من ناحية أخرى، تنبّهنا هذه الأدبيّات إلى خللٍ فاضح في الثّقافة السياسيّة العربيّة: قلّة الاهتمام بتجربة الصين ومثيلاتها، على الرّغم من أنّها أقرب إلى تجاربنا وتحدّياتنا وظروفنا من التّجربة التاريخيّة لأوروبا الغربيّة، التي لا يزال باحثونا وكتّابنا يصرّون على عقد نفس المقارنات القديمة والمتعبة معها. الجهل بالصين وتجاهلها هو ليس صدفةً، بل له علاقة وثيقة بموقعنا في العالم، وعمليّة صنع المعرفة فيه، و ـــ هذا الأهمّ ـــ مفهوم «النموذج» الذي يراد لنا أن نتعلّم منه وأن نقلّده وأن نقيس أنفسنا بمعاييره.
يخبرنا سمير أمين أنّ هذه المنهجيّة في تغطية الصين لها هدفٌ سياسيّ واضح: جعل الجمهور الغربي معبّأً بشكلٍ مستمر ضدّ الصين، متقبّلاً فكرة أنّ الصين قد تصير، في أيّة لحظة، عدوّاً للغرب يحتاج إلى ضربة تردعه وتضعه في مكانه. الأدهى من ذلك، يضيف المفكّر المصري، أن الكثير من إصدارات مراكز الأبحاث تتكلّم ـــ منذ عقودٍ وبشكلٍ روتينيّ ـــ على اللحظة الّتي تصير فيها المواجهة «ضروريّة». بمعنى آخر، إنّهم يشرّعون مسبقاً فكرة أن الحرب (النووية، لا أقلّ) مع الصين قد تصير يوماً ما «ضرورة» ولا مفرّ منها، إذا ما جاوزت الصين حدّاً معيّناً من التقدّم والثراء والنفوذ!
أوّل من نبّهني إلى أهميّة الصين ونموذجها كان المفكّر الراحل هادي العلوي، الذي أقام في الصين ردحاً طويلاً وتخصّص في فلسفتها، وهو كان يكتب باستمرار عن ضرورة التفاتنا إلى جيراننا في الشرق، محذّراً من أن نستقي معرفتنا عن البلد من المصادر الغربيّة حصراً. حتّى المثقّف العربي الذي يتظاهر بالاهتمام بالتّجربة الصينية، يخبرنا هادي العلوي، هو حقيقةً يمدح «الصين الخطأ». المثقف العربي اليوم تبهره صين «جيانغ زيمين» و«لي بينغ»، ولكنّه يجهل صين «ماو» أو يعاديها، أي أنّه لا يعرف أساس التجربة الصينية وكنهها.
الإنجاز الحقيقي لـ«ماو» لا يقاس ببناء الصناعات التصديرية والأبراج الزجاجيّة، بل في أنّه حلّ المعضلة التاريخيّة التي كبّلت المجتمع الصيني منذ أن عرف الحضارة: المسألة الزّراعيّة. المعضلة هذه عبّر عنها المؤرّخ أريك هوبسباوم على الشّكل الآتي: «كيف تُطعم خمس سكّان العالم بأقلّ من 6 بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة على سطح هذا الكوكب؟». هذه المعادلة، والعدد السكّان الهائل، جعلا الصين في حالة خطرٍ دائم على مرّ الحقب. يكفي أن ينخفض الإنتاج بنسبة العُشر، مثلاً، حتّى تقع البلاد في عجزٍ غذائيّ خطير. أمّا إذا ما مرّت سنوات قحط وجفاف، فالنتيجة المباشرة تكون مجاعات هائلة يقضي فيها الملايين، ودورات المجاعة هذه استمرّت حتّى أواسط القرن العشرين.
الإنجاز الثّاني الذي بدأه «ماو» واستكمله خلفاؤه يتمثّل، على حدّ قول سمير أمين، في أنّ الصين هي واحدة من ثلاث دولٍ من الجنوب العالمي، لا غير، تمكّنت خلال القرن الماضي من تأسيس ما يسمّيه «نظام إنتاجي سيادي» (إلى جانب كوريا الجنوبيّة وتايوان). «النظام الإنتاجي السيادي» يعني أنّ الصين تملك قاعدتها التكنولوجية والصناعية الخاصّة بها، وهي قادرة على إنتاج التكنولوجيا التي يحتاج إليها مشروعها التنموي بشكلٍ مستقلّ، ولا يوجد أمامها «عنق زجاجة» تكنولوجي لا يمكنها تذليله في أيّ من المجالات الأساسيّة. الهند أو البرازيل، بالمقارنة، تملكان عناصر قليلة ومبعثرة من مشروع كهذا.
هذان الإنجازان كانا الأساس الذي بنيت عليه الصين الحديثة. من لا يرى في الصين إلّا صناعاتها التصديريّة يعزل نفسه عن القصّة الحقيقيّة للتنمية الصينيّة. في العقدين الأخيرين فقط، يخبرنا سمير أمين، تمكّن نظام الإنتاج الصيني من استيعاب وتشغيل أكثر من 400 مليون مواطن نزحوا من الأرياف إلى المدن. أي ما يزيد على كامل عدد سكان أميركا الشماليّة أو مجموع دول أوروبّا الغربيّة. هذه حركة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً: هل لديكم فكرة عن كمّ البنى التحتيّة والمدارس والمؤسسات والمساكن التي يتعيّن بناؤها من أجل استيعاب هذا العدد من النّاس؟ الطلب الذي شكّله (ويشكّله) «المتمدّنون الجدد» في الصين كان المحرّك الأساسي للنموّ في العقود الأخيرة، وهو أضخم بما لا يقاس من وزن الاستثمارات الأجنبيّة أو الأسواق الخارجيّة (على أهمّيتها). الدولة الصينيّة، دولة «ماو»، هي التي أمّنت الجهاز الإداري والسياسي والإنتاجي القادر على استيعاب كلّ هؤلاء البشر، واستثمارهم في الاقتصاد وفي صنع القيمة، وتعليم أولادهم، وتحويل الطّلب الداخلي الى قطاعات صناعيّة وإنشائية وخدميّة هائلة، تغذّي النّموّ وتتغذّى به.
من السّهل أن نسخر من فقر الفلّاح الصيني أو من الشقق الصغيرة والمتشابهة التي يسكنها العمّال في المدن الصينيّة الكبرى، إلّا أنّ هذه الأمور لا يمكن أن تُقاس إلّا بالمنظورٍ المقارن. البرازيل، مثلاً، تعتبر نموذجاً تنمويّاً ناجحاً، وهي أيضاً شهدت ـــ في العقدين الأخيرين ـــ زيادة هائلة في مستوى معيشتها وتضخّماً سريعاً في حجم مدنها: إلى الآن، يقطن أكثر من نصف سكّان المدن بالبرازيل في أحياء عشوائية وأكواخ صفيح، خارج رعاية الدّولة تقريباً وعلى هامش الاقتصاد الرّسمي. يدعونا سمير أمين أيضاً إلى مقارنة وضع الريف الصيني، حيث كل الناس يملكون منازل وكهرباء وتكنولوجيا زراعية حديثة، بالريف في الهند الصينية أو في الهند، وهي دولٌ كان وضع مزارعيها مشابهاً لوضع نظرائهم الصينيين في أواسط القرن العشرين، إن لم يكن أفضل.
علم الاقتصاد السّياسي، منذ أيّام شومبيتر وليست، نشأ كي يفسّر لنا ديناميّة التصنيع والتحديث: لماذا حصلت الثورة الصناعيّة في بريطانيا العظمى، وليس في مكان آخر؟ ولماذا تمكّنت دولٌ معيّنة من اللحاق بها، في حين فشل غيرها؟ من هذا المنظور، الصين تجربة فريدة وهائلة بالمعنى التّاريخي. خلال أقلّ من نصف قرن، نُقل سدس البشريّة من حالة مجتمع زراعيّ إقطاعيّ، مُستعمَر داخليّاً وخارجيّاً ويعيش باستمرار على حافّة المجاعة، إلى حالة مجتمعٍ صناعيّ متقدّم، ينتج القيمة والمعرفة والتكنولوجيا. ولكن من يقرأ الصحافة الغربيّة اليوم، من «نيويورك تايمز» إلى «الإيكونوميست»، لن يأخذ هذا الانطباع. الوضع ليس مختلفاً كثيراً في الأكاديميا، أذكر أنّنا كنّا ندرّس الطلّاب مرّة، في جامعة أميركيّة، صفّاً مدخليّاً إلى السياسة المقارنة، وكان ضمن المنهاج قسمٌ معتبر عن الصين. كلّ ما قرأه الطلّاب فعليّاً، كان ذمّاً بالتّجربة الصينيّة وتبياناً لفشلها المستمرّ: كيف أنّ «ماو» كان نرجسيّاً مهووساً بالسّلطة ولا يعرف كيف يدير بلداً، وكيف أنّ إصلاحاته الزراعيّة كانت فاشلة ومدمّرة وكلّفت الملايين حياتهم، وكيف أنّ ثورته الثقافيّة كانت إجراماً وقمعاً ومسرحيّة هزليّة، إلخ ...
أمام هذه السرديّة، وجدت نفسي أسأل الطلّاب: «ألا يبدو لكم غريباً أنّه، بعد كلّ هذا الفشل والتخبّط، وجدت الصين نفسها وقد حقّقت واحدة من أكبر القفزات _ بكلّ المقاييس _ في تاريخ البشرية؟».
إنّ قنوات الإعلام التي ارتضت أن تصير منابر للتحريض الطائفي يجب أن تعرف، وأن يعرف العاملون فيها، أنّهم صاروا _ بالمعنى الفعلي للكلمة _ رسلاً للموت والخراب، وأنّ الرواتب التي يتلقّونها مقابل تقسيم المجتمعات ونشر الكراهية هي مالٌ حرام، سوف يُسألون عنه يوم القيامة. بنفس المعنى، فإنّ من أغرب المفارقات في زمننا هذا أنّ الكثير من المثقّفين العرب الذين يعتبرون أنفسهم سليلي الثقافة الأوروبية المتنوّرة، وأنّهم تربّوا على تراث العداء للفاشيّة ولرموزها، تجدهم قد غضّوا البصر والعقل حين مرّت النسخة العربيّة، «الحديثة»، من العنصريّة أمام ناظرهم.
خطاب «العداء المطلق» تجاه إيران يشبه هذا الخطاب الطّائفي ويتغذّى منه، ومن يدعو إلى عداوات أزليّة و«حروب قوميّة» مع شعوبٍ جارة، تجمعنا بها شراكة تاريخيّة وكمّ هائل من المصالح والروابط، هو لا يعيش في العالم الحديث، ولا يمكنه أن يبني مشروعاً ولا مستقبلاً، بل هو _ في أفضل الحالات _ يصلح لأن يكون أداةً تشغّل لمصلحة غيره. من حيث المبدأ، من المفترض أن يكون لدينا _ كعرب _ ميلٌ فطريّ إلى التضامن مع كلّ دول الجنوب وشعوبه، فكيف بمشروع سيادي يحاول أن يشقّ طريقه المستقلّ في العالم، ويدفع ثمناً غالياً في سبيل ذلك؟
«ذمّ إيران» في الساحة العربيّة اليوم يجري على خطّين تؤامين، تجدهما أحياناً في المطبوعة الواحدة، ولكنّهما متناقضان أشد التناقض. الخط الأول ينطلق من نقد «علماني جذري» يعتبر أنّ إيران قد أسرها الإسلاميون، وأنّ الواجب العلماني هو أن نعادي _ من حيث المبدأ _ كلّ حركة ذات وجه ديني في أي مكان في العالم، بغضّ النظر عن المحتوى والمشروع والسّلوك، فهي كلّها معادية للحداثة والديموقراطيّة، وهي بالتعريف «غيبيّة ورجعيّة ومتخلّفة». في الوقت ذاته، وبالتوازي، تجد خطاباً موجّهاً إلى الفئات الشعبيّة والجمهور الطائفي يحرّض على الإيرانيين (كإيرانيين) لأنهم شيعة وروافض و«مجوس»، ولأنّهم يشتمون الصحابة، ولأنّ كلّ مشاكل العرب سببها الأيدي الخفيّة لإيران (وكلّ كلام الإيرانيين عن الوحدة الإسلاميّة وفلسطين ومعاداة الاستعمار ما هو إلّا «تقيّة»، تخفي الحلف «السرّي» القائم بين إيران وأميركا وإسرائيل!).
من الضروريّ أن ندرس إيران وأن يكون لنا رأي نقديّ في تجربتها، وأن نؤرّخ للعلاقة معها ولآفاقها، ولحدود التعاون والتنافس والخلاف، ولكنّ هذا كلّه يجب أن يجري ضمن إطارٍ عقلانيّ، مسؤول، واعٍ لتاريخ المنطقة وتراثها، لا انطلاقاً من نظريّات مؤامرة ومسلّمات طائفيّة _ أو عبر إعادة إنتاج أدبيّات «قادسيّة صدّام».
خذوا مسألة النظام السياسي مثالاً، والنظام الذي أرسته الثورة الإسلاميّة يستحقّ، بعد تجربة استمرّت أكثر من ثلاثين عاماً، دراسةً ونقداً وتمحيصاً. الموضوع لا يمكن اختزاله وتبسيطه. كما يكتب عزمي بشارة مثلاً، فإنّ نظام إيران السياسي هو «شموليّ»، بمعنى أنّه يعتمد أيديولوجيا رسميّة وحيدة، يعتبر أنّه يمكن التوصّل من خلالها الى حلولٍ لكلّ المشاكل الّتي قد تواجه المجتمع اليوم أو في المستقبل، ولا يسمح بممارسة العمل السياسيّ والحزبيّ في البلد إلّا تحت مظلّتها. إلّا أنّه في الوقت نفسه، يضيف بشارة، فإنّ إيران قد غيّرت أكثر من عشرة رؤساء منذ عام 1979، عبر الانتخابات وبالقنوات الدستوريّة (وهذا أمرٌ فريدٌ بالنّسبة إلى نظامٍ فتيّ، نتج من ثورة وانقلاب وعاش حروباً داخليّة وخارجيّة). هناك عمليّة صنع قرار في إيران، وانتخابات حقيقيّة لا يعرف أحدٌ مسبقاً من سيفوز بها، ونتيجتها تؤدّي إلى تغييرات حقيقية في الإدارة والسياسات. من الممكن مناقشة مراكز القوى المختلفة داخل الدولة الإيرانية، والتوازنات بين مؤسسات الرئاسة والحرس الثوري والبيروقراطيّة، ولكن اختزال هذا كلّه تحت كليشيهات من نوع «نظام الملالي» و«نظام الوليّ الفقيه» ينطوي على احتقارٍ لإرادة الشعب الإيراني بمقدار جهله (المقصود) بطبيعة الحالة الإيرانيّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق