لماذا أقدمت اسرائيل على الهجوم على غزة؟ يصعب علىّ تصديق أن القيادة السياسية الإسرائيلية قد وصلت حدا من السطحية والسذاجة صور لها إمكانية القضاء المبرم على حماس بعملية عسكرية كهذه، لذا فالأقرب عندى سواء تم الإعلان عن ذلك أم لا أن الحملة العسكرية استهدفت الحد من قدرة حماس وتدمير جزء كبير من البنية التحتية للقطاع لمضاعفة انشغال حماس حتى موعد الحرب التالية بجهود الإعمار، ثانيا: تكتيكيا الظهور أمام الرأى العام الإسرائيلى الداخلى بمظهر القادر على الذهاب إلى أبعد نقطة حفاظا على أمن إسرائيل ردا على حادث اختطاف وقتل ثلاثة مستوطنين، ثالثا: استراتيجيا: عرقلة جهود الوحدة بين حكومتى الضفة وغزة التى باتت أقرب من أى وقت مضى وهو ما يعنى عمليا العودة إلى مربع تفاوضى واحد يخص كافة فصائل العمل الفلسطينى، رابعا: تدمير أنفاق غزة للحيلولة دون تطوير حماس قدراتها الدفاعية عن طريق ما يهرب إليها من أسلحة.. فهل تحقق من هذه الأهداف شىء؟
افتراض أن يؤثر الدمار الهائل فى قطاع غزة سلبيا على شعبية حماس مما قد يحرك غضبا شعبيا فلسطينيا ضدها طرحُ لا يقل سذاجة عن افتراض إمكانية القضاء المبرم على وجود حماس، اعتمادا على عمليات عسكرية مهما بلغت درجة شموليتها..... إذ أنه كلما زاد عدد القتلى من الجانب الفلسطينى ازدادت قدرة حماس ونفوذها على قطاع غزة وقل معها نفوذ سلطة رام الله، وهو ما لا تفهمه إسرائيل، فمنظمة التحرير أضعف من أن تؤثر على حماس وباقى فصائل المقاومة، ربما لو كنا نتحدث عن ياسر عرفات بكل ما يمثله من ثقل لاختلف الوضع، أما مع محمود عباس فالأمر محسوم.
وعلى العكس تماما كلما زاد عدد القتلى من الجانب الإسرائيلى ازداد موقف الحكومة حرجا وزاد الضغط الداخلى عليها؛
وذلك على الرغم من أن خسارة اسرائيل الأكبر ليست فى عدد من سقطوا من العسكريين وإن كان رقمهم كبيرا جدا مقارنة بعمليات سابقة، وإنما فى حجم معاناة الدولة اقتصاديا ومعاناة الشعب معنويا على مدار أسابيع الحرب.
نتنياهو أكد مرارا أن جيشه سيستمر فى العملية من جل أمن إسرائيل، لكن المثير أن حماس استطاعت رغم ضآلة ما حققته على الأرض من تدمير فى الداخل الإسرائيلى مقارنة بما حققته صواريخ حزب الله فى العام ٢٠٠٦، استطاعت أن تقضى على نظرية إسرائيل الآمنة، وأصبح باستطاعتها ولو نظريا أن تطال صواريخها كل الداخل الإسرائيلى، وهو ما يعد انتصارا استراتيجيا يغير قواعد اللعبة بين اسرائيل وحماس فى ما بعد هذه الحرب الدائرة.
توقف رحلات طيران العديد من الشركات الأجنبية لمطار بن جوريون لأول مرة منذ قرابة الأربعين عاما وإصابة عدة قطاعات أعمال خاصة وحكومية بالشلل من جراء تهديدات الصواريخ الفلسطينية، شكلت تحولا استراتيجيا فى تكلفة العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة وستغير كثيرا من الحسابات المستقبلية.
والجديد هذه المرة أن حماس أعادت تعريف نفسها أخلاقيا أمام العالم كمقاتل شريف، يستهدف العسكريين بعملياته القتالية رغم قدرته على إصابة المدنيين، ويمكن تفسير إنذار حماس قبل إمطارها تل أبيب بزخة صواريخ فى ضوء هذه الرسالة مع ما فيها أيضا من حرب نفسية ستأتى الإشارة إليها.
أمَّا من الناحية الميدانية فإن عمليات المقاومة تميزت بالتنوع والابتكار بشكل مثير، ومنها عمليات الإنزال خلف خطوط الجيش الإسرائيلى التى تكررت أكثر من مرة بنجاح كبير، قتل أكثر من سبعين ضابطا وجنديا فى الوقت الذى لا تستطيع فيه إسرائيل أن تعلن أمام شعبها عن خسائر حماس البشرية فالعالم كله لا يرى إلا جثث القتلى من المدنيين خاصة الأطفال والنساء والعجائز.
ومع أنه يمكن بشىء من التجوز القول بأن الجانب الإسرائيلى قد استفاد تكتيكيا من (القبة الحديدية) رغم أن نسبة تصدى القبة لصواريخ حماس لا يتعدى الثلاثين بالمائة، لكن المؤكد أن القبة الحديدية كلفت الحكومة الإسرائيلية خسارة استراتيجية كبيرة، فمن ناحية لا يمكن الحديث عن مقارنة بين تكلفة الصاروخ الإسرائيلى الواحد وبين ما يعترضه من صواريخ حماس رخيصة الثمن، ومع غزارة نيران حماس حتى ولو لم تكن مؤثرة ترتفع كلفة الحرب المستقبلية بشكل مؤلم للجانب الإسرائيلى.
من ناحية أخرى فإن حماية (القبة الحديدية) لمدنيى إسرائيل مع ارتفاع ضحايا الجانب الفلسطينى من المدنيين ورَّط الجانب الإسرائيلى فى أزمة أخلاقية أمام العالم، وكأن إسرائيل تدفع ثمن التفوق التكنولوجى بصورة سلبية.
حجم التعاطف الشعبى العالمى مع القضية الفلسطينية وبخاصة الغربى منها تضاعف بشكل غير مسبوق، وعبرت عنها المظاهرات التى اجتاحت عددا من عواصم العالم الغربى، ورغم محاولات الآلة الإعلامية الغربية الانحياز إلى الجانب الإسرائيلى لكن ما نقلته من صور فظيعة للضحايا على الجانب الفلسطينى، مع محدودية للأضرار الناجمة عن سقوط صواريخ حماس ضاعف من حجم هذا التعاطف.
خسارة إسرائيل إعلاميا لا تعنى أن حماس قد كسبت إعلاميا، ولكنها تعنى أن حجم الوعى الشعبى العالمى بعدالة قضية الفلسطينيين قد ازداد بصورة ملحوظة.
إذ أن الحكومة الإسرائيلية المعتادة على تنفيذ عمليات كهذه ضد القطاع بشكل شبه موسمى، لم تنتبه إلى أن أنظار العالم كانت موجهة إلى منطقة الشرق الأوسط بشكل مكثف فى الآونة الأخيرة تتابع بقلق تدهور الوضع فى العراق ومن قبل ذلك سوريا وليبيا، وهذا من العوامل المهمة التى أفسدت على إسرائيل ما كانت تقوم به فى السابق من قتل وتشريد للفلسطينيين بهدوء ودون صخب إعلامى.
صفحات التواصل الاجتماعى وعلى رأسها الفضاء «التويترى» شهدت أيضا زخما كبيرا للقضية الفلسطينية هذه المرة لاسيما بعد تدشين هاشتاج IsupportGaza الذى سرعان ما أصبح Trend بعد ساعات من تدشينه.
إظهار التليفزيون الإسرائيلى لطرق تل أبيب شبه خالية من المارة قبل التاسعة مساء وهو الموعد الذى حددته حماس لسقوط صواريخها على تل أبيب؛ مثل للمقاومة انتصارا استراتيجيا على صعيدين مهمين، أولهما صعيد الحرب النفسية، لأنه وبغض النظر عن القدرة التدميرية الواهية لتلك الصواريخ لكن خطوة كهذه حملت ثلاث رسائل واضحة: حماس قادرة على انتزاع زمام المبادرة ووضع الخصم فى خانة المنتظر؛ إسرائيل فشلت فى تحديد أماكن إطلاق الصواريخ رغم معرفة توقيت إطلاقها مسبقا ورغم امتلاكها عمليا لسماء الميدان بطائرات استطلاع تغطى قطاع غزة على مدار اليوم.
والمحصلة النهائية أن إسرائيل فشلت فى تحقيق أى قدر من النجاح الاستراتيجى فاستعاضت عنه بأكبر قدر ممكن من التدمير العشوائى كسياسة عقابية لكل القطاع من ناحية، ولشغل حماس بجهود إعادة الإعمار من ناحية ثانية بعد انتهاء العملية، وللتضليل على الرأى العام الداخلى من ناحية أخرى بصنع انتصارات زائفة.
اقرأ المزيد هنا: http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=08082014&id=3e6208ad-31a1-41e0-a2dc-b5aafcfb5fcf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق