نفذت حركة «حماس» بعد صلاة الجمعة (14/8/2009) عملية أمنية دموية ضد رموز ورواد التيار «السلفي الجهادي» في غزة أسفرت عن مقتل 19 شخصاً وأربعة من عناصر القسام وإصابة نحو مائة بجراح، واعتقلت قرابة الـ 90 عنصراً آخرين. ومن بين الضحايا إمام المسجد الشيخ عبد اللطيف موسى الشهير بأبي النور المقدسي. أما مصير الشيخ أبو عبد الله المهاجر أمير جماعة «جند أنصار الله» فما زال مجهولاً رغم أن بعض الأنباء ترجح مقتله.
ولا شك أن الحدث المروع كاف لفتح ملف الصراع بين «السلفية الجهادية» و«حماس» على مصراعيه خاصة بعد أن باتت المواجهات الدامية هي السمة البارزة للعلاقة بين الجانبين. وهو ما سنقوم به لاحقاً، إما في سلسلة مقالات تتعرض لإجمالي العلاقة بين «الإخوان المسلمين» و«السلفية الجهادية» على مستوى العالم، ومن بينها العلاقة مع حركة «حماس»، وإما في صيغة دراسة موثقة تضع الأمور في نصابها في فلسطين وخارج فلسطين.
لكن في المقالة موضع النظر؛ لا بد من وضع النقاط على بعض الحروف التي أحاطت بالواقعة الدموية في ضوء وقائع سابقة مماثلة تكررت ومست «السلفية» وغيرها في غزة على وجه الخصوص.
وبداية نلفت الانتباه إلى أن المقالة موجهة لقادة «حماس» وكوادرها ومناصريها ولنهج الحركة وسياساتها. وليست موجهة ضد الأتقياء، الأنقياء، الأصفياء، الصادقين، والمخلصين من «حماس» أو «الإخوان المسلمين» ممن ينكرون سراً أو علانية ممارسات الجماعة والحركة التي لم يعد يتحملها أو يقبل بها عقل ولا دين. وإنا على يقين أن مثل هؤلاء كثيرون، ولا شك أننا نعذرهم ونثق ونتأمل بهم كل الخير خاصة وأن الشر والظلم حين يسود فإن أمثال هؤلاء لن يكونوا بمنأى عن الإصابة به.
عقدين من الزمان ونحن ننتصر لـ «حماس» ولمجاهديها ولمشايخها ولرجالها الأفذاذ أمثال الشيخ أحمد ياسين، و د. عبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وابراهيم المقادمة، واسماعيل أبو شنب، وعماد عقل، ويحيى عياش، ومحمد ضيف ... ضد كل الأفاقين والمغرضين والمتعصبين والخصوم والمنافقين والكذابين والمضللين والمغررين، وتحملنا البطش والعزل والأذى والتشكيك والطعن والإتهامات والتهديد، وفي السنوات الخمس الأخيرة كتبنا عشرات المقالات دفاعاً عن «حماس» وضد «دايتون» وسلالته، خاصة في السنة الأولى من تشكيل الحكومة برئاسة اسماعيل هنية، وكنا أول من هاجم عصابة دحلان ورعاع أوسلو، وأول من هاجم الرئيس محمود عبّاس، وكانت صحيفة «الحقائق» الدولية شاهدة على ما كتبنا وما قلنا.
ولقد صمتنا على الكثير من الأحداث الجسام. وانتصرنا للحق والحقيقة حيث كان وكانت. ولم نأت على ذكر «حماس» بسوء، رغم كثير ملاحظاتنا، إلا ما كان جزء من نص أو بيان أو خطاب كنا نقوم بتوصيفه على حقيقته في إطار العلاقة بين «السلفية الجهادية» و«حماس» أو «الإخوان المسلمين»، ونادراً جداً ما عبّرت عن رأيي في هذا الموضوع بالذات، وفي أحايين نادرة كنا نسرب بعض الإنتقادات والكثير من النصائح المباشرة وغير المباشرة، أما خلال العدوان على غزة فقد رفضنا أن نكتب حرفاً واحداً إلا نصرة للمجاهدين وللمنكوبين.
وبعد الحرب فضحنا كل زيف وضلال وتآمر على الأمة في سلسلة خريف غزة العاصف.. ومع ذلك فلم نتلق من سفهاء «حماس» إلا العنت والكذب والتحريض ونكران الجميل والتحريض الرخيص الذي لا ينم إلا عن عقليات متعصبة ومتعجرفة ومريضة وبغيضة لا أخلاق لها ولا شرع تحتكم إليه.
عنف .. إقصاء .. اتهامات .. تخوين
والآن يمكننا أن نبدأ ونقول بأن «حماس» دأبت على استخدام الإقصاء الشديد والعنف المفرط وغير المنضبط بأية قواعد قانونية أو شرعية أو انسانية أو اخلاقية ضد خصومها، سواء كان الخصوم جماعات اسلامية، أو تنظيمات علمانية، أو أفراد أو عشائر وعائلات، أو حتى مساجد تقع خارج سيطرتها. لكن خصومتها ضد «فتح» مثلاً ليست تعبيراً عن قطيعة سياسية كما يتصور البعض، ولا هي خصومة عقدية رغم أن بعض مشايخها يفتون، وقت الحاجة، بأنها حركة علمانية مرتدة يجوز قتالها، ثم يتراجعون عبر سلسلة طويلة من الحوارات في العواصم العربية بحيث يغدو «المرتدين» بين عشية وضحاها «أخوة».
أما خصومتها مع «التيار السلفي الجهادي» فهي خصومة سياسية وعقدية في الصميم. لذا فالمواجهة معه مستمرة وبلا هوادة ابتداءً من الإعتقال، وانتهاءً بالتصفية الجسدية، وحتى بالتغطية السياسية كما حصل ضد «فتح الإسلام» في مخيم «نهر البارد» شمال لبنان.
قبل الصراع مع «فتح» في غزة، لم يكن في جعبة «حماس» ومن ورائها «الإخوان»، إلا اتهام الخصوم والمخالفين بأبشع التهم وأشدها انحطاطاً، ابتداء من التخوين والعمالة، وانتهاء بالشذوذ الجنسي. وقبيل سيطرتها على القطاع سادت ظاهرة «الفلتان الأمني» التي شاركت بها كل الأطراف بما فيها حركة «حماس»، سواء عبر الفعل أو رد الفعل، وسواء كانت مكرهة أو مختارة. أما وقد ظهر التيار السلفي الجهادي الآن، فقد انضافت إلى القائمة تهمة أخرى مثل تهمة القتل والتكفير. فالسلفيون يقتلون الناس، حقيقة أو زعماً، وهم تكفيريون شاؤوا أم أبوا!
أما «الفلتان» فقد تضخمت لتمسي تهمة تحتضن جميع التهم وتعبر عنها وتنطق باسمها. وهذه تهم سياسية وأيديولوجية، من جانب واحد، لا علاقة لها بالأمن إلا بموجب ما تراه «حماس» كذلك. وهي تهم تشبه تلك التي وجهت ضد القاعدة بأنها على علاقة بإيران رغماً عن أنفها، حتى لو كانت هي من هاجمتهم في العراق، وشنت حرباً طاحنة ضد ميليشيات الروافض من جماعات الغدر والقتل على الهوية، ابتداءً من «فيلق بدر»، مروراً بـ «جيش المهدي»، وانتهاء بـ «حزب الدعوة».
حزمة الإتهامات التي توجهها «حماس» لمعتقلي السلفية أو ضحاياها هي تهم أمنية بامتياز. فهم، بالنسبة لها، إما مخترقون، وإما عملاء، وإما أنهم يعملون لحساب أطراف خارجية. وهذا يعني أنهم إما «كاذبون»، أو «مجرمون»، أو «جهلة»، أو «لصوص» ... ليس بينهم «شريف» ولا «طاهر» أو «عفيف». فقبل اغتيال الشيخ أبو النور المقدسي لم تكن ثمة تهمة واحدة توجه للرجل الذي لم تشب حياته شائنة تذكر، حتى قبل مقتله بقليل. لكنه بعد المذبحة «تبين» أنه يتلقى راتباً من حركة «فتح»!!! بل هو أكثر من ذلك. فهو يتلقى حيناً راتباً من «دايتون» وحيناً آخر من «فتح» وثالثاً من «فيّاض»، ورابعاً من «جهات خارجية».
وكل من يفعل ذلك، فهو مثل أبي النور على علاقة بـ «دايتون» وبـ «الموساد» الإسرائيلي!!!! أما من يتلقى راتباً من «حماس» وإيران فهو وطني شريف!!!!!
العجيب في هذه الإتهامات أن رواتب الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم، داخل فلسطين وخارجها، توقفت عن الصرف بمجرد فوز «حماس» وتشكيلها للحكومة. فلم يعد أحد يقبض راتباً لا من «فتح» ولا من «حماس»، أو المحسوبين عليها من العاملين موظفين في السلطة ومؤسساتها.
أما لماذا؟ فلأن الدول المانحة من سلالة «دايتون» أوقفت صرف الرواتب. والأعجب منها حين كانت تجهد «حماس» في لملمة الرواتب من التبرعات ومختلف الدول العربية، وتحملها بالحقائب كي تدفعها لمستحقيها من «فتح» وغير «فتح». لكن الأشد عجباً يكمن في حماس التي لا تزال تفاوض على وحدة وطنية مع «فتح» و«السلطة»، وتتحدث عن ترتيبات وتفاهمات وشروط وتقاسم للسلطة مع «فتح» زكمت أنوف التنظيمات الأخرى، بما فيها تنظيمات اليسار.
فإذا حصل مثل هذا الأمر فهل ستكون الرواتب آنذاك وطنية وشريفة ونظيفة؟ أم ستجري لها غسيل أموال وتطهير من الرجس؟!! أم ستدفعها «حماس» من جيبها الخاص؟ وهل أموال الشعب الفلسطيني وممتلكاته وتراثه ووثائقه وموجوداته الحضارية التي تسيطر عليها الآن منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة شريفة ونظيفة؟ أم أنها دايتونية؟ وعميلة؟ ما هي صفة هذه الثروات يا قادة «حماس»؟ وما هي صفة عشرات الملايين إن لم يكن المئات ممن جمعت من تبرعات الأمم والشعوب باسم الشعب الفلسطيني ودعمه ونصرته وتسلمتموها كأمناء عليها؟ وتعلمون أنها أموال أمة، وليست أموال تنظيم أو حركة أو حزب. فأين هي؟ ومن يسائلكم عنها؟ وهل تقاتلون السلفية الجهادية بها؟ وتكسرون الأرجل بها؟ وتقمعون المخالفين وتشوهونهم بها؟ أم ستتقاسمونها مع منظمة التحرير حين قيام الوحدة العتيدة؟ أجيبونا يرحمكم الله، وأجيبوا الأمة، وأجيبوا المتبرعين الذين اقتطعوها من قوت ابنائهم؟ قولوا لنا كيف تنفقونها؟ وفي أي اتجاه؟ أم أنكم المخولون بمحاسبة الناس والله سيحاسب الجميع؟
نماذج فتاكة في القتل والتعذيب
«حماس» في غزة كـ «فتح» في الضفة الغربية. كلاهما تنظيم سياسي، وكلاهما على رأس السلطة، وكلاهما يستغل السلطة التي بين يديه في خدمة التنظيم أو الجماعة. وكلما حدثت مشكلة «أمنية» غامضة!!! أو مصطنعة في غزة، كلما صبت «حماس» جام غضبها على السلفية الجهادية ووجهت لها أولى الاتهامات وأبشعها، وجندت جيوشها الأمنية والحربية وشرعت في حملات مطاردة واعتقال جماعية قبل القيام بأية تحقيقات من أي نوع. فما من قضية حققت بها «حماس»، وما من قضية أظهرت بها التحقيق كما أظهرت بأسها عبر آلاف المقاتلين. هذا ما حدث ضد «جيش الإسلام» حين اختطف الصحفي البريطاني ألن جونسون (12/3/2007)، وفي مجزرة «حي الصبرة» بغزة، وفيما عرف بتفجيرات الشاطئ (25/7/2008)، وعرس «جورة العقاد» (21/7/2009)، وحملة اعتقالات «جيش الأمة» (21/5/2009)، ومطاردات «جند أنصار الله»، وأخيراً مذبحة مسجد ابن تيمية.
في أعقاب سيطرة «حماس» على قطاع غزة، وطرد «فتح» منه، وإنهاء سلطة الأجهزة الأمنية التي كان يقودها محمد دحلان، استبشر الكثير خيراً بالتخلص من رموز الجنرال «دايتون» وعملائه ومجرميه. لكن المفاجأة كانت في الصور البشعة التي بثتها الحركة لسميح المدهون، أحد أشهر رجال دحلان في القطاع والمتهم بالدموية. فقد كان مشهد السحل والتصفية الجسدية مروعاً ولا أخلاقياً ولا انسانياً. والأسوأ أن «تلفزيون الأقصى» التابع للحركة قام ببث المشاهد تباعاً وتكراراً وكأن المشاهدين من الصغار والكبار، والصديق والعدو، والجاهل والأحمق والسفيه والمغرض والعاقل والمجنون، شركاء راضون وفرحون بالموت البشع للمدهون والتشفي به أمام العالم. فلمن توجه هؤلاء بهذه الصور التي لا تنم إلا عن شخصيات مازوشية؟ هل ارادوا بها تخويف اليهود والغرب بوصفهم أعداء الأمة؟!!!!
وقعت مجزرة «حي الصبرة» ضد عناصر «جيش الإسلام» خلال شهر رمضان الماضي، وأسفرت عن مقتل أحد عشر شخصاً. ولسنا بصدد تثبيت ملابسات القضية فليس هذا أوانه ولا مكانه. لكن الفيديوهات التي نشرت عن المذبحة أظهرت شباناً داخل منزل، نُصِبوا على امتداد الجدار، وأطلق الرصاص على ركبهم قبل أن يعدموا رمياً بالرصاص. بل أن بعضهم كانوا أحياء، وفيما طلب أحد المهاجمين من القسام اسعافاً لأحدهم رد آخر بعبارة «خليه يموت» وآخر سخر من جريح يتشهد بالقول: «خلي ممتاز دغمش يشفعلك في جهنم»! وفي منطقة أخرى ظهرت عملية سحل للضحية جميل دغمش وقتل في الشارع. وأطلق الرصاص على أرجل نساء، وذهبت قذيفة صاروخية بنصف رأس طفل ذو أربع سنوات.
خلال العدوان الصهيوني المجرم على قطاع غزة قتل سعيد صيام وزير داخلية «حماس» بخيانة من داخل «حماس» نفسها. والحقيقة أن للرجل أعداؤه خاصة من «فتح». وفي الضفة الغربية وزع بعض السفهاء حلوى احتفالاً بمقتل صيام، ولم يستطع أحد أن يمسهم لا من «حماس» ولا من «فتح» بطبيعة الحال كون الرجل أحد خصومها. لكن في غزة وقع أحد المغفلين في ورطة لما اكتشفت «حماس» أنه فرح بمقتل صيام. «جريمة الفرح» التي ارتكبها هذا «المغفل» كان ثمنها قصاص وحشي في وسط الشوارع، قضى بتكسير أرجل الشاب بعصا فأس غليظة عدة مرات. فهل صدر قرار ادانة عن محكمة شرعية اشترطت تنفيذ القصاص على مرأى من العالم بهذه الوحشية؟
وفي مسجد ابن تيمية تمت مذبحة أشد فتكاً من سابقتها. حيث دارت معركة شرسة قتل فيها تسعة عشر شخصاً من بينهم إمام المسجد الذي تم تفجير منزله على رأسه. كل ما في المشكلة أن «حماس» تريد السيطرة على المسجد ووضعه تحت إشراف وزارة الأوقاف. وعلى حد علمنا لم يكن إمام المسجد إلا طبيباً، وطالب علم شرعي، وخطيب وواعظ أبى أن يتخلى عن مسجده، خاصة وأن لكل فصيل في غزة مساجده. لكن المحلل على بلابل الدوح محرم على الطير من كل جانب. قد تلقى المسجد وسكانه عشرات القذائف الصاروخية (R.B.G) وكأنه مسجد ضرار أو كنيس يهودي في مستوطنة. فهل كان المسجد هو الإتجاه الصحيح كي يتلقى كل هذه القذائف المسعورة؟
بعض المعلومات المتعلقة ببتر الأطراف في غزة تقول أن هناك ظاهرة معاقين في البلد وصلت إلى ما بين 350 - 400 معاق فقدوا ارجلهم جراء تصرفات وحشية من عناصر «حماس». وثمة 14 منهم يعيشون الآن في إحدى الدول العربية. والقصة تبدأ من خلاف أو خصومة أو شكوك، ثم تنتهي بوضع فوهة المسدس أو البندقية خلف غضروف الركبة ثم ثنيها وإطلاق النار عليها كي تفسد الساق برمتها ولا يعود بالإمكان علاجها إلا بالبتر.
هذه نماذج من الممارسات الفتاكة لـ «حماس»، فضلاً عن عمليات قتل فردية لم يحصل أصحابها إلا على برقية اعتذار عن خطأ لقتل متعمد تعلمه «حماس» وقيادتها جيداً ابتداء من خالد مشعل وانتهاء بإسماعيل هنية. أما في المعتقلات وحرمانهم من الوضوء والتطهر واستكثار الصلاة على المعتقلين وتعذيبهم وحرقهم بالسجائر وغيرها، وانتهاك حرمات البيوت، فحدث ولا حرج، حتى صار لكل «غزاوي» مأساة وملف أمني لدى دوائر «حماس» وأجهزتها الأمنية.
أليس من حق الضحايا الذين استبيحت دماؤهم في «حي الصبرة» و«مسجد رفح»، أو كُسِّرت أرجلهم في الساحات العامة، أو بترت بوحشية، أو أولئك الذين تم سحلهم وتصفيتهم على مرأى من العالم، أن يحظوا بمحاكمة ولو ظالمة؟
أليس من حقهم الشرعي والحيواني أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن انفسهم، سواء كانوا مخطئين أو أبرياء؟
أليس من واجب «حماس» باعتبارها القائمة على السلطة أن تتأنى فيما تقدم عليه من ممارسات، خاصة فيما يتعلق بأرواح الناس ومصائرهم. لكن بما أن مثل هذا الأمر لم يحصل قط ولا في سابقة واحدة، فمن حقنا أن نتساءل: بأية مرجعية قانونية أو شرعية تحدث هذه الممارسات..؟ ولماذا تمعن في القتل والتعذيب بدم بارد ودون أن يرتد إليها طرف..؟ ومن أين جاءت «حماس» بهكذا ممارسات لم يألفها الفلسطينيون، ولم تسبقها إليها حتى المنظمات الفلسطينية في عز سلطانها..؟ فهل يحسبون أنفسهم فوق المساءلة والنقد والمحاسبة..؟ وهل يحسبون أنفسهم مخلدون على بقعة من الأرض حتى يفعلوا بها وبأهلها ما يحلو لهم..؟
سياسة ومنهج وليس فتنة
المتابع لما جرى في مسجد إبن تيمية يعلم حق العلم أن «حماس» نفذت سياسة تتطابق مع منهجها في علاقته بالسلفية الجهادية. فالمعروف عن المسجد أنه الأشهر بين مساجد غزة من حيث كونه بعيداً عما يعرف بمساجد الجماعات والتنظيمات. فلا هو لـ «فتح»، ولا هو لـ «الجهاد»، ولا هو لـ «حماس». والحقيقة أن سكان غزة ليسوا كلهم مؤطرين في الفصائل والتنظيمات. ولأن الناس تثق بمصداقية إمام المسجد وورعه وبعده عن الأطر التنظيمية وصدعه بالحق وتقديمه لدروس دينية بعيدة عن التوجهات الأيديولوجية، فقد لاقى المسجد وإمامه شعبية واسعة. وبات يشتهر بمسجد أهل السنة والجماعة، ويؤمه الآلاف من مختلف الشرائح الإجتماعية، وحتى من الفصائل والتنظيمات ممن سئموا من اطرهم السياسية والتنظيمية ويئسوا من الأوضاع القائمة.
هذه الوضعية للمسجد سببت احراجاً لـ «حماس» التي بدأ بعض منتسبيها والناس يستأنسون بخطب الشيخ عبد اللطيف موسى، ويتأثرون نوعاً ما بها. ولأن المسجد بات أيضاً قبلة لعموم الجماعات السلفية، فقد شعرت «حماس» بحجم ما يمثله من خطر عليها وعلى اطروحاتها. لذا قررت انتزاع المسجد من أهله والقائمين عليه، ووضعه تحت إشراف وزارة الأوقاف. لكن هذا معطى واحد فقط مما رغبت «حماس» بتحقيقه من وراء هذه المحاولة.
فقبل أقل من ثلاثة أشهر شرعت «حماس» بسياسة جديدة لاستئصال التيار السلفي الجهادي ولو بالقوة. فقد نفى إيهاب الغصين الناطق باسم وزارة الداخلية لحكومة «حماس» أن يكون الجهاز اعتقل أربعة عناصر من «جيش الأمة» يوم (21/5/2009). بل وأنكر وجود «جيش الأمة» في القطاع من اساسه، قائلاً إنه لا يوجد شيء بهذا الإسم، وواصفاً « بيان التنظيم بالمدسوس»! رغم صدوره على الموقع الإلكتروني للجيش في نفس يوم اعتقال الأربعة. وذات التصريحات كررها أبو عبيدة الناطق باسم كتاب القسام في لقائه على موقع «الجزيرة توك». أما «الجيش» فقد أصدر بياناً لاحقاً بعنوان: «يا قادة حماس اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - 7/6/2009» أعلن فيه عن اعتقال سبعة آخرين واختطاف «حماس» لزعيمه أبو حفص المقدسي.
وقد بدا لافتاً للإنتباه تنبه «جيش الأمة» في ذلك الوقت لِمَا بدا له محاولة استئصال مبيتة تعد لها «حماس»، خاصة وأنها واصلت مسلسل اعتقالاتها لعناصر السلفية الجهادية حتى بلغت قرابة الـ 300 عنصر من بينهم حوالي 50 عنصراً من الجيش. وكانت اللفتة الأكثر إثارة تلك الشهادة التي نقلتها صحيفة «الحقائق» الدولية في مقالة خاصة بها بعنوان: «حماس ومأساة جيش الأمة - 6/1/2009» عن أحد قادة الجيش تعقيباً على تصريحات الغصين وأبو عبيدة قال فيها بأن: «حماس تخطط لضربنا بطريقة تختلف عن ضرب جيش الإسلام، حتى لا تقع في حرج. فهي عندما تنكر وجودنا فلأنها تهيئ لمجزرة جديدة بحق مجاهدينا، عبر اظهارنا مجرد «مجرمين» أو «أفراداً منفلتين» ممن يضرون حسب زعمها بمصالح الشعب الفلسطيني، ويعكرون صفو الإستقرار، لاسيما وأنهم يعملون خارج تنظيماتهم».
في الأثناء ظهرت جماعة «جند أنصار الله» في غزة عبر عملية معقدة أسميت بـ «غزوة البلاغ - 8/6/2009» نفذها مجموعة من مقاتلي الجماعة، بعضهم امتطوا فيها الخيول، وقتل منهم ثلاثة وانسحب الباقون، فيما أصيب آخرون، توفي منهم اثنان لاحقاً. وقد أمسكت «حماس» بالمصابين وأخضعتهم للتحقيق وصادرت عتادهم إضافة لـ 50 ألف دولار كانت بحوزتهم.
والحقيقة أن بوادر شكوك ساورت بعض أنصار التيار السلفي بخصوص حقيقة الجماعة التي ظهرت بهذه القوة فجأة، وبايعت الشيخ أسامة بن لادن في بيان صوتي باسم اميرها أبو عبد الله المهاجر. وكان مصدر القلق حول ما أشيع عن علاقة الجماعة بحركة «حماس» نفسها. فالمألوف لدى الكثير من الأطر السلفية في غزة، أن أمير الجماعة المعروف باسم «أبو عبد الله السوري» جاء من سوريا بإيعاز ورعاية من خالد مشعل للمساهمة في تدريب كتائب القسام، التي استفادت مما يتمتع به الرجل من خبرات عسكرية جيدة. وعمل فعلياً، بصمت وسرية، تحت جناح «حماس» طوال أكثر من عام لكنه هجرها، وتحالف مع الشيخ أبو النور المقدسي كشرعي للجماعة، وغطاء روحي لها، ولغيرها من الأطر السلفية.. خاصة وأن الرجل لم يعهد عنه إلا الثبات والصدع بالحق.
هكذا بات أبو عبد الله المهاجر مطارداً هو وجماعته من «حماس» وكتائب القسام والداخلية. واشتدت المطاردة بعد انفجار منصة عرس «جورة العقاد» عبر حملة تشويه للتيار السلفي، خاصة ضد جماعة «جند أنصار الله»، تماماً مثلما حصل في تفجيرات الشاطئ. ورغم إصدار الجماعة بياناً تبرأت فيه مما نسب إليها (21/7/2009) إلا أن «حماس» أصرت على ملاحقة عناصر الجماعة واعتقالهم. وفي اليوم التالي لتفجير منصة حفل الزفاف (22/7/2009) حاصرت كتائب القسام خلية للجماعة تقيم في شقة في «برج شعث»، وقطعت عنهم الماء والكهرباء وطالبتهم بتسليم أنفسهم وفق ما أشار إليه بيان الجماعة. وكان من الطبيعي إزاء هذه المضايقات والمطاردات أن تبحث الجماعة عمن تحتمي به، أو ينتصر لها، خاصة وأنها لم تعد تأمن على نفسها لا من القسام ولا من «حماس»، ولا من الحكومة وأجهزتها الأمنية.
هذا بالضبط ما حصل في قضية مسجد ابن تيمية. فالمسجد كان بمثابة الفخ الذي نصبته «حماس» للسلفيين في غزة، ولـ «جند أنصار الله»، كي تصطاد أكثر من فريسة بهجمة واحدة. فالمسجد تعرض للمضايقات والتحرشات والضغوط على امتداد عام ونصف. لكن قبل عشرة أيام على الأقل دفعت «حماس» وأجهزتها الأمنية بعشرات العناصر الإستخبارية والمسلحة وحاصرته من كل الجهات، ووضعته تحت المراقبة على مدار الساعة، وأبلغت إمام المسجد نيتها استلامه «رغم أنفه»، وكانت ليلة الجمعة (13/8/2009) شبه حاسمة في الحشد والإستعداد للمواجهة، خاصة وأن إمام المسجد أصر على عدم تسليمه، وأبدى جاهزيته للموت دونه. وعلى فرض أن أهل المسجد فقدوا صوابهم؛ ألم يكن من الأولى والأجدى والأرحم، إزاء هذا التوتر الشديد والقهر، أن تتعقل «حماس» وتتراجع لتهدأ الأمور وتبدأ جولة جديدة بدلاً من التعجل في سفك الدماء..؟ ثم سوق الأكاذيب الفاجرة بأن أهل المسجد هم من بدأ القتال..؟ فمن الذي بيده القدرة على بدء المواجهة أو منعها..؟ المدافعون عن أنفسهم ومسجدهم..؟ أم المهاجمون..؟
لذا لم تكن المواجهة التي حصلت عقب صلاة الجمعة بسبب إعلان إمام المسجد إمارة اسلامية لا يستطيع أن ينفذ من متطلباتها أي شيء يذكر. وليست إعلان الإمارة دولة يمكن بها مواجهة «حماس»، وليست دعوة الشيخ أبو النور المقدسي خروجاً بقدر ما كانت استعداداً للموالاة والطاعة التامة لحكومة «حماس» فيما لو طبقت الشريعة، فهو من أبدى استعداده ليكون خادماً لها. بل كان الإعلان أقرب ما يكون إلى محاولة للتحصن بما يمكن أن يردع «حماس» عن نواياها باقتحام المسجد والسيطرة عليه وتشريد أهله. إعلاناً يعبر عن التصميم على عدم التفريط بالمسجد، خاصة وأن «حماس» سبق لها وأن سيطرت على عشرات المساجد بالقوة والعسف وأذلت ائمتها، وليس خسارة حركة «الجهاد الإسلامي» لأكثر من عشرة مساجد ببعيدة. كان إعلاناً لحماية الشباب بمعطى شرعي لا غبار عليه للحيلولة دون بطش محتمل يمكن أن تقدم عليه «حماس». لكن!!!!!!!! وقعت المذبحة؛ وكان بيد «حماس» أن تحقن الدماء. ولعل «جيش الأمة» كان محقاً فيما حذر منه قبل أكثر من شهرين.
ما من أحد راقب «حماس» ونشأتها إلا وأدرك أن غياب الرعيل الأول من أساطين الجهاد والمجاهدين نقل الحركة من واد إلى واد آخر. هذه هي الحقيقة. فالواقع أثبت لنا أن كل ما فعلته «حماس» وتفعله، منذ دخولها للعمل السياسي الحكومي وتوجهها نحو التسوية، هو سياسة ونهج دموي وليس فتنة .. سياسة لم يقرها أو يعمل بها السابقون .. سياسة استعلاء واستقواء وغطرسة لا رحمة فيها ولا شفقة ولا أخلاق ولا قانون ولا نظام ولا شريعة .. سياسة الكذب الصراح وقلب الحقائق.. سياسة الفجور في الخصومة التي لا ترقب في مؤمن إلاً ولا ذمة .. سياسة لطالما اتهمت فيها خصومها بقتل الناس وتكفيرهم وهي أول وأبشع من يفعل ذلك أو يشرّع له.. سياسة ضيقت الخناق على المجاهدين ومطاردتهم وقتلهم وملء السجون بهم، ثم التنكر لوجودهم والسخرية منهم والتساؤل عنهم: أين هم هؤلاء..؟ سياسة الغدر والظلم والفحش والبذاءة والإستهزاء بخلق الله والتحريض عليهم وضدهم والتشفي بهم.. سياسة بتر الأرجل وتكسير العظام والتعذيب.. سياسة التصفية الجسدية والإهانة والتحقير للغير.. سياسة لا تقيم وزناً لحرمات البيوت.. سياسة غدر لا يأمن فيها امرؤ على ذاته، ولا موقوف في معتقل أو جريح في مستشفى على حياته..
سياسات جوفاء وخرقاء لن تجني منها «حماس» سوى الكره والبغض والحقد وتوريث الأجيال الراهنة والقادمة الرغبة في الإنتقام والعنف المماثل الذي سيكون أشد ضراوة وأنكى مما سبق. وحينها لن ينفع المرقعين ترقيعهم، وقد اتسع الخرق على الراقع. وسينأى هؤلاء بأنفسهم كما سبق وفعلوا في مواضع أخرى. ولن يكون المنافقون والمميعون للأحداث والقالبون للحقائق سوى محرضين، ومثيري فتنة كعادتهم، وحجر عثرة أمام كل بارقة أمل للأمة. فهذا هو الدور الوحيد الذي يجيدونه.
أما غطرسة «حماس» فليست ولن تظل قدر الأمة البائس. ولتتعظ قبل أن تحفر قبرها بيدها، كما يقول الشيخ أبي بصير الطرطوسي، فلم يعد ثمة قليل أو كثير من الوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق