لا احد يستطيع الادعاء بان الشعار الانساني لوقوف الزعيم السياسي لحركة حماس مؤخرا في عمان يمثل القراءة الوحيدة المتفق عليها مع الرجل الذي حظي بعزاء سياسي تمثل بحضور امام الحضرة الملكية لمقر عزاء والده بعد الخطبة السياسية التي دافع فيها مشعل ولو لفظيا عن مضامين لا تكتفي فقط بالتساوق مع مزاج الشارع الاردني فقط لكنها تقدم خدمات خاصة للحكومة الاردنية والموقف الرسمي في هذه المرحلة.
ولا يمكن بالمقابل وبكل الاحوال نزع زيارة مشعل والاهم خطبته المثيرة عن سياقها الانساني الملكي فالرجل نفسه استند في خطابه المؤثر على اللفتة الانسانية الملكية التي سمحت له بالحضور لعمان وقيادة ترتيبات عزاء والده القيادي السابق في جماعة الاخوان المسلمين مع كل النصاب اللازم الذي سمح لمشعل بالتصرف والحضور والمغادرة كزعيم سياسي فلسطيني. اذا زيارة مشعل وان تمت عبر رافعة انسانية الا ان تداعياتها وتفاصيلها- خصوصا تلك التي لم تنشر بعد- تظهر بوضوح ذلك الجانب السياسي الذي اصبح شعارا لكل كاتب مقال تحدث عن المناسبة والزيارة والجماهير التي احاطت بترتيبات تشييع الراحل مشعل الاب.
ومن هنا تفكيك خلفيات واسرار هذه الزيارة يتطلب الغرق في بعض التفاصيل التي لا تفضل بعض مستويات القرار الاردنية بطبيعة الحال التطرق لها، فاحدى الصحف الالكترونية قالت قبل يوم من زيارة مشعل لعمان ان الجنازة ستتم بدون تمثيل رسمي اردني وان مشعل حضر وسيغادر بدون اي حديث سياسي من اي نوع.
مساء السبت تغير مزاج الزيارة ومزاد حضور مشعل لعمان التي عاش فيها اردنيا ويعرفها جيدا، وحصل ذلك بعدما فتحت قنوات الاتصال بين قادة في حركة حماس وحلقات امنية وحكومية واخرى فوق حكومية دخلت على الخط في وقت متأخر.
وبينما كانت الاتصالات الاولية تجري مع مشعل في دمشق ليلة رحيل والده وحصريا عبر القناة المفضلة للاردنيين وهي العضو القيادي محمد نزال توفرت القدرة لاتصالات مباشرة بين مشعل وبعض الشخصيات الاساسية في القرار الاردني في لحظات متاخرة بعد ان التقط الرجل في ما يبدو الاشارات الحساسة بالنسبة لعمان التي استثمرت سياسيا زيارة مشعل لاغراض داخلية ايضا بموافقة الرجل ومعرفته وارادته واحيانا بسعيه.
قبل وصول مشعل الفعلي الى عمان فجر السبت كان المتحدث الرسمي الاردني على الطرف الآخر من الهاتف يضع الرجل بين خيارين بعدما ابلغ بان الملك عبدالله الثاني قرر السماح له بالحضور وقيل له بان ميله لاي من الخيارين لن يؤثر على حضوره لجنازة والده وهي اشارة فهمها مشعل تماما كما يقول مقربون منه.
الخيار الاول كان ترتيب الزيارة عبر جماعة الاخوان المسلمين حصريا التي اعلنت الاستنفار في عمان والسماح للجماعة بكل الترتيبات وبالغطاء الاعلامي وبخطف الجنازة سياسيا وكان المقصود بكل الاحوال جناحا محددا في الجماعة.. في هذه الحالة ـ قيل لمشعل- ستحضر وتغادر بدون اشارات رسمية ولا تتوقع اكثر من الجانب الانساني.
الخيار الثاني كان السماح لجماعة الاخوان المسلمين ببعض الترتيبات اللوجستية لكن ابعادهم تماما عن بعض التحضيرات ومنعهم من خطف المناسبة اعلاميا بمعنى تعهد مشعل بان لا تتحول جنازة والده لمهرجان خطابي اخواني مجير لرصيدهم في الشارع الاردني.. في هذه الحالة فهم مشعل بانه سيحضر لوقت قصير وسيغادر وسيراقب وقد لا يسترخي في بعض التفاصيل.
.. بدون تردد قرر مشعل وفي وقت مبكر الخيار الثاني فارسل لعمان رسالة يقول فيها .. شكرا لكم ساكون ممتنا وساحرص على ان لا يصبح رحيل والدي مناسبة اخوانية .. هنا حصريا سمح لبعض الاقلام في الصحافة الرسمية التحدث عن مضمون سياسي وراء المضمون الانساني لزيارة مشعل الاخيرة، وصيغت عبارات مشعل المختارة بعناية التي تضمنتها خطبته المايكروفونية التي استاذن بشانها وبدا واضحا لكل المراقبين ان هذه المضامين تمنع الاخوان المسلمين من خطف المناسبة والكثير من التفاصيل، وتبرز على المقاس السياسي التفصيلي للموقف الرسمي الذي اعلنه الملك سابقا وترضي غرور نخب الاعلام المحلي والاهم ان مشعل أطلق عبارات مضادة تماما لمنطوق التقرير السري الذي اثار الكثير من الضجة مؤخرا واتهم المؤسسة الاردنية بالعمل مع مشر وع اسرائيلي امريكي لتصفية القضية الفلسطينية.
بمعنى آخر وحسب اخواني عريق مطلع على ما يجري قالت عمان لمشعل انها ترحب به للاشراف على عزاء والده وستمنحه بعض المعززات والمشجعات التي ترفع معنوياته اذا ما وافق على الحضور كزعيم لتيار فلسطيني تماما لا علاقة له بالاخوان المسلمين في الاردن، وهو ما فعله مشعل وزاد عليه اطلاق خطاب يتنصل بوضوح من مضامين اخر تقرير اخواني لا زال يثير الكثير من الضجة في عمان.
وفي هذه المرحلة حصل مشعل على جزرة سياسية فقد استطاع التوقف بين جمهور حاشد في العاصمة عمان وتحديدا في ضاحية الكمالية وهي معقل تيار الصقور في الجماعة الاخوانية لالقاء خطاب بصفته زعيما فلسطينيا معنيا بالثوابت وبدون وهذا مهم جدا- استئذان قادة الاخوان المتواجدين بكثرة في المكان او حتى ابلاغهم والتنسيق معهم.
هذا المشهد امر لم يتح اطلاقا لا للرئيس محمود عباس ولا لنايف حواتمه الذي يزور عمان كثيرا ويتاح له فقط الجلوس في منزل احد الرفاق والاسترسال في ما يقوله تاريخيا.
.. وقفة بهذه التفاصيل كانت حلما مبالغا فيه بالنسبة لمشعل ورفاقه لكن مظاهر الانفتاح الاردني على مشعل لم تقف عند هذه الحدود فبعض المسائل التي تدلل على كرم وسخاء الضيافة ينبغي ان لا تذكر بالتساوي مع البعد السياسي في المشهد برمته. وينطبق الامر هنا على ترتيبات من طراز السماح لمشعل بدخول الحدود الاردنية مع موكب سيارات يخصه وحراسة محلية خاصة والسماح له بادخال مرافقيه وحراسه الامنيين ودخوله على قاعة الشرف الاردنية وتبرع بلدية عمان بتسوية الارض التي اقيم عليها عزاء والده مع التبرع بخيمة العزاء التي كانت من طراز رفيع المستوى.
كل ذلك انتهى بعدما سارت التفاصيل على الخطة المرسومة بتبديد الاشارات حول مشاركة رسمية بالعزاء بعدما زار مقر العزاء الشيخ احمد هليل ارفع رمز ديني اسلامي في الدولة الاردنية، فهو قاضي القضاة وامام الحضرة الهاشمية وتقديمه للعزاء لا يمكن القول بانه خطوة شخصية فقط بكل الاحوال خصوصا وان مظاهر تشييع الجنازة شارك فيها نائب رئيس مجلس الاعيان الرئيس الاسبق طاهر المصري.
وكل ذلك اعقبه استرسال من قبل الصحافة الاردنية بالترحيب ليس فقط بالبعد السياسي او الانساني في زيارة مشعل وخطابه الذي عارض فيه الوطن البديل وتعهد عمليا بالابتعاد عن الاخوان المسلمين بنسختهم الاردنية، ولكن ايضا بخطاب حركة حماس ودعوة صانع القرار الاردني لتنويع اتصالاته وتحالفاته بحيث لا تقتصر فقط على عباس ومجموعة السلطة.
واعقبت ذلك وستعقبه اشادة واسعة بخطبة مشعل التي طرزت على مقاس الجدل الذي تغرق فيه الحالة الاردنية منذ اشهر وهي تترقب خطة الرئيس الامريكي باراك اوباما المزعومة.
والمشهد يعني بالمحصلة ان وقفة مشعل المليئة والمثيرة في عمان دخلت في السياسي وتجاوزت الانساني حتى في تفاصيلها الصغيرة والمبعثرة بصرف النظر عن القصدية في ترتيب الامر عند الطرفين .
وقبل المشهد نفسه كان مشعل يتمكن من دخول عمان انسانيا وسياسيا بعدما اوفد محمد نزال موافقا بوضوح ودون شروط على صفقة التخلي عن التشابك التنظيمي في العلاقة مع الاخوان المسلمين في الاردن ومستعدا للتخلي عن مكاتب وشعب الخليج التي تدر دخلا ماليا كبيرا، معتمدا على قرار تم نسيانه قصدا لمكتب الارشاد العام للجماعة الدولية يسمح لفرع فلسطين وهو حماس بالاستقلال عن الفرع الام في عمان.
بالنسبة لعمان كان عزاء الراحل مشعل الاب فرصة للاطلاع بتعمق على تطورات موقف حماس من المسائل الاردنية الثلاث الاساسية وهي تفكيك العلاقة بين حماس وتنظيم الاخوان الاردني، وخطط حماس بالنسبة للساحة الاردنية، واخيرا مسالة الوطن البديل وخيارات تل ابيب المفترضة.
وعمان هنا حصلت ومن على منصة يحيط بها ثلاثة حراس لمشعل الابن نصبت فوق اعلى قمة في احد اعلى احياء عمان المحسوبة دوما على جناح الصقور .. حصلت على الاجابات المطلوبة والتي تناسبها تماما.
اما بالنسبة لمشعل فاطلالته على الشعب الواحد كما قال وفي العاصمة التي حرم من دخولها سنوات قد تمكنه من العودة للشارع الاردني الذي يشكل قيمة استراتيجية قصوى لحماس في مأزقها الحالي والذي يخطط لموطىء قدم فيه منذ سنوات طويلة مهما ارتفع الثمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق