الأحد، 19 يوليو 2009

القرار الدولي بالتقسيم بوابة نكبة فلسطين وذريعة الصهيونية لانشاء اسرائيل ...وليد الخالدي

هذه المحاضرة لوليد لخالدي في ذكرى مرور ستين عاماً على نكبة فلسطين، تضيء الجوانب البريطانية والاميركية، والصهيونية بالطبع، لانشاء الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها.
مقاربة جديدة للمسألة التي لا تزال تؤرق العرب والعالم، وربما تستمر لأجل غير معروف.> كانت - وما زالت - هي النكبة، مستمرة في كونها: «ستون عاماً من الاستلاب والمقاومة» ودفاع الفلسطينيين واللبنانيين عن الأرض والنفس. لكن، بما انني «ديناصور» آتٍ من الماضي السحيق، أرجو أن تسمحوا لي بأن أذكركم بأن 1947 - 1948 كانت مجرد ولادة النكبة، وأن تكونها في الرحم يرجع الى المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في بازل، في سويسرا، في سنة 1897 - الأب البيولوجي للنكبة.
> نعم، انها نكبة ملايين الفلسطينيين وعشرات الملايين من أهل الريف والمدن المجهولين، من اللبنانيين والسوريين والمصريين والأردنيين، الذين عانوا، مباشرة وتكراراً، جراء التداعيات المدمرة للنكبة منذ 1947 - 1948. نعم، انها النكبة في نطاق أرحب بالنسبة الى ملايين العرب والمسلمين (شيعة وسنّة)، والى اعداد لا حصر لها من شعوب وأعراق مختلفة، بما في ذلك عشرات الآلاف من البريطانيين الذين أغضبتهم المجازر والاعتداءات الوحشية التي ارتكبتها الآلة الإسرائيلية الساحقة أخيراً ضد غيتو قطاع غزة.
> لكن، علينا أيضاً أن نتذكر من ليست هذه المناسبة نكبة بالنسبة اليه (بالإضافة الى تلفزيون سكاي SKY والـ BBC): ففي 15 أيار (مايو) من السنة الفائتة، وصف جورج دبليو بوش، في خطاب له أمام الكنيست في القدس، «هذه الذكرى السنوية الجليلة الأثر» بأنها ذكرى «تحقق وعدٍ قديمٍ أُعطي لإبراهيم وموسى وداود - وعدٍ بوطن للشعب الذي اختاره الرب». وفي 21 تموز (يوليو) من السنة الفائتة، أخبر غوردون براون الكنيست «يسعدني جداً بصفتي رئيس الوزراء البريطاني... أن أهنئكم بمناسبة الذكرى الستين هذه، على الإنجاز الذي تحقق في عام 1948. ان الحلم العتيق قد تجسد، الوعد القديم قد تحقق».
> يبدو أن جورج وغوردون لديهما معلومات داخلية مستمدة من أوساط موثوق بها عن خالق سماوي للنكبة. صحيح أنه ثارت شكوك في ما إذا كان توني بلير حظي مثل جورج بصلات مع هذه الأوساط السامية، لكن هل غوردون أيضاً على صلة بها؟
> ما هو لافت أنه بينما تبقى هوية من حقق «الوعد القديم» في قول غوردون ملتبسة، فإن جورج يذكر، بلا لبس أو إبهام، من هو الذي حقق هذا الوعد. ولعل هذا يليق برئيس بلد لا يكل عن تهنئة ذاته على الفصل بين الكنيسة والدولة.
> هل هذا، يا ترى، هو السبب في أن واشنطن ولندن، سواء بسواء، خاليتا الذهن كلياً من أي مؤشر يجيب عن سؤال لا تفتآن تطرحانه على أنفسهما، وهو: «لماذا (المسلمون والعرب) يكرهوننا؟».
- II -
> كان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 البوّابة الكبرى للنكبة. وكانت بريطانيا، بالطبع، هي من ألقى بالقضية الفلسطينية في حضن الأمم المتحدة للهروب من النتائج الكارثية لسياسة الوطن القومي اليهودي المتعجرفة التي أطلقتها قبل ثلاثة عقود، في عام 1917، من خلال كائن بشري يدعى آرثر جيمس بلفور. فقد أخرج قرار التقسيم لعام 1947 بريطانيا من الهوّة السوداء التي وضعت نفسها بنفسها فيها، إذ ان القرار قضى ظاهرياً بإيجاد دولتين (يهودية وعربية) تخلفان الانتداب في فلسطين، كما أنه ينهي دورها هناك أملاً بالتهرب من المسؤولية الأخلاقية تجاه الضحية الرئيسية لسياستها، أي أهل البلد الفلسطينيين.
> ومن اللافت أنه لا جورج ولا غوردون أشارا في خطابيهما في الكنيست في عام 2008 الى قرار التقسيم لعام 1947، الذي أقحمه سلف جورج، هاري ترومان، داخل حناجر الكثير من الدول الأعضاء في الجمعية العمومية، والذي تظاهر سلف غوردون، رئيس الوزراء حينئذ كليمنت أتلي، بعدم قبوله من خلال الامتناع من التصويت، بينما حرص على أن يصوت شركاء بريطانيا في الكومنولث لمصلحته.
> إن قرار التقسيم هو واحد من الأساطير التأسيسية لإسرائيل في الغرب بزعم أنه كان منصفاً وعملياً وأخلاقياً وقانونياً، وأن اليهود قبلوه بينما رفضه الفلسطينيون والعرب. لكن الفلسطينيين والعرب رفضوه لأنه يقيناً لم يكن منصفاً، ولا عملياً، ولا أخلاقياً، ولا قانونياً. بل ان العدوان والاعتداء كانا لبّ مفهوم قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. وآليات تطبيقه المزمعة.
> قسمت فلسطين الانتدابية تحت الحكم البريطاني الى 16 قضاء، فكم كانت حصة الدولة اليهودية في هذه الأقضية بموجب قرار التقسيم؟ الجواب أنه خصص تسعة منها للدولة اليهودية، بينما لم يكن هناك أكثرية يهودية إلا في قضاء واحد (يافا - تل أبيب) من أصل الـ 16 قضاء، أما في الأقضية الثمانية الأخرى فكانت نسبة اليهود على التوالي هي: أقل من 1 في المئة (بئر السبع)، 13 في المئة (صفد)، 16 في المئة (الناصرة)، 17 في المئة (طولكرم)، 22 في المئة (الرملة)، 30 في المئة (بيسان)، 33 في المئة (طبرية)، 47 في المئة (حيفا).
> ولم يكن اليهود في أي من الأقضية التسعة التي وهبتهم اياها هيئة الأمم لتشكل دولتهم يملكون أغلبية الأراضي، وكانت نسبة ملكيتهم في الأقضية التسعة هذه، هي: أقل من 1 في المئة (بئر السبع)، 14 في المئة (الرملة)، 17 في المئة (طولكرم)، 18 في المئة (صفد)، 28 في المئة (الناصرة)، 34 في المئة (بيسان)، 35 في المئة (حيفا)، 38 في المئة (طبرية)، 39 في المئة (يافا - تل أبيب).
> وكانت الغالبية الساحقة من الجماعة اليهودية في فلسطين تقطن في ثلاث مدن: حيفا، وتل أبيب والقدس. أما السكان اليهود خارج هذه المدن الثلاث فكانوا القلة. وكانت مساحة مجمل الأراضي التي يملكها اليهود في فلسطين في عام 1948 لا تتجاوز 1.6 مليون دونم (الدونم يعادل 1000 متر مربع)، بينما اشتملت المناطق المخصصة للدولة اليهودية في قرار التقسيم على أراضٍ مساحتها 15 مليون دونم. وبالتالي، فإن ما قالته الأمم المتحدة عملياً لـ «الييشوف» (الجالية اليهودية في فلسطين) كان: هيّا خذوا هذه الـ 13.4 مليون دونم اضافية التي لا تملكونها في الدولة التي اعطيتم اياها، من الناس الذين يملكونها - من الناس الذين يعيشون فيها ويعتاشون منها.
> ومع ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية لهذا الغزو - لهذا الإلحاق القسري لإراضيهم بالدولة اليهودية - كانت (ولا تزال) يُنظر اليها في الغرب، باعتبارها عدواناً، بينما ينظر الى الهجوم اليهودي الذي شنه «الييشوف» عامي 1947 - 1948 لتوسيع أراضيه بمقدار عشرة أضعاف، ضد رغبات السكان الأصليين، باعتباره دفاعاً عن النفس. ولا يزال في الغرب حتى اللحظة يوصف بأنه «دفاع عن النفس» كل تحرك تقوم به الآلة العسكرية التابعة لإسرائيل - خليفة «الييشوف».
تستمد اسرائيل شرعيتها جزئياً من «قبول» القيادة الصهيونية خطة التقسيم. وهذا «القبول» ليس مستغرباً لأن التقسيم كان الحل الصهيوني «الرسمــي»، أي اللفظي للمشكلة الفلسطينية. لكن من المؤكد أن قيادة «الييشوف» لم يكن في نيتها التزام حـــدود التقسيم المقترحة، كما يبدو واضحاً من الأوامر العملانية للهاغاناه كما وردت في «خطة دالت»، وهــي الخطة العامة لاحتلال فلسطين عسكرياً، والتي بدئ بتنفيذها قبل ستة أسابيع من انتهاء الانتداب. بالإضافة الى ذلك، بينما قبلت القيادة الصهيونية لفظياً التقسيم، فإن حزبي «الحركة التصحيحية» (لاحقاً «حيروت» في عام 1948)، و «أحدوت هعفودا»، وهما الحزبان الثاني والثالث من حيث الحجم (بعد الحزب الحاكم «الماباي») في «الييشوف»، كانا يعارضانه بشدة، ويطالبان جهاراً بدولة يهودية في كامل أرض اسرائيل.
> أطلــق اقــرار الأمم المتحدة خطة التقسيم ما بات يُعرف بـ «طور الحرب الأهلية» في الحرب الفلسطينية الأولى، والذي استمر حتى اعلان قيام دولة اسرائيل في 14 أيار (مايو) 1948. وخلال تلك الفترة، أدت العمليات المشتركة التي قامت بها الهاغاناه، وما دعي الجماعات «المنشقة»، أي الإرغون وشتيرن، الى تمزيق نسيج المجتمع الفلسطيني الذي كان قائماً في فترة الانتداب، والى اطلاق عملية الطرد الجماعي للفلسطينيين، واحتلال المدن العربية وعشرات القرى العربية، وإحكام السيطرة اليهودية على المناطق المخصصة للدولة اليهودية، وعلى مناطق شاسعة خارجها، وذلك بموجب «خطة دالت» الآنفة الذكر.
> ان الحرب النظامية مع الدول العربية التي بدأت في 15 أيار (مايو) 1948 ما كانت لتندلع لو أن هذه الأحداث التي سبقتها لم تقع. ولقد كانت نتيجة الحرب النظامية محسومة لمصلحة اسرائيل قبل بدايتها. ان «الخطر الوجودي» على الدولة اليهودية الوليدة، والذي زعم ان الجيوش العربية في عام 1948 كانت تمثله، يحتل المقام الأول في الأساطير الصهيونية والإسرائيلية. غير أن هذا الخطر، شأنه شأن «إنصاف» و«أخلاقية» و«قانونية» قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، هو مجرد أسطورة وخرافة.
- III -
في مؤتمر بازل لعام 1897، والذي أسس الحركة الصهيونية، كان هناك مندوبان فقط من أصل 199 مندوباً، مولودين في فلسطين. وبعد خمسين سنة، في 14 أيار 1948، كان هناك شخص واحد فقط من الـ 37 من الآباء المؤسسين الموقعين إعلان استقلال اسرائيل في تل أبيب، من مواليد فلسطين.
> وهذا يوجز بدلالة واضحة، طبيعة الحركة الصهيونية: انها لم تكن ظاهرة محلية. انها لم تكن أصلاً فلسطينية.
> لقد كانت الصهيونية، ومن دون شك، حركة قومية، لكن أي نوع من الحركات القومية؟
انها لم تكن حركة تحرير وطني، أو حركة حق تقرير المصير ضد قوة امبريالية أو استعمارية (مثل معظم الحركات الوطنية الأفرو - آسيوية).
> انها لم تكن ثورة مستوطنين ضد الحاضرة الأم (مثل الثورة الأميركية).
> انها لم تكن انتفاضة ضد احتلال عسكري وحشي وخانق.
> انها لم تكن انفصالاً عن دولة، أو امبراطورية متعددة القوميات، مثل الحركات ضد الإمبراطوريتين النمسوية - الهنغارية والعثمانية.
> انها لم تكن تأكيداً لهوية أصلية، أو خاصة بجماعة، أو أقلية ضد جيرانها، مثل الحالتين الكردية والباسكية.
> انها لم تكن حركة بعث وتوحيد Risorjimento تهدف الى توحيد أقاليم أمة مجزأة، مثل حركة التوحيد الإيطالية.
> انها حركة ذات منابع علمانية وطوباوية واشتراكية، لكنها أيضاً حركة مدفوعة بدوافع إثنية - قومية دفينة غذّتها قرون من التمييز والاضطهاد والتخويف والإهانات والطرد الجماعي (في الأغلب في أوروبا المسيحية)، وسيّرتها حاجة ملحة الى الهروب من وضع أقلية مُهانة ومذلة.
> وفي الوقت نفسه، شاركت في تكوينها تيارات قوية دينية وروحية، وحتى ميسيائية. وكانت المحصلة مزيجاً من هذه التيارات، ومن مكونات علمانية وقومية، ليس من السهل تحليلها.
> لقد كان شعار اليمين الديني الصهيوني (حزب مزراحي) خلال فترة الانتداب هو «أرض اسرائيل لشعب اسرائيل وفقاً لتوراة اسرائيل». لكن المضامين الدينية الميسيائية الخلاصية Messianic لم تكن بالتأكيد منحصرة في الأحزاب الدينية. فاليمين العلماني بقيادة مناحيم بيغن دعا الى «اعادة أرض اسرائيل بكاملها الى أصحابها الذين منحهم الرب إياها»، وحاييم وايزمن، العالم العلماني (في الحقيقة الملحد)، صرح أمام اللجنة الملكية البريطاية أن «صك ملكيتنا هو وعد إلهي»، بينما أعلن بن - غوريون، الاشتراكي غير المتدين، آكل لحم الخنزير، أن «التوراة هي (وثيقة) انتدابنا».
> يُنظر الى حزب بن - غوريون، حزب ماباي «العلماني» «الاشتراكي»، تقليدياً، باعتباره الحزب المؤسس للدولة. لكن ما هو معروف أقل هو حقيقة أن الائتلاف الصهيوني الحاكم منذ عام 1935 وحتى نهاية الانتداب، كان ما يعرف في اسرائيل باسم «الائتلاف التاريخي»، الذي كان الحزب العمالي «ماباي»، وحزب مزراحي الديني هما الشريكان الرئيسيان فيه.
> وما يميز الحركة الصهيونية بصفة خاصة من ناحية الطيف العلماني - الديني هو أولاً، الحنين الى بلد معين (فلسطين) لدى اليهود المنتشرين في مختلف القارات، وثانياً، التصميم العنيد الصهيوني على «العودة» اليه. فحتى في فترة ما قبل بلفور، ما قبل الحرب العالمية الأولى، عندما كانت الصهيونية في حالة عجز سياسي وعسكري، بدا واضحاً عليها الشعور بالحق الحصري Exclusive entitlement، وبالاستعلاء الأخلاقي الذي لم يكن انعكاساً للمواقف الأوروبية السائدة آنذاك تجاه الشعوب غير الأوروبية فحسب، بل كان أيضاً شعوراً متجذراً بقوة في قناعة بحق مسبق بدائي وأولي في ملكية البلد وعمياء، في الوقت نفسه، عن حق السكان الفلسطينيين الأصليين فيه.
> ثمة مغامرات كثيرة شبيهة بالمغامرة الصهيونية، نخص بالذكر منها هجرة المستوطنين الإنكليز الى أميركا الشمالية واستراليا ونيوزيلاند. لكن بينما أوجه الشبه هنا واضحة، فإنها تنسحب على آليات الاستيلاء والاستعمار أكثر مما تنسحب على الدوافع المحركة لأولئك المستوطنين، والتي لم يكن بينها النزعة العرقية السلفية «الاستردادية» Atavistic irredentist dimension الصهيونية. لقد نظر المستوطنون الإنكليز بالفعل الى أميركا باعتبارها أرض الميعاد، لكنهم لم يعتقدوا أن أصلهم يرجع الى تلك البراري.
> بعد عقود من التفكير في الموضوع، وآخذاً في الاعتبار عدم وجود مثيل للحركة الصهيونية بين الحركات القومية الأخرى، أجد أن أقرب ما يشببهها هو اعادة احتلال شبة جزيرة إيبيريا Iberian Reconquista - اي اسبانيا الأندلس والبرتغال - في القرون 13 حتى 16 الميلادية على يد مملكتي كاستيل (قشتالة) وأراغون، بما اتسم به ذلك من مزيج من الحوافز الدينية والقومية، ودافع قاهر «لاسترداد» اقليم بدا طويلاً كأنه فُقد الى الأبد، وجشع الى الأرض، وشعور بأن هذا الإقليم كان سابقاً «ملكاً» لهما، ولا مبالاة عديمة الشفقة تجاه سكانه الذين نظر اليهم باعتبارهم مغتصبين وغرباء وعقبات في طريق تقدم المسيرة.
IV
> الحد الفاصل في مقادير حياة الحركة الصهيونية كان اعلان بلفور في عام 1917، والذي رأى غوردون براون من الملائم تجاهله عندما احتفى بعيد ميلاد اسرائيل الستين في الكنيست. لقد نقل اعلان بلفور الصهيونية بين عشية وضحاها من حلم يقظة الى امكان قابل للتحقق، بفعل حصولها على تأييد القوة الأعظم في ذلك الوقت. ومع اعلان بلفور، خطت الصهيونية خطوات جبارة في اتجاه ما سماه السيد براون «انجاز 1948».
> إن غطرسة أسلاف السيد براون في وايت هول تجاه الفلسطينيين تتجلى في أكمل صورها في كلمات بلفور ذاته، التي خطّها في عام 1919: «ان الصهيونية، سواء كانت مصيبة أم مخطئة، متأصلة في تقاليد ضاربة في القدم، في حاجات راهنة، في آمال مستقبلية ذات أهمية أكبر كثيراً من رغبات وتحيّز الـ 700.000 عربي الذين يسكنون الآن في ذلك البلد العتيق».
> وفي المذكرة نفسها، يتابع بلفور قائلاً: «مهما تكن المراعاة الواجب إبداؤها لآراء أولئك الذين يعيشون هناك (أي، في فلسطين)، فإن القوى العظمى في اختيارها للقوة المنتدبة لا تنوي، كما فهمت، أن تشاورهم».
> إن «انجاز 1948»، الذي امتدحه السيد براون، له، كما نستطيع أن نفهم من هذه الكلمات، نسب بريطاني مديد.
> ممتطية أكتاف بريطانيا الإمبريالية المنتدبة على فلسطين، بدأت الصهيونية حربها ضد الفلسطينيين بالوكالة - بالحراب البريطانية. وكان الإكراه جزءاً عضوياً من تولي بريطانيا الانتداب على فلسطين، ومن دون الالتفات الى رغبات الفلسطينيين.
> كـــان حكم بريطانيا لفلسطين مدمراً أكثر من حكم أي نظام كولونيالي آخر على امتداد سواحل البحر الأبيض المتوسط (بما في ذلك ليبيا موسوليني، والجزائر «الفرنسية» التي ضُمت الى فرنسا الأم).
> وعلى الرغم من أن وجود الصهيونيين على الأرض في المناطق الريفية كان في البداية ضئيلاً جداً، فإنهم اتبعوا في وقت مبكر أسلوباً لامعاً للسيطرة على الريف في أي مواجهة مقبلة مع الفلاحين الفلسطينيين، وأعني به نظام الكيبوتس، القائم على نماذج بروسية اتبعت للسيطرة على الفلاحين البولنديين في بروسيا الشرقية. فقد قامت شبكة الكيبوتسات - المُدارة والمموَّلة مركزياً - على نقاط قوية في أماكن استراتيجية مختارة في كل أنحاء فلسطين، وتكاثرت النقاط بفضل استمرار تدفق الرواد (الحالوتسيم)، الذين تلقوا تدريباً خاصاً في أوروبا قبل هجرتهم الى فلسطين وتوزعهم على الكيبوتسات.
> كان الانتداب في الأساس حكماً مشتركاً بين الإدارة البريطانية والمنظمة الصهيونية العالمية التي كان مقرها الرئيسي طوال فترة الانتداب في لندن. أسألكم: هل يمكن تخيّل جواهر لال نهرو، أو جومو كينياتا، أو سعد زغلول ينشطون ضد بريطانيا من مقارٍ رئيسية في لندن؟ لقد كان «الييشوف» في فلسطين امتداداً، فيضاً عن، وحرفياً، مخلوقاً أوجدته المنظمة الصهيونية العالمية ومؤسساتها المالية القائمة في ما وراء البحار.
> كانـــت الغالبية الساحقــة مــــن أعضـــاء المنظمة الصهيونية العالمية (حملة الشيكل) موجودة في الشتات. فمن أصل 2.16 مليون عضو في وقت انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي في عام 1946، عشية اقامة الدولة اليهودية، لم يكن يتجاوز عدد الأعضاء في فلسطين الـ300.000 عضو، كما أن الأعضاء الأميركيين، وعددهم 956.000 عضو، كانوا ثلاثة أضعاف الأعضاء اليهود من فلسطين. ولم يكن الجزء الأكبر من دخل «الييشوف» في أي وقت من الأوقـــات، ناتجاً من عمله هو، وإنما أتى دائماً من وراء البحار، في معظمه من الطائفة اليهودية الأميركية.
> منذ عام 1917، ارتكز ميزان القوى في فلسطين على ثلاثة عناصر: المحتل البريطاني والفلسطينيون و«الييشوف». وكان التطور الأخطر خلال سنوات الانتداب وحتى عام 1948، هو النمو المتواصل والمثابر لـ «الوطن القومي اليهودي» تحت الحماية البريطانية، والتغير المتراكم الناجم عن ذلك في ميزان القوى بين الفلسطينيين و«الييشوف» لمصلحة هذا الأخير. وكان «الييشوف»، كلما ازداد احساسه بالقوة، توطد مزاجه الاستردادي Reconquista وطرائق عمله لترسيخ احتلاله وتوسعه.
> في وقـت مبكر من عام 1920، قرر بن - غوريون وزملاؤه في الحركة العمالية أنهم يحتاجون الى جيش سري، «الهاغاناه»، استناداً الى الافتراض الواقعـــي ان تحويل بلد، أغلبية السكان الساحقة فيه عربية، الى وطن قومي يهودي، يتطلب قوة عسكرية مباشرة قد لا تكون الحكومة البريطانية راغبة دائماً في توفيرها. وكلمة «هاغاناه» تعني بالعبرية، كما هو معروف، «دفاع ذاتي». ويعتقد شبتاي تيفيت، المرجع الأهم في ما يختص ببن - غوريون، انه بفضل الهجرة اليهودية الجماعية من أوروبا تحت الحماية البريطانية، شعر بن - غوريون، بحلول عام 1936، بأن «الييشوف» بات قوياً الى درجة أنه يستطيع الكف عن أي حوار سياسي مع الفلسطينيين. ويصف بن اليعيزر، عالم الاجتماع الإسرائيلي اللامع، بتفصيل دقيق، نمو الروح العسكرية في «الييشوف» على المستوى الشعبي منذ منتصف الثلاثينات فصاعداً.
(غداً حلقة ثانية اخيرة)
* مفكر فلسطيني، والنص في الأصل محاضرة ألقاها بالإنكليزية في مؤتمر جمعية الطلبة الفلسطينيين الذي عقد في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS التابع لجامعة لندن، لمناسبة مرور 60 سنة على النكبة، وعنوانه «ستون سنة من الاستلاب والمقاومة». وسيُنشر النص أيضاً في العدد المقبل (78) من «مجلة الدراسات الفلسطينية» الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ترجمة: أحمد خليفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق