قد يبدو ذلك السؤال غريباً، أيضاً، على كثيرين داخل مصر وخارجها من العرب بالطبع، ممن قضوا حياتهم يعتقدون أن قضية فلسطين قضيتهم المركزية، وأن كلمة العدو تعني "إسرائيل"، وأن مبدأها في التعامل مع هذا العدو هو النصر عليه لتحرير الأرض والأهل والمقدسات أو الشهادة دون ذلك. ولكن، تزول دهشتهم عندما يدركون السبب في احتمال ظهور أصواتٍ تطالب بمحاكمة عبد الناصر بتلك الاتهامات، طبقاً للمعايير الجديدة التي أفرزها نظام عبد الناصر نفسه، والذي أسسه قبل ٦٠ عاماً! الأمر بوضوح أكثر، عبد الناصر هو من أعلن تحديه إسرائيل في مايو/أيار ١٩٦٧؟ وهو من أغلق خليج العقبة؟ وهو من قام بتعبئة الجيش؟ وإعلامه وفنانوه هم من قاموا بأكبر حملة تعبئة للشعب المصري للحرب، وبسطوا لهم كل الأمور، وانطلق مطرب ذلك الزمان يشدو مزهواً، مخاطباً الزعيم.. ولا يهمك يا ريس من الأمريكان يا ريس! فكانت النتيجة أن وجه العدو الإسرائيلي ضربة قاصمة للشعب المصري كله، وليس فقط للجيش. وراح ضحية ذلك العدوان أهلنا المدنيون والنساء والأطفال في محافظات سيناء وبور سعيد والإسماعيلية والسويس، وتم تهجير من تبقى منهم على قيد الحياة، في سابقة نزوح لم يعرفها الشعب المصري من قبل. ثم لم يتوقف عبد الناصر عند هذا الحد، بل أطلق حرب الاستنزاف ضد العدو الإسرائيلي الذي وجد فيها مبرراً لاستكمال تدمير مدن القناة، ولعل بعض كبار السن يتذكرون حرائق الزيتية في السويس التي ظلت مشتعلة أسابيع. ثم تمادى العدو الإسرائيلي، في الرد بمنطق هذه الأيام، فقتل أطفال مدرسة بحر البقر، وقتل عمال مصانع أبو زعبل.
هذا أيضاً بمعايير هذا الزمان، عندما تخرج علينا من تقول، في الإعلام المصري الرسمي: المقاومة مش عايزة توقف القتال.. خلاص خلليهم يتقتلوا... هكذا ببساطة شديدة! إذن، وطبقاً لهذه المعايير، علينا البحث جدياً في محاكمة عبد الناصر وحكومته وقادته، وأيضاً السادات وحكومته وقادته، باعتبارهم مجرمي حرب، وارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بإراقتهم دماء المصريين. لم يبق لنا سوى أن نرسل للعدو الإسرائيلي اعتذاراً عن دفعه إلى قتلنا من دون رغبة منه في ذلك، وتلويث يديه بدمنا، واحتلال أرضنا وحصار أهلنا، وقتل أطفالنا ونسائنا، وحتى المعاقين منا في دورهم، وتدمير بيوتنا ومدارس أطفالنا ومستشفياتنا ودور عبادتنا. لم يتركوا بشراً ولا شجراً ولا حجراً، فنحن من دفعناه إلى ذلك!
لا أجد ما أقوله سوى أن الامم القديمة تاريخياً، ونحن منها، تمر بها عصور ازدهار عديدة، وعصور اضمحلال وانحطاط، أحسب أننا نعيشها الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق