خلال الأسبوع الماضي عقد الأتراك الأردوغانيون اتفاقين "تاريخيين": الاتفاق مع أرمينيا على فتح الحدود، والاتفاق مع سوريا على "إسقاط" الحدود بإعفاء مواطني الدولتين من التأشيرة، وبحرية التبادل التجاري، وبتشجيع الاستثمار، وأُمورٍ أُخرى. ورغم الفرق الواضح بين الأمرين؛ إذ إنّ الاتفاق مع أرمينيا أهمّ بكثير بسبب ضخامة المشكلة التاريخية؛ فإنّ للاتفاقين دلالتهما المميَّزة. وأهمُّ التمييزات أنّ هذا "الانفتاح" والاتجاه للانتشار والامتداد ما كان يمكن أن يحصل في حقبة العسكريين الأتراك والحرب الباردة، ولا كان يمكن أن يحصل في عصر الحزبية الأتاتوركية.
فعلى مدى أربعين سنةً ونيّفاً ظلّت المشكلتان الأرمينية والقبرصية أهمَّ مشكلات السياسة الخارجية التركية. فالأرمن الذين وقعوا، مثل الأكراد، بين الدول الكبرى والوسطى، كتركيا وإيران وروسيا، يتهمون الأتراك بأنهم أَوقعوا بهم مذابح كبرى منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، دفعت أكثريتهم إلى الهجرة باتجاهاتٍ مختلفةٍ. وعندما فشل مشروع الدولة القومية، انصرفوا من مهاجرهم للنضال ضد تركيا الدولة القومية الصاعدة. ومع أنّ تركيا حمتْ نفسها مبدئياً من اندفاعاتهم الإعلامية من المهاجر، بالدخول في "الناتو" بعد الحرب الثانية؛ فإنّ تأكيدهم على المذابح التركية ضدَّهم، صنع مشكلة مُقلقة للأتراك منذ ستينيات القرن الماضي. وخفّت هذه المشكلة بقيام الدولة الأرمينية على جزءٍ من أرض الأرمن التاريخية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ثم استطاعوا في التسعينيات خوض حرب ضد أذربيجان المجاورة على إقليم ناغورنو قره باخ الذي ما يزالون يحتلُّونه حتى اليوم. وفي حين وقفت روسيا مع أرمينيا، وكذلك إيران (بسبب مشكلاتها مع القومية الآذرية رغم الأكثرية الشيعية بين السكان)؛ فإنّ الأتراك أَظهروا تعاطُفاً مع أذربيجان (ذات الإثنية التركية) دون أن يصطدموا بالأرمن أو الروس أو الإيرانيين. وفي النتيجة، ورغم الانحياز الأوروبي للأرمن؛ فإنّ الأخيرين وجدوا لهم مصلحةً كدولة في تغيير سياساتهم تُجاه الجار التركي، ولأنَّ الأميركيين ساعدوا الطرفين على التقارُب لحين المصالحة الأولية برعايةٍ أميركيةٍ خلال الأُسبوع الماضي. وما يزال الأتراك يعلِّقون التطبيع الكامل مع أرمينيا على تسوية مشكلاتها مع أذربيجان، رغم الخيبة التي أظهرها الآذريون من الاتفاق التركي -الأرمني.
أمّا المشكلة التركيةُ مع قبرص؛ فتتمثل في أنّ رُبع سكان قبرص من أُصول تركية. وعندما توتّرت العلاقاتُ بين القبارصة اليونان والقبارصة الأتراك مطلع السبعينيات على خلفية انقلابٍ عسكريٍّ يونانيٍّ بجزيرة قبرص؛ تدخَّل الجيش التركي عام 1975 واحتلّ وحمى الجزء التركيَّ من الجزيرة. وقد تحسّنت العلاقاتُ اليونانية- التركية خلال العقد الماضي؛ ومال الأتراك لحلّ المشكلة بقبرص أيضاً وإعادة توحيد الجزيرة في نظامٍ فيدرالي. واقترحت الأُمم المتحدةُ حلاًّ للمشكلة وافق عليه الأتراك في بداية عهد أردوغان، لكنّ القبارصة اليونانيين رفضوا الحلَّ الاُمَمي، وساعدهم الاتحاد الأوروبي بإدخال قبرص (اليونانية) في الاتحاد! والأميركيون مع تركيا في قبرص أيضاً، وقد يعودون للتوسُّط كما توسَّطوا بينها وبين أرمينيا.
أربعة أَوجُه لنهوض تركيا: النمو الاقتصادي، والانتشار في مناطق النفوذ التقليدية، والتدخل في "الشرق الأوسط"، واستئناف "الهجوم" لدخول الاتحاد الأوروبي.
وهكذا فإنّ الإسلاميين الأتراك بادروا لحلّ مُشكلاتٍ مستعصيةٍ من عهد الحُكْمين الأتاتوركي والعسكري. بيد أنّ أخطر المشكلات التركية الداخلية والخارجية الباقية هي المشكلة الكردية. فالأكراد يشكلون نحو 15 في المئة من عدد السكّان، وهم في ثورةٍ شبه دائمة منذ تمرد الشيخ سعيد عام 1924. وقد انتهجت الحكومات التركية المتعاقبة سياسات قومية متشددة؛ فتحالفت مع إيران والعراق ضد الطموحات الاستقلالية للأكراد. وفي حين تزداد قبضة إيران على أقليتها الكردية شدةً؛ فقد أنشأ الأكراد كياناً شبه مستقلٍ بالعراق بمعاونة الأميركيين (والإسرائيليين) قبل سقوط صدّام وبعده. وما خمدت المقاومة الكردية ضد النظام التركي، وإنْ خَفَّ أُوارُها منذ سَلَّمتْهم سوريا عبدالله أوجلان زعيم "العمال" الكردستاني. وما تردَّد أردوغان في المبادرة في الملف الكردي أيضاً. فقد أعطى الأكراد حقوقاً ثقافيةً وتربوية. وفي البرلمان التركي الآن كتلة نوابٍ أكراد صغيرة، ولا يلقى حراكُهُم غير العنيف اعتراضاً كما في السابق. بيد أنّ أردوغان تردد حتى الآن في اقتراح "الحكم الذاتي" في الأقاليم ذات الكثرة الكردية.
وللنهوض التركي في عهد أردوغان أربعة أَوجُه: النمو الاقتصادي الكبير، والانتشار الواسع في مناطق النفوذ التركية التقليدية، والتدخل الاقتصادي والسياسي في منطقة "الشرق الأوسط الكبير"، وتجديد الهجوم (الودّي) للدخول إلى الاتحاد الأوروبي. فمنذ سبع سنواتٍ ما قلّتْ نسبةُ النموّ الاقتصادي بتركيا عن 7 في المئة. ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكُّك يوغوسلافيا، انتشر الأتراك الاقتصاديون والتاريخيون في آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان. وعندما ذهبْتُ في الصيف الماضي إلى كوسوفو وجدْتُ آثار العمل التركي ظاهرة في كل مكان: من المؤسسات الاقتصادية، ومؤسسات الدولة الجديدة، إلى تجديد المساجد العثمانية التاريخية، والمدارس الدينية. وقد عرض عليَّ موظفو الإدارة الدينية، والأوقاف، بأنقرة واسطنبول خلال زيارةٍ قبل شهرين قوائم بـ111 ألف منحة دراسية لطلاب درسوا ويدرسون العلوم الدينية من آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان وتركيا، وإنشاء وترميم مئات المدارس والجامعات الدينية. وقد ذكرت الدراساتُ الغربيةُ تنافُساً بين الإيرانيين والسلفيين بآسيا الوسطى والقوقاز وتركستان والبلقان.
صحيحٌ أنّ التوتُّر بين تركيا وسوريا خَفَّ بعد عام 1998 وتسليم أوجلان. لكنْ منذ عام 2004 بدأت علاقةٌ إيجابيةٌ جديدةٌ بين سوريا وتركيا وصلت في الأيام الأخيرة إلى الاتفاق الاستراتيجي. وبالتوازي مع ذلك التقارُب، حاول الأتراك التوسُّط بين سوريا ولبنان، وأرسلوا عسكرهم مع القوات الدولية إلى جنوب لبنان. وتدخلوا أخيراً في النزاع بين سوريا والعراق متوسّطين، ويوم الخميس 15/10/2009 وصل أردوغان إلى بغداد ووقّع عشرات البروتوكولات مع المالكي، وأعلن عن علاقة جوار منقطعة النظير. والوساطةُ بين سوريا وإسرائيل معروفة، وقد توقفت بعد حرب إسرائيل على غزة أواخر 2008؛ لكنّ الاتصالات لم تنقطع.
وبين تركيا وإيران تبادُلٌ اقتصاديٌّ مُتَنامٍ، وسيذهب أردوغان إلى إيران قريباً، وهو معني بالاتصالات بين واشنطن وطهران. وقد اقتصر التشارُك تقليدياً بين البلدين على الملفّ الكرديّ؛ لكنه يتجاوزُهُ الآن إلى العراق، والمصالح الاقتصادية، و"الشرق الأوسط الكبير". وفي أفغانستان تُشاركُ تركيا في قوات الأطلسي؛ وهي تقود الآن تلك القوات.
وما يزال الأتراك في مواقع الهجوم لدخول الاتحاد الأوروبي. وقد عرفوا انتكاساتٍ في هذا الشأن بعد ذهاب شيراك ومجيء ساركوزي الذي أراد صَرْفَهُم عن ذلك باقتراح الاتحاد المتوسِّطي. وفي حين كان المستشار الألماني السابق شرودر بين المؤيدين؛ فإنّ المستشارة ميركل متردِّدة، وكذلك رئيس الوزراء البريطاني. ويصرّح اليمين الأوروبي علناً أنه لا يريد تركيا، الدولة الإسلامية الكبرى، داخل الاتحاد. لكنّ الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، متحمِّسون لتركيا الأوروبية.
وهاكُم في الخاتمة هاتين القصّتين: جاء وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلوا إلى لبنان قبل ثلاثة أشهر، فزار سعد الحريري، كما زار القوات التركية في الجنوب. لكنه زار كذلك قريةً تركمانيةً بأقاصي الشمال (عكّار)، ويبدو أنّ أهالي القرية شكوا له سوءَ أوضاعهم؛ فقال: إن عطش قرية "مشحة" هو مثلَ عطَش الأَناضول، وتركيا لن تسمح بحلول الضَيم بأيّ تركيٍّ بعد اليوم!
أمّا القصة الأُخرى فتعود لعام 1920 عندما بدأت الاتصالات بين الجنرال غورو، القائد الفرنسي بسوريا ولبنان، ومصطفى كمال، بشأن إقليم الإسكندرون. وقد مال غورو لإعطاء الإقليم لتركيا، بينما رأت الغُرَف التجارية الفرنسية أنّ في ذلك خَطَراً على المصالح التجارية الفرنسية. أجاب غورو: إنّ الأتراك جِدّيون، والعرب ليسوا كذلك؛ لذا فالأفضل إعطاء الإسكندرون لتركيا للحصول على صداقتها في منافسة الإنجليز على العراق، وللتمكُّن من حكم سوريا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق