة السياسية العربية، من حيث إنه تجسيد للانقسام بين نهجين، أحدهما التزم بالتسوية السياسية، والثاني انحاز إلى صف المقاومة، وهو ما دعا أحد المثقفين الفلسطينيين البارزين إلى القول إن الانقسام في الصف الفلسطيني لم يبدأ بنتائج انتخابات عام 2006، ولا بعد تولي حماس للسلطة في القطاع في منتصف عام 2007، وإنما بدأ مع توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 (الذي كان عرابه السيد أحمد قريع رئيس وفد فتح في لقاءات القاهرة الأخيرة).. منذ ذلك الحين اعتبرت المقاومة عقبة في طريق السلطة، التي نشأت بعد أوسلو، وظل الأمر تحت السيطرة، إلى أن أفرزت انتخابات عام 2006 سلطة جديدة منحازة إلى صف المقاومة، الأمر الذي أربك العملية واعترض المسار الذي كان مرسوماً. لذلك ظل إقصاء تلك السلطة وعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات مطلباً ألحت عليه وتمسكت به كل القوى المنحازة إلى التسوية السياسية، فلسطينياً وعربياً. وهذا الإقصاء هو الهدف النهائي لكل المساجلات والمصادمات والحيل، التي تتابعت على المسرح الفلسطيني منذ عام 2006 وحتى هذه اللحظة.
هذه المرة اختلف الأمر من أوجه عدة، فمن ناحية كانت ظلال العدوان البشع على غزة ماثلة أمام الجميع، بما استدعته من تعزيز لموقف المقاومة. وإحراج لدعاة التسوية السياسية. ومن ناحية ثانية فإن نتائج الانتخابات الإسرائيلية جاءت دالة على أن الأغلبية في "إسرائيل" ليست مستعدة لإقامة السلام مع الفلسطينيين. من ناحية ثالثة فإنه على صعيد الإجراءات، فإن «السيناريو» الذي وضع لترتيب الحوار جاء مختلفاً. ففي جولة نوفمبر الماضي كان مطلوباً من ممثلي الفصائل أن يوقعوا في البداية على الورقة، التي حملت عنوان «المشروع الوطني الفلسطيني». وبعد التوقيع ينفض السامر، لتتولى خمس لجان مناقشة تفاصيل ملفات القضايا العالقة الخمس: المصالحة الوطنية ـ حكومة الوحدة الوطنية ـ إعادة بناء الأجهزة الأمنية ـ الانتخابات الرئاسية والتشريعية ـ إعادة بناء منظمة التحرير.
أما كيف اختلف السيناريو هذه المرة، فقد كان ذلك واضحاً في أن الجهة المصرية الداعية للحوار (المخابرات العامة) لم تقدم ورقة بخصوص موضوعاته ومبادئه، كما حدث في السابق، ولكنها قدمت أكثر من ورقة تتعلق بإجراءات الحوار وإطار عمل اللجان الخمس. وما لا يقل أهمية عن ذلك أن الترتيب المصري تخلى عن فكرة التوقيع أولاً ثم مناقشة التفاصيل، ولجأ إلى أسلوب آخر أفضل، إذ دعي وفدان من حركتي فتح وحماس للحوار أولاً، ثم دعي 11 فصيلاً آخر إضافة إلى ممثلين للمستقلين. وفي نهاية هذه المناقشات صدر البيان الخاص بتشكيل اللجان ومهامها والتوقيت الزمني لتلك المهام (تحدد يوم العاشر من مارس لبدء أعمال تلك اللجان، على أن تنتهي من مهامها خلال عشرة أيام).
ثمة رسالة رابعة وجهها السيد عمر سليمان في كلمته أمام الفصائل، حين غمز في قناة حماس والجهاد، قائلاً: إن مؤتمر المصالحة الأول لم ينعقد بسبب عدم توافر الإرادة لدى البعض، (لم يكن ذلك هو السبب الحقيقي كما ذكرنا) وحين دعا إلى اتخاذ قرار الفصائل (بشكل مستقل بعيدا عن التوازنات الإقليمية)، مشيراً بشكل ضمني إلى دور إيران في مساندة حماس. ومتغاضياً عن الجهات التي تدعم الطرف الآخر، والتدخلات الدولية المفتوحة في مختلف عناوين الملف الفلسطيني. وهي رسالة جاءت دالة على أن القاهرة ما زالت على موقفها المسجل في ورقة «برنامج العمل الوطني الفلسطيني»، التي أعدتها لمؤتمر المصالحة الأول.
الآتي المتمثل في مهام اللجان الخمس، بعضه مقدور عليه، وبعضه يتعذر إنجازه، فالمصالحة إذا تمثلت في وقف الحملات الإعلامية والإفراج عن المعتقلين بصورة تدريجية، ورفع الحظر عن الجمعيات، التي تم إغلاقها، فإن ذلك يظل في حدود الممكن. ولا أظن أنه ستكون هناك مشكلة كبيرة في الاتفاق على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في يناير عام 2010، وأشك كثيراً في أنه يمكن أن يتحقق شيء في إعادة بناء منظمة التحرير، وهي المسألة التي اتفق عليها في مؤتمر القاهرة عام 2005، ولكن السيد أبومازن رفض أن يتخذ أي خطوة بخصوصها. وأظنه لن يغير موقفه، بعدما أصبحت مفاتيح المنظمة في يد السلطة.
أما القضية التي يمكن أن تفجر الموقف وتعيده إلى نقطة الصفر فهي مسألة حكومة الوحدة الوطنية، التي سيظل تشكيلها والاتفاق على برنامجها من المستحيلات إذا استمر الإصرار على إقصاء حماس منها، في ظل حصولها على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي. أما إذا وجدت فيها فإن ذلك سيؤدي إلى إفساد الفيلم كله، الذي يراد به في النهاية إقصاؤها وإخراجها من المشهد السياسي. علماً بأن تشكيل الحكومة ضروري للشروع في إعادة بناء الأجهزة الأمنية ولإعادة الإعمار في القطاع.
إن الخرائط الراهنة لا تسمح بحل ذلك المشكل المركب، إلا في حالة واحدة هي أن تهبط علينا معجزة من حيث لا نحتسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق