1- أثناء كل حرب سجلت فيها المقاومة صمودا هَزَمَ العدوانَ وأفشل أهدافَه كانت الناس تخرج للتظاهر تضامنا، مجترحة تعبيرات غير مسبوقة عن الغضب على إسرائيل وعلى العجز العربي. وأمل البعض أن يتحوَّل هذا المزاج الشعبي إلى إعصار، أو يستقر على الأقل كحالة دائمة من التضامن مع المقاومة ورفض التسوية. وفي كل مرة يثبت أمر آخر تماما. فالناس تعود إلى أشغالها، وهذا طبيعي. والجمهور لا يحترف التظاهر. تسييس حركة الاحتجاج هو ضمان ديمومتها. ولا يمكن تسييسها في غياب المشاريع السياسية الحاملة لأفكار المقاومة سوية مع هموم المواطن من ضمن مشروعها للنهوض بالأمة..
أثناء العدوان ينكفئُ المناهضون للمقاومة، من الشامتين بها وحتى المؤيدين للعدوان، وذلك خجلا أو خوفا من المد الجماهيري. وبعده تختلف الصورة.
فبعد العدوان على لبنان عام 2006، وحتى إزاء هول الجريمة وفعالية ونجاعة الصمود والمقاومة غير المسبوقيْن عربيا، ازداد الموقف الذي يتهم المقاومة بالمسؤولية عن الحرب تصلبا وتحديا بعد الحرب. ووصل التحدي السياسي الداخلي للمقاومة حد تكذيب إسرائيل نفسها حين أعلنت مؤسستها الرسمية فشل عدوانها في يوليو/ تموز من ذلك العام.
وعلى المستوى الإقليمي عُقِد بعد العدوان على لبنان اجتماع أنابوليس الذي أضاف دولا عربية جديدة إلى قائمة الدول التي تجتمع مع إسرائيل، وأُجلِست الوفود العربية لتستمع لخطابات بوش وأولمرت يعظانهم بضرورة التطبيع مع إسرائيل والتحالف معها لعزل "المتطرفين".
وكوفئَ أولمرت بترسيمه رجل سلام واعتدال. ويذكر المواطن العربي مصير الكلام عن جرائم الحرب التي ارتكبت في لبنان في حينه متمنيا ألا يكون مصير الكلام عن جرائم الحرب في غزة مشابها.
وأثناء الحرب على غزة وبعدها أكدت السلطة الفلسطينية الالتزامات الأمنية لإسرائيل، واعتبرت "هدوء" الضفة إنجازا لها. أما موقف غالبية الدول العربية من حصار غزة فلم يتغير، لم يصبح مثلا أكثر جرأة في تحدي الحصار تأثرا بالعدوان الوحشي.
وبقي الحصار وسيلة ضغط على حماس لقبول شروط الرباعية. وتراجع الدور العربي بشأن غزة. وبالعكس جرت محاولة رسمية عربية لحقن المقاومين بالعقل والتعقل وقبول الشروط الإسرائيلية للانخراط في عملية التسوية. كأن هدف المقاومة هو دخول التسوية التي اكتسبت المقاومة شرعيتها من معارضتها.
كما سُجِّلَت أرقامٌ قياسية جديدة في التكاذب العربي عند إنكار تورط أنظمة عربية في الجريمة والعدوان والحصار، والتحريض الدموي على من يقول الحقيقة.
ولا تقف ديماغوجيا التحريض في مثل هذه الحالات عند توسل سياسات الهوية وعصبياتها طعنا بأصل القائل وفصله لا بمضمون كلامه (وهي آلية متخلفة ومنتشرة وحاجبة للعقل والتفكير وتهوي بكل نقاش إلى قعر الانحطاط) بل تطالب الضحية بالإشادة بدور الأنظمة.
ومن صفات الأنظمة العربية استدعاء مدحها على ما تُنَفِّذ عكسَه ممارسةً. ولكن التشدق بنقيض السلوك العملي هو دليل على أن هذا السلوك ما زال غير شرعي بنظر الناس.
ومن هنا جاءت كلمة الـ"بعض" نجدة لنا جميعا، إذ يمكنك توجيه النقد للـ"بعض"، ويمكن للمقصود بهذا النقد التظاهر بأنه ليس المقصود.
2- لقد ثبت مرة أخرى أن التأكيد على معاناة السكان في غزة وإبراز حجم ألم الأطفال المصابين والولولة أمام الكاميرات أثناء الحصار والحرب في غزة، أو مشاهدة حجم الهدم في ظل القصف الإسرائيلي للبنان بحد ذاته لا يغيِّر موقفا، بل لا تُفاجَأنَّ المقاومةُ إذا جارتْها فيه القوى الإقليمية المعادية لها.
فهي قد تسمي ما تقوم به إسرائيل محرقة وإبادة شعب تهويلا، وذلك ليس لكي تتهم إسرائيل، بل لكي تؤكد الثمن الذي تدفعه الناس نتيجة لفعل المقاومة.
فوحشية إسرائيل في نظرهم معطى مفروغ منها، وتكمن المشكلة -في نظر هؤلاء- في تحدي المقاومة لهذه الوحشية. والمشكلة أن بعضهم لا يؤمن في قرارة نفسه حتى بوحشية إسرائيل، فهو يحسدنا على ديمقراطيتها حين يلزم، ولكنه يستخدم هذا النعت لكي لا يُتَهَّم بأنه يمتدح إسرائيل، أو يستخدمه بسوء نية للتخويف.
على المقاومة في علاقتها مع المعادين للمقاومة أن تتذكر ما يقوله العميل السري لمن قبض عليه فجأة في فيلم أميركي "من حقك أن تلتزم الصمت، فإن أي شيء تقوله قد يستخدم ضدك". لا تشكُ لخصومك مما تتعرض له، فسوف يستخدمون الشكوى ضدك.
ونحن نعرف من سلوك الأنظمة مع شعوبها وقادة الطوائف مع أبناء طوائفهم والطوائف الأخرى من أبناء بلدهم بعض الأمور عن مدى حساسيتهم لمعاناة البشر. فهل يمكن أن تكون لدى هؤلاء حساسية فعلا لمعاناة الفلسطينيين؟
ترتبط ردود فعل القوى السياسية بما فيها الدول على الوقائع بموقفها السياسي وزاوية نظرها المختلفة بقدر ما ترتبط بالوقائع ذاتها. فبالنسبة لمن دعم في حينه حرب العراق على إيران لم تعن معاناة العراقيين والإيرانيين شيئا، ولم تنعت وسائل الإعلام العربية الداعمة مقتل مئات الآلاف في حرب عبثية بأنه إبادة شعوب، بل غضَّت النظر حين كان موقفها داعما للحرب التي كلّفت بعضُ أيّامها عشرات آلاف الضحايا.
وكذلك الأمر إبان العدوان الأميركي واحتلال العراق، لقد غضّت النظر عن حجم المعاناة الناجمة عن التدخل الأميركي بدايةً، أي حين كان الهدف إسقاط نظام العراق وضرب هذه الدولة (التي سقطت لأنها لا تملك سلاحا نوويا وليس لأنها تملك سلاحا كهذا).
يتم تحدي خصوم المقاومة بالصمود وتخفيف الآلام لا تضخيمها، وتطوير المقاومة وجعل الاحتلال يدفع الثمن، وتقليل خسائر المقاومة، وإظهار القوة على التحمل حين تقع الخسائر، والحفاظ على التواضع والعلاقة السليمة مع المجتمع دون تبجح وإملاء.
أما ما يسمى الشرعية الدولية والمؤسسات الحقوقية الدولية فتساوي بين المحتل وبين الاحتلال فيما يتعلق بجرائم الحرب. وهي في أفضل الحالات تصلح لضبط سلوك الدول في الحروب أو ضد المدنيين، أما المقاومة فليست هذه ساحتها. وسبق أن تطرقنا إلى هذا الموضوع.
3- أنشأ المستوى الرسمي العربي بعد الحرب، بخطابه ولغته ووسائل إعلامه، ما يشبه التوق إلى "المعتدلين" الإسرائيليين الذين شنوا الحرب على غزة ولبنان في مقابل المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وحين أكدنا أن هنالك تغييرا في السياسة الأميركية، وأن الشعب الأميركي غيَّر قيادته، وأن هذا التغيير ناجم عن النهج الذي قاوم السياسة السابقة (وليس بفضل من لم يفوِّت فرصة لتأييد بوش، ودعاه حتى لإسقاط أنظمة عربية أخرى) ادعى المروجون للسياسة الأميركية من جديد أننا لا نرى تغييرا.
وفي الحقيقة نحن نرى الثابت والمتحوّل في السياسة الأميركية داخليا وخارجيا، ونرى في الوقت نفسه أنه لا تغيير في سياسات العرب الذين يصفقون لرئيس أميركا بغض النظر عما يطرحه. وهم لن يعترفوا لنا بأننا نرى التغيير إلا إذا وافقنا على أن أميركا سوف تقوم بكل ما يلزم مع إسرائيل نيابة عن العرب.
وفي قضية فلسطين تحديدا حتى الرئيس الأميركي الجديد كانت حملته الانتخابية صهيونية للغاية. ولن يتحرر منها إلا بقدر ما تتيح ذلك حملته القادمة، إلا إذا وفر له العرب أسبابا. والانبهار والوقوع تحت تأثير السحر ليسا سببا.
وهم يصفقون للإدارة الجديدة وهم أقرب عقلا ومنطقا وسلوكا للإدارة السابقة، فيما نعتقد أن الطريق الوحيد للاستفادة من التغير في أميركا يتم ببلورة سياسة عربية ضاغطة على الولايات المتحدة.. وبدون ذلك، وتحديدا في قضية فلسطين، لن يكون هنالك تغيير في السلوك الأميركي. بل أكثر من ذلك، سيُطالَب العربُ بدفع ثمن الكلام المعسول الذي يقدم لهم.
وطبعا إذا تفاءل مؤيدو المقاومة بأنه بعد خطاب نتنياهو سوف يتبخر سحر خطاب أوباما على هذا النوع من العرب، فذلك وقوع في مثل هذه الأوهام. فلا علاج للمسحورين بأميركا بوش وأميركا أوباما، رغم أنهم جميعا رأوا كيف رحّبت أوروبا وأميركا أوباما بخطاب نتنياهو.
يمنّي هؤلاء النفس بأن أوباما سوف يضغط على نتنياهو. وسوف يكتشفون قريبا أنهم يدفعونه فقط للضغط على إسرائيل لقبول شروط تجديد ما يسمى "عملية السلام" لا أكثر ولا أقل... وسوف يطالبون هم أيضا بدفع ثمن هذا التجديد وحده تطبيعا.
4- تتوفر تفسيرات بنيوية لغياب مشروع سياسي جدي معارض على المستوى العربي يحمل فيما يحمل هم القضية الفلسطينية والمقاومة وغيرها بشكل يربطها مع مصالح الناس كمواطنين وكأمة. ويمكن تطوير هذه التفسيرات. وهنالك أيضا تفسيرات متعلقة بأخطاء المقاومة، التي لا يمكنها أن تتكلم كالمنتصر وتتصرف كالمهزوم.
وتميز الناس طبعا بين أخطاء المقاومة وضلال من يتعاون مع إسرائيل أمنيا، بين الأخطاء على طريق مقاومة الاحتلال من جهة، والطريق الخاطئ برمته الذي يتبناه المعوِّلون على إسرائيل واحتلالها في بناء نفوذهم الداخلي محليا وإقليميا من جهة أخرى.
وبعد أن ميزنا وأكدنا أن النقاش من موقع المقاومة ولصالحها أمر، والنقاش لمناكفتها والإيقاع بها وإضعافها شعبيا شيء آخر، علينا أن نميز في المرحلة الثانية بين نوعين من النقاش:
أ. ما يمكن أن تتحكم به المقاومة في بنيتها وخطابها.
ب. الحالة المفروضة عليها من الواقع العربي الراهن.
ونبدأ بالحالة العربية، عند كل محطة صدام مع إسرائيل وعند كل تعبير عن عدوانيتها، فإن الحالة الشعبية العربية تُستَنفَرُ (قوميا أو دينيا أو إنسانيا، -ليس هذا موضوعنا الآن- المهم أنها تستنفر كحالة عربية متجاوزة القُطرية والطوائف).
وليس صدفة أن يلتقي في هذه اللحظات المواطن الواعي لحقوقه والمطالب بالديمقراطية بالعربي المنتمي إلى قضية الأمة في نفس الشخص. ولكن بعد انقضاء حالة الطوارئ تعود الحالة العربية إلى واقعها المحلي سياسيا ومعنويا. ومع العودة إلى المحلي نعود إلى الطوائف والعشائر والأسر الحاكمة.
وما إن تبدأ لعبة الدولة العربية القُطرية بإعلامها ومثقفيها من جديد حتى يجد الناس أنفسهم في لغة وسياق يقود للتسوية مع إسرائيل. ولن يتغير هذا الحال ما دامت الأمة تعيش في هذه التجزئة، وما دام المواطن يحرم من حقوقه كمواطن، وما دام مفهوم الأمة العربية يتعرض إلى هذا الكم من الهجوم عليه وعلى مجرد وجوده الثقافي في الوعي المناهض للطائفية والعصبيات الأخرى.
ولكي تتحول قضية فلسطين إلى قضية ثانوية تجري التسويات المنفردة دون حلها، يجب أن يتم تغييب مصطلحات المواطن والأمة سوية من عالم السياسات العربية.
حين تعي ذاتها على مستوى الأيديولوجية تتبنى الدولة العربية القُطرية عاجلا أم آجلا نمط التسوية المنفردة أو تنتظره. وكان بعضنا يعتقد أن الحالة الفلسطينية كحالة قُطرية تشكل الاستثناء بين زميلاتها، بسبب التناقض بين الهوية الوطنية الفلسطينية والتسوية مع إسرائيل.
وأيد هذا البعض نظرية الكيانية الفلسطينية في الصراع مع إسرائيل من منطلقات وطنية مخلصة، وخوفا من فرض الشروط القُطرية العربية على الفلسطينيين. فتبين أنه حال تبني القيادة الفلسطينية نمط الكيانية القُطرية أيديولوجياً، وليس سياسيا فحسب، فإنها تضع التناقض على مستوى الهوية مع دول عربية بنفس مستوى التناقض مع إسرائيل، وتهرول نحو التسوية مستغلةً:
1- وقف المعاناة كدافع لصالح قبول تسوية غير عادلة.
2- كونها هي "صاحبة الشأن".
3- ادعاء أن الدول العربية ذهبت أو سوف تذهب باتجاه الصلح المنفرد (حتى حين لا تذهب).
لهذا الغرض تحظى استقلالية القرار العربية القُطرية والفلسطينية القُطرية باحترام متبادل في خدمة نفس الهدف: التسويات المنفردة مع إسرائيل في إطار نظام عربي استبدادي ومتحالف مع الولايات المتحدة، بل يشكل مزرعة لها.
صراع الوجود هو الصراع بين الصهيونية والأمة العربية، أما الصراع القائم بين الدولة القُطرية العربية وبين إسرائيل فهو في أفضل الحالات صراع حدود.
وخيار الدولة العربية القُطرية الأول هو التسوية، أو للدقة "عملية السلام"، ولو دون تسوية. وينقلب إلى تنسيق أمني من قبل أي كيان عربي مع إسرائيل ضد كيانات عربية أخرى في زمن الانحطاط... كما جرى بين الدولة الصليبية وبعض الكيانات المحيطة.
وكنت قد أشرت سابقا (في كتاب "أن تكون عربيا في أيامنا") إلى أنه منذ أن تدهورت الحالة العربية إلى هذه الخيارات باتت المقاومة تنفجر حين تضعف الدولة، متطرقا إلى حالات العراق ولبنان وفلسطين.
وأجد نفسي الآن أضيف أن المقاومة حين تندمج في المنطق القُطري القائم، أو في مسايرة ثقافته الطائفية والعشائرية القائمة، قد تضحي بالهدف حماية لنفسها. ولكن نفسها دون الهدف ليست نفسها. وطبعا، الرهان على ضعف الدولة هو رهان تكتيكي ناجم عن وضع مؤقت لم تختره المقاومة بل وجدت نفسها فيه. وتوأم ضعف الدولة ليس المجتمع المدني بل الطائفة والعشيرة. وتكريس واقع الطائفة والعشيرة والبناء عليه يتحول من التعايش مع هذه المثالب أو التغاضي عنها حين تجري المقاومة إلى تقديمها لنا وكأنها مناقب حين تنحسر.
رهان المقاومة الطبيعي والبعيد المدى هو المشروع السياسي في الدولة/الأمة... وتوائمها المواطن والمجتمع والحيِّز العام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق