أما إذا كان التهديد جدياً وأن الرئيس سيصدر مرسوماً بإجراء الانتخابات في موعدها قبل 25/10/2009، كما ذكر أمين سرّ اللجنة التنفيذية، معتبراً أن هذا الأمر قد يكون لحسن الحظ وليس لسوئه، فإن هذا الأمر بحاجة للمناقشة حتى لا تقع الفأس بالرأس، ونمضي بإجراء الانتخابات دون وفاق وطني، الأمر الذي يجعل إجراء الانتخابات مدخلاً لتكريس الانقسام وشرعنته وتحوله الى قطيعة كاملة، ومثل هكذا انتخابات لن تعطي الشرعية لأحد.
مثلما قال عدد من قادة "حماس" فإن لكل فعل رد فعل، ورغم أنهم لم يفصحوا عن رد فعلهم المحتمل على إجراء الانتخابات في الضفة الغربية فقط. فهو سيقع ضمن دائرة المضي في انتهاك الدستور عبر اعتبار المجلس التشريعي بمن حضر من أعضاء كتلة التغيير والإصلاح، هو المرجعية الشرعية حتى إشعار آخر، ويمكن أن يصل الأمر الى الدعوة الى إجراء انتخابات أخرى في قطاع غزة، ونزع الشرعية نهائياً عن الرئيس، وتعيين رئيس آخر فوراً او بعد 25/1/2010 على اعتبار أن الرئيس في ذلك التاريخ يفقد شرعيته، وفقاً لكل الاجتهادات بما فيها تلك التي أقرت تمديد الرئاسة لمدة عام اعتماداً على قانون الانتخابات الذي ربط بين إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية.
طبعاً إن عدم إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري، يمثل خرقاً للدستور ومن شأنه تكريس الانقسام، ولكنه رغم مساوئه يبقي باب الحوار مفتوحاً ويجعل هناك بصيص أمل بإنجاز المصالحة الوطنية، فالضرورات تبيح المحظورات شرط استمرار الحوار والجهود الرامية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة. فالوحدة ضرورة وشرط لا غنى عنه للانتصار في معركة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال.
كتبنا وقلنا مراراً وتكراراً إن التمسك بإجراء الانتخابات في موعدها الدستوري أمر قانوني هام جداً، ولكنه عند البعض في الفريقين سياسة يرفعونه تارة الى مستوى القداسة، وتارة أخرى لا يعيرونه أية أهمية. فالقانون الأساسي انتهك من كل الأطراف طوال السنوات الماضية. فالمسألة إذن ليست احتراماً للقانون الأساسي.
إن البعض الحريص جداً على الدستور الآن، سبق ودعا الى إجراء استفتاء وطني بعيد الانتخابات التشريعية الأخيرة، لأنه لم يعجب بنتائج الانتخابات. ثم دعا لإجراء انتخابات مبكرة قبل مضي عام على إجراء الانتخابات، وكان بعض أصحاب هذا الاتجاه، قد رفضوا السماح بمشاركة "حماس" بالانتخابات قبل أن تقر باتفاق اوسلو وبرنامج م.ت.ف والاتفاقيات والالتزامات التي عقدتها المنظمة مع إسرائيل، أي ما يلغي الخلافات بالقوة، ويضرب الديمقراطية في الصميم.
إن جزءاً من هذا الفريق لا يزال يطالب حتى الآن بوضع شروط على المرشحين للانتخابات تلزمهم بالموافقة على أوسلو والالتزامات المترتبة عليه. وبعض البعض من هذا الفريق دعا مؤخراً، وقبل عدم الوصول الى لحظة عرض الورقة المصرية للتوقيع وتهرب "حماس" من التوقيع عليها، الى إجراء الانتخابات بدون مصالحة وطنية لأن الشرعية، وفقاً لوجهة نظرهم أهم من المصالحة الوطنية، ودعا الى منع "حماس" من المشاركة بالانتخابات، لأنها تنظيم انقلابي وتعمل على إيجاد بديل عن المنظمة، ولا تلتزم ببرنامجها والاتفاقيات التي عقدتها.
إن الشرط الرئيس لإجراء الانتخابات في بلد حرّ ومستقل أن تكون حرة ونزيهة، بحيث تضمن حرية الترشيح والانتخاب، وحرية المرشحين بالدعاية الانتخابية، بما في ذلك حرية التنقل، وحرية أن يطرح كل مرشح برنامجه ورأيه بدون قيود أو اشتراطات داخلية وخارجية، ما عدا ضرورة الاتفاق على ركائز المصلحة الوطنية العليا، واحترام قواعد العمل السياسي والديمقراطي، التي يجب أن يلتزم بها الجميع.
إن كون فلسطين واقعة تحت الاحتلال، وما يقوم به الاحتلال من تدخل واسع في الانتخابات من خلال اعتقال مرشحين ومنع حريتهم بالتنقل والدعاية الانتخابية، واعتقال النواب كما حصل بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، حين قامت قوات الاحتلال باعتقال عشرات النواب غالبيتهم الساحقة من أعضاء كتلة التغيير والاصلاح، الأمر الذي حرم هذه الكتلة من حقها في ممارسة التأثير على المجلس التشريعي عبر الأغلبية التي حصلت عليها، الأمر الذي كان السبب الرئيس في تعطيل المجلس التشريعي، كل ذلك يجعل التوافق الوطني شرطاً لإجراء الانتخابات وبدونه لا يمكن أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة.
إذا أضفنا الى ذلك، أن مبدأ احترام نتائج الانتخابات، مهما تكن، ركن جوهري لضمان حرية الانتخابات، وهو مبدأ تعهد الرئيس ابو مازن باحترامه، وأن هذا المبدأ انتهك بشكل سافر من خلال الحرب والحصار والتجويع الذي مارسه الاحتلال الإسرائيلي منذ الانتخابات الأخيرة وحتى الآن، وانتهك جراء المقاطعة الدولية التي مورست على حكومة "حماس" ثم على حكومة الوحدة الوطنية، بحجة عدم التزامها بشروط اللجنة الرباعية الدولية في انتهاك صارخ للقانون الدولي والمواثيق الدولية التي تقوم على احترام إرادة الشعوب التي تعبر عنها بالانتخابات، وحقها بتقرير نفسها بنفسها.
تأسيسا على ما سبق، لا يمكن إهمال المصالحة الوطنية، وتقزيمها الى أبعد حد، وتضخيم بند الانتخابات وتصويرها كأنها عصا سحرية ستحل مشاكل الشعب الفلسطيني بضربة واحدة.
إن الوفاق الوطني على أساس برنامج وطني يحدد الأهداف الأساسية وأشكال النضال الأساسية وقواعد العمل السياسي والديمقراطي وحده هو الذي يكفل جعل التدخلات الإسرائيلية والإقليمية والدولية في الانتخابات الفلسطينية في أدنى مستوى ممكن.
إن إجراء الانتخابات بدون وفاق وطني، وفي ظل استمرار وتعمق الانقسام وطغيان الاتهامات المتبادلة والتحريض الذي تجاوز كل الحدود، واستمرار الاعتقالات والحد من الحريات الفردية والعامة، فيفتح طريق جهنم لكل أنواع التدخلات، وخصوصاً التدخلات الإسرائيلية، ويحول دون إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
إن الإصرار على إجراء الانتخابات واعتبار ذلك هو الهدف يخفي نوايا بأن هذه الانتخابات مصممة لتحقيق هدف واحد هو إخراج "حماس" من الشرعية الفلسطينية من البوابة التي دخلت منها، وهي صناديق الاقتراع. وهذا يجعل "حماس" تخشى من الانتخابات، كما يجعلها تخشى من أنها إذا فازت لن تتمكن من الحكم مرة أخرى. إن الطرف "المطمئن جدا" لنتائج الانتخابات عليه أن يقرأ نتائج الاستطلاع الأخير، الذي أجراه مركز القدس للاعلام والاتصال، بعد تأجيل تقرير غولدستون. فقد حصل الرئيس على 16.8% واسماعيل هنية على 16%!!
ما سبق كله يعني أن الديمقراطية ليست لها علاقة بالدعوة لإجراء الانتخابات، وإنما وراء الأكمة ما وراءها. فالدعوة لإجراء الانتخابات بدون وفاق وطني تحمل في طياتها، بقصد او بدونه، مراهنة على توظيف الاحتلال والتجويع والحصار والحرب والمقاطعة الدولية لصالح طرف بالانتخابات، وهذا يمس بشرعية الانتخابات وبحريتها ونزاهتها.
إن إجراء الانتخابات بدون وفاق وطني يعني أن قطاع غزة بأسره لن يشارك بها لأن سلطة حماس القائمة هناك ستمنعه من ذلك، ويعني أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية، وربما الجبهة الشعبية وقطاعات سياسية وشعبية أخرى ستقاطعها.
كيف يمكن أن تعطي الانتخابات، في ظل هذه المقاطعة الواسعة والمترافقة مع مقاطعة من قطاعات شعبية لا تشارك أصلا في الانتخابات ومن قطاعات أخرى أصبحت محبطة ويائسة من القيادات والقوى الفلسطينية، الشرعية لمن سيفوز فيها. فلا شرعية لانتخابات لا تشارك بها "حماس" تحديدا لأنها الفصيل الذي حصل على الأغلبية في الانتخابات الأخيرة، وخصوصا أنها حرمت من الحكم ولم يتبلور أغلبية شعبية كبيرة ثابتة لأي طرف، كما تشير المعطيات.
إن الانتخابات في ظل الاحتلال بدعة اخترعناها بعد اتفاق اوسلو. ولكنها كانت من المفترض لمرة واحدة على أساس أن اتفاق اوسلو سيقود خلال 5 سنوات الى قيام دولة فلسطينية حرة ومستقلة. إن عدم قيام الدولة هو الذي جعل الرئيس الراحل ياسر عرفات يرفض إجراء الانتخابات مرة أخرى حتى وفاته، لأنه لا يريد أن يرسخ الاحتلال ويعطيه شرعية. فلم يكن ياسر عرفات يخشى من المنافسة، كما أن القانون الأساسي لم يكن ينص على إجراء انتخابات كل 4 سنوات.
إن المطلوب الآن، والذي يجب أن تكون له أولوية على أي شيء آخر، هو بلورة رؤية استراتيجية واحدة ينبثق عنها برنامج مشترك لمواجهة الاحتلال ودحره وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال. وإذا تم الاتفاق على مثل هذا البرنامج لن يسمح الاحتلال على الأرجح بإجراء انتخابات.
إن برنامج المفاوضات كأسلوب وحيد فشل فشلاً ذريعاً الى حد أن المفاوضات متوقفة منذ حوالي عام وأوهام الحل القريب تبخرت مع تخلي إدارة اوباما عن وعودها.
وبرنامج المقاومة غاب في ظل تغليب الصراع على السلطة على أي شيء آخر. لقد تحولت المقاومة الى أسلوب من أساليب الصراع الداخلي وليست استراتيجية لدحر الاحتلال، لدرجة وصلنا الى وضع نجد فيه أن المقاومة معلقة، والصراع الداخلي مفتوح على الاحتمالات المرعبة.
وإذا كان التوصل للوفاق الوطني الذي أساسه الاتفاق على برنامج مشترك متعذراً، فعلى الأقل يجب الاتفاق على اللجوء للانتخابات لحسم الخلاف على أساس أن تكون حرة ونزيهة وتوفير ضمانات فلسطينية وعربية ودولية لاحترام نتائجها.
ما سبق لا يعطي الحق لـ"حماس" بأن تستخدم الفيتو لمنع إجراء الانتخابات الى الأبد، ولكنه يفرض على من يريد الانتخابات أن يتخلى عن شروط الرباعية كأساس لبرنامج حكومة الوفاق الوطني، ويلتزم باحترام نتائج الانتخابات مهما تكن، من خلال توفير شبكة أمان فلسطينية لحماية الفائز وعدم حرمانه من الأغلبية التي يحصل عليها، والعمل من اجل توفير ضمانات عربية ودولية لاحترام إرادة الشعب الفلسطيني.
أما "حماس" فعليها أن تفرق بين ضرورة الانسجام مع الشرعية الدولية وهذا ضروري جداً، وبين الاعتراف بشروط اللجنة الرباعية المجحفة والموجهة أساساً لعزل "حماس".
ما سبق ليس دعوة لانتظار "حماس" الى الأبد، وإنما دعوة لإعادة توحيد الشعب الفلسطيني وقواه الحية حول برنامج وطني قادر على تحقيق أهدافه الوطنية، وإذا توفرت أغلبية وراء هذا البرنامج وتخلفت "حماس" عن الالتحاق به ستعزل وسيتجاوزها الشعب الفلسطيني الذي لا يرضى أن تكون قضيته رهينة بيد أحد أياً كان.
إن الوفاق الوطني على مرجعية واحدة هدفها الناظم مواجهة الاحتلال أهم من الانتخابات وشرط لتحقيقها، لأن الهاجس يجب أن يكون دائماً عند الجميع كيف يمكن أن ندحر الاحتلال ونوقف تهويد القدس وأسرلتها، وأن نزيل المستوطنات ونهدم الجدار وننهي الحصار والعدوان والاغتيال والاعتقال!! وإذا كانت الانتخابات ممكنة وضرورية لتحقيق ذلك فأهلاً وسهلاً بها، وإذا لم تكن فلا داعي. فالانتخابات ليست ممراً إجبارياً ما دمنا تحت الاحتلال وإنما هي ضرورية بقدر ما تساعد على إنهاء الاحتلال، وضارة إذا جاءت لتكريس الاحتلال والتعايش معه ومنحه الشرعية!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق