النظرية واحدة والجريمة واحدة: حُكم على مادوف بالسجن لـ150 عاما، والولايات المتحدة لن تخرج من أزمتها الراهنة قبل أن تنهار كقوة عظمى.
تحاول الولايات المتحدة أن تُفهمنا إن الاقتصاد، بعد الكثير من الأفكار والنظريات، هو في آخر المطاف لا شيء سوى حيلة. أعطيك مالا (لا شأن لك من أين أتيت به) لتعطيني مشروعا اقتصاديا يوظف عمالة، ويستهلك مواد أولية أو خبرات، وينتج بضاعة من جهة ومستهلكين من جهة أخرى. البضاعة تتحول الى مال لتمول بدورها بضاعة أخرى، والعمالة تدفع ضرائب وتستهلك. وهكذا، فالعجلة تدور.
في خضم هذه العملية لا بد وان ينشأ نقص، خاصة عندما يزيد الاستهلاك على الإنتاج، وخاصة عندما لا تعود قيمة البضاعة قادرة على استرداد كلفة إنتاجها أو عندما تستورد اكثر مما تصدّر. ومن هنا ينشأ ذلك الشيء الذي يسمى "عجز تجاري".
-الولايات المتحدة لا شيء لديها، منذ أن خلقها الله، إلا ذلك "العجز التجاري". وهي تموّله (أو تسدّه) بشيئين اثنين: الديون، وطباعة المزيد من الدولارات.
منذ مطلع عام 2008 بدا أن الولايات المتحدة تواجه ما صار يعرف بـ"الأزمة الاقتصادية". كائنة ما كانت الأسباب التي شكلت "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فان جوهر الأزمة واحد: العجز عن تمويل الديون، والعجز عن إضافة المزيد من الديون. من هنا نشأ الاختناق الأول في النظام المصرفي العالمي. فالبنوك توقفت عن إقراض بعضها البعض لأن لا أحد منها صار يعرف متى يتبخر الطرف الآخر ويزول من الوجود.
إجمالي الديون الأميركية يبلغ اليوم نحو 11 تريليون دولار. 9.18 تريليون منها "داخلي". ولكن هذا "الداخلي" ليس داخليا الى ذلك الحد. فالكثير منها مرتبط ببنوك، والبنوك مرتبطة بأموال من "الداخل" و"الخارج"، وهي تتحرك بأموالها في "الداخل" والخارج" في آن واحد.
أما الديون الخارجية فتبلغ 1.82 تريليون دولار.
النصّاب، أو بالأحرى "رجل الأعمال"، برنارد مادوف الذي تلقى حكما بالسجن لمدة 150 عاما، لم يفعل شيئا يختلف عما يفعله بنك الاحتياط الفدرالي. فهو تلقى أموالا من مودعين تقدر بـ13 مليار دولار، وظل يدّور "استثماراته" أو "أعماله" حتى بلغت خسائرها ما يتراوح بين 50 و65 مليار دولار.
الشيء الوحيد الذي كان ينقص مادوف هو القدرة على طباعة النقود لتسديد "العجز التجاري".
إنس آدم سميث وكارل ماركس وجون ماينارد كينز وجون ستيوارت ميل، وكل الكلام الجميل والفارغ الذي يتحدث به المنظرون الاقتصاديون.
الاحتياط الفدرالي، بل الاقتصاد الأميركي كله، يعمل وفقا لنظرية اقتصادية واحدة هي "نظرية مادوف". وخلاصتها بسيطة للغاية: خذ من هذا، وإعط لذاك. أوهم هذا بالربح ليعطيك، وأوهم نفسك بالقوة والغنى لتستمتع بالرحلة.
النصّاب الدولي الكبير، أو الخبير الاقتصادي الكبير (لا فرق) بن برنانكي رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي الاميركي يفعل اليوم ما كان يفعله أسلافه: انه يدير ديونا، ويراكم عجوزا، ويعود ليسد عجوزه بديون، ليراكم فوقها عجوزا أكبر، وفي هذه الأثناء يطبع المزيد من الدولارات، وينتظر حتى "تمتصها" الأسواق، فيعود ليطبع غيرها، وهكذا.
هذه هي "النظرية". وهي "عملية" للغاية، بل الوحيدة التي "تشتغل" في عالم الليبرالية الأميركية.
نعم. الاقتصاد الأميركي هو الأكبر في العالم، والأهم من حيث قدرته على الانتاج والاستهلاك. (ولو سمح لنا "الاقتصاديون"، فهو اقتصاد "شاعري" جدا ببضاعته وقدرته على الخلق والتجديد)، ولكنه قائم على رمال متحركة.
في شباط- فبراير 2008 وضع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش "خطة تحفيز اقتصادية"، كانت الأولى من نوعها في عهده، بقيمة 152 مليار دولار. وعلى مقربة من نهاية العام نفسه وضع "خطة تحفيز" ثانية، ولكن هذه المرة بقيمة 700 مليار دولار. ولم تمض المائة يوم الأولى من عهد الرئيس الجديد باراك أوباما حتى وضع "خطة تحفيز" ثالثة تكلفت 787 مليار دولار.
لا تسأل من جاءت هذه الأموال. افضل من يعرف هو برنارد مادوف، وأستاذه في "النظرية"، بن برنانكي. فهي ديون يجري تدويرها فوق ديون، و... طباعة ورق.
هذه الأموال تذهب، في بعض جوانبها، لشراء أصول متهالكة يعتقد أنها ستعود لتنطوي على قيمة ما في وقت لاحق عندما يبدأ الانتعاش. ويذهب بعضها الآخر لتمويل وضمان عمليات الاقتراض في ما بين المصارف والمصارف، وفيما بين المصارف والمستهلكين.
وفي جميع الأحوال، فانها ذاهبة الى بالوعة بلا قرار.
ولكن من هم الذين سيدفعون الثمن؟
إنهم "المستثمرون" الذين وضعوا ثقتهم في برنارد مادوف، ولكن هذه المرة، ليس كأفراد وإنما كدول ومؤسسات. فهم يُقرضون "النظام" وفقا لـ"النظرية"، متأملين الحصول على "عائد" (مادي أو سياسي).
وعندما يُقرضونه دولارا، فماذا يفعل "مادوف"؟ يرد لهم نصف دولار ويقول لهم انه "دولار".
خفض قيمة الدولار هو أحد الوسائل المألوفة للولايات المتحدة لخفض "العجز" و"تسديد" الديون.
وهذا ما ظل يحصل على مدى العقود. وفي السنوات العشر الماضية خسر الدولار ما يكاد يصل الى نصف قيمته، ولكن ما يزال هناك من يراهن عليه كمقاصة دولية، وكأداة تقييم للعملات الوطنية، وكحافظة للمدخرات والعوائد في خزائن الدول.
الأمر في أحد أوجهه، مجرد "قرار سياسي" كما يقول مصرفيون كبار. الشيء الذي لا يقوله المصرفيون علنا هو أن "القرار السياسي" يعنى أن هناك من يضع قدمه على رقبتك ليقول لك: إبق على تقويم عملتك الوطنية وعلى إحتياطاتك النقدية بالدولار، وإلا..
فتتخذ "قرارا سياسيا" بقبول الخسارة.
هذا القرار يسمح لبن برنانكي بطباعة المزيد من الورق. فبما ان الورق السابق الذي قام بطبعه محفوظ في الخزائن، أو تدفع ثمنه اقتصادات أخرى، فانه يظل قادرا على ضخ دولارات جديدة في السوق، ويظل يسمى الواحد منها دولارا، حتى إذا كان في الواقع "نصف دولار".
ولكن هل انتهينا من الأزمة لكي نجد قيمة في قاع الدولار؟
في الواقع، لا.
لكي تخرج من الأزمة، فان الولايات المتحدة بحاجة، كما يقول أوليفيه بلانشار كبير الاقتصاديين في صندوق النقد، الى زيادة الصادرات. ولكي تتحقق هذه الزيادة، فانه يجب إجراء "تعديل" كبير في قيمة الدولار.
تملك إحدى المصارف المركزية الخليجية احتياطات نقدية أجنبية تقدر بـ 250 مليار دولار. هذه الاحتياطات مقوّمة، أو مرتبطة بـ"قرار سياسي" بالدولار. وعندما يجري "التعديل الكبير" في قيمة الدولار، فان "تعديلا كبيرا" سيجري في قيمة الاحتياطات النقدية التي يملكها هذا المصرف.
والدول النفطية العربية ليست إلا جانبا من عشرات الدول التي تجد نفسها مضطرة بـ"قرار سياسي" لقبول الخسارة.
بعض المعنيين بهذا القرار يقدم الارتباط بالدولار على انه "رهان" اقتصادي يعول على "القوة الاقتصادية" التي تمثلها الولايات المتحدة. ولكنه مثل الرهان على إبليس لدخول الجنة، كان خاسرا من قبل، وهو خاسر اليوم، وسيظل خاسرا غدا.
وأما السبب، فيكمن في "نظرية مادوف": تمويل الديون بالديون، وعندما يأتي أوان التسديد ادفع نصف دولار وقل للضحايا انه دولار كامل.
هذه اللعبة كان يمكن أن تستمر لوقت أطول، وكان يمكن لإبليس أن يواصل إقناعك بالرهان عليه، لولا ظهور متغيرين يتطلبان بدورهما إجراء "تعديل كبير" في اتجاه التفكير.
الأول، هو أن "خدمة الدين" الفدرالي الأميركي (الأقساط + الفوائد) ستبلغ 60% من الناتج الإجمالي بحلول عام 2010. وهي أكبر نسبة تصل اليها خدمة الديون منذ خمسين عاما، أي منذ أن كان الاقتصاد الأميركي يعمل برمته من أجل خدمة الديون التي تراكمت بسبب الإنفاق الهائل على تكاليف الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية.
الفرق اليوم، هو أن هذا يحصل بينما "الحرب الكورية" (في العراق وافغانستان) ما تزال تستهلك مئات المليارات من الدولارات سنويا، وبينما الاقتصاد الاميركي عاجز عن الدوران في حفرة الديون، وبينما الأزمة الاقتصادية ما تزال تتطلب مزيدا من الأموال، وبينما يشعر العالم كله بوطأة الديون الأميركية عليه!
والثاني، هو أن القوى الدولية التي كانت تساهم في تمويل الديون بدأت تبحث عن سبيل للخروج من الورطة بالسعي الى "مقاصة" دولية أخرى غير الدولار.
الأسبوع الماضي، وبمجرد أن تحدثت الصين (وهي احد أكبر مشتري سندات الخزانة الأميركية) عن هذه الإمكانية، انخفضت قيمة الدولار أكثر من 1% في يوم واحد. وكلما زاد الشعور بان الدولار سيفقد مكانته الدولية، فان الغطاء عن عمليات طباعة الورق سينكشف.
وهو ما يعني أن أياما أخرى كثيرة ستأتي ينخفض فيها الدولار بأكثر من 1% في يوم واحد... الى أن يثبت إن إبليس هو إبليس، وإن المشي وراءه لا يُوصل الى الجنة.
لقد حُكم على مادوف بالسجن لـ150 عاما. والولايات المتحدة لن تخرج من أزمتها الراهنة قبل أن تنهار كقوة عظمى.
النظرية واحدة. والجريمة واحدة. والضحايا هم أنفسهم الضحايا: حمقى الرهان على إبليس.
علي الصراف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق