دوافع ومضمون المبادرة الروسية
ينطلق هذا التقدير من أن سوريا لا تحتل موقعاً متقدماً في أولويات الأمن القومي الروسي، إلى الحد الذي تضطر معه موسكو للاصطدام بواشنطن عسكرياً. سوريا ليست بطن روسيا الرخوة، وسوريا ليست القوقاز أو مطلاً برياً لروسيا على امتدادها الأوراسي في أوروبا، وهو أمر يجب تذكره عند تقييم الأداء الروسي في الأزمة السورية. صحيح أن روسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع ـ نظريا - تدمير الولايات المتحدة الأميركية بصواريخها النووية، إلا أن هجوماً كهذا سيعني تدميراً مؤكداً لروسيا أيضاً، وهو أمر يعلمه الطرفان الروسي والأميركي. وفي الوقت عينه لا تملك روسيا، البازغة والطامحة للعودة مجدداً إلى الساحة الدولية كقوة عظمى ند للولايات المتحدة الأميركية، رفاهية غض النظر عن تعرض حليفتها سوريا لضربات عسكرية أميركية وصولاً إلى إطاحة نظامها، بسبب التداعيات السلبية لذلك على صورتها في المنطقة والعالم. وإذ كثرت التحليلات حول الأهمية القصوى لاستعمال روسيا المرافئ السورية على البحر المتوسط وانها الأخيرة الباقية لها في المنطقة، فإن تقليب النظر في أولويات الأمن القومي الروسي لا تظهر أهمية استثنائية لهذه المرافق، أو على الأقل أن تخاطر روسيا بمجابهة عسكرية ضد واشنطن للحفاظ عليها. كما أن استعمال أوباما للقوة العسكرية ضد سوريا سيضع روسيا في موقف صعب في ما يخص صورتها في المنطقة، إذ ستظهر موسكو مجدداً في مظهر الحليف الذي لا يستطيع منع العدوان على حلفائه (مصر 1967، العراق 2003، ليبيا 2011 وسوريا 2013). إذا تقع مصالح روسيا بين حدين: عدم الرغبة بالمواجهة العسكرية مع واشنطن بسبب سوريا، وفي الوقت نفسه منع إسقاط النظام السوري بكل الوسائل غير العسكرية. لذلك تتوسل المبادرة الروسية الراهنة الأزمة السورية لبناء المدخل المناسب لموسكو كي تعود إلى التوازنات الدولية من موقع الند للولايات المتحدة الأميركية. ويرتب ذلك نتيجة تحليلية فائقة الأهمية مفادها أن الترتيب الدارج للاصطفافات في التحليلات السياسية العربية: الروسي - الإيراني - النظام السوري في مواجهة الأميركي - الإقليمي - المعارضة السورية ليس دقيقاً بما يكفي. إذ إن استحواذ روسيا على الورقة التفاوضية السورية وتوقيع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نيابة عن النظام السوري، يهمش البعد الإقليمي في الصراع السوري (إيران) ويحصر الأزمة السورية تفاوضياً في بعدها الدولي. مثلما تهمش المسايرة الأميركية للروس تحالفات واشنطن الإقليمية الراغبة بشدة في توجيه ضربة عسكرية لسوريا (السعودية ودول الخليج العربية وتركيا). ويتضاعف الربح التفاوضي الروسي مع دخول الطرف الأميركي في تفاصيل المبادرة الروسية، التي تحولت إلى التأثير في الكونغرس والرأي العام الأميركي، ما يعزز صورة بوتين الصاعدة في العالم. وزاد بوتين على المبادرة الحاذقة بمقالة محكمة نشرها في جريدة «نيويورك تايمز»، خاطب فيها الأميركيين من موقع الند وذكرهم بالمصالح المشتركة التي تجمعهم مع بلاده، بطريقة المعلمين الكبار. وإذ يستغل بوتين ضعف أوباما وتردده، وانقسام الكونغرس حول الضربة، فإنه يهيئ بمبادرته لأوباما فرصة التراجع عن تهديداته مثلما يضمن لإسرائيل تحييد الرادع السوري الكيماوي لسلاحها النووي، والمقابل ترقية وضع روسيا على الساحة الدولية. وتهيئ المبادرة لروسيا، فوق كل ذلك، الوقت اللازم لإظهار موقعها الجديد حيال واشنطن، لأن التفاصيل التقنية والقانونية لنزع السلاح الكيماوي السوري تستعصي على الحل في جولتين أو ثلاث أو حتى عشر جولات، ما يعني تكريس الصورة الروسية الجديدة على مدار الأشهر القادمة. فقط على هذا النحو، يمكن فهم المبادرة الروسية ودوافعها، وليس على أنها انتصار للنظام السوري أو إيران وتحالفاتها الإقليمية. قد يكون النظام السوري قد ربح ـ نظريا - بعض الوقت (حتى منتصف العام القادم الذي يتزامن مع انتهاء ولاية بشار الأسد)، ولكن لا يمكن اعتباره رابحاً باية حال. ويعود السبب في ذلك إلى أن المبادرة الروسية حولته إلى أصل تفاوضي محض، مؤقت الأهمية والمفعول الزمني، بحيث ينتهي الأصل مع انتهاء الغرض التفاوضي منه.
الحسابات الأميركية
شكل استعمال السلاح الكيماوي في النزاع السوري إحراجاً بالغاً للرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارته، لأنه سبق أن حدد «خطه الأحمر» باستعمال السلاح الكيماوي في النزاع على الأرض السورية. لم يشكل قتل ما يزيد عن مئة ألف مواطن سوري بالأسلحة التقليدية إحراجاً لأوباما، المهتم بتعزيز صدقيته في العالم لا بانتصار المعارضة في سوريا. لا تريد واشنطن انتصار النظام السوري وتحالفاته الإقليمية بأية حال، مثلما لا تريد انتصار المعارضة العسكرية التي تهيمن عليها الجماعات التكفيرية. لذلك فقد سهلت واشنطن وصول الأسلحة للمعارضة، كلما حقق النظام تقدماً، وبالعكس منعت الأسلحة عن المعارضة كلما حققت إنجازات على الأرض. هكذا استمر نزيف الدم السوري من دون رابح أو مهزوم طيلة سنتين ونصف السنة. وبسبب اعتبارات واشنطن المؤسسة على «لا غالب ولا مغلوب»؛ فقد عمد أوباما إلى الهروب إلى الأمام من ضربة لا يريد توجيهها أصلاً، ولا يضمن تبعاتها على توازنات القوى السورية. هنا قام أوباما بتحويل الأزمة السورية إلى الكونغرس ليبتها خصوصاً بعد انسحاب انكلترا من الضربة، فإن رَفَضَ الكونغرس، فقد حفظ أوباما بعض ماء الوجه، وإن وافق الكونغرس سيضمن أوباما عدم تعرضه للانتقاد داخلياً. في هذه الحسابات دوت المبادرة الروسية كصاعقة تستغل الحسابات الأميركية ومأزق أوباما في سوريا، والثمن: السلاح الكيماوي السوري.
تتمثل مشكلة أوباما في أنه لا يستطيع رفض المبادرة الآن، مع علمه بأبعادها المفيدة لإسرائيل استراتيجياً، لأنه غير راغب بدفع الثمن المطلوب روسياً. وتتفاقم مشكلة أوباما بسبب أن التاريخ العسكري لم يخترع بعد، برغم كل التكنولوجيا المتقدمة، وسيلة لضرب مخازن الأسلحة الكيماوية دون كوارث إنسانية كبرى. بمعنى آخر، توفر المبادرة الروسية لأوباما، ما لا تستطيع الآلة العسكرية الأميركية وغير الأميركية تحقيقه، أي نزع الترسانة الكيماوية دون خسائر بشرية. في هذه الوضعية، قرر أوباما مسايرة موسكو ربحاً للوقت، ولكن بدمج شروط جديدة مثل ربط عدم الامتثال السوري بقرارات ملزمة من مجلس الأمن تحت الفصل السابع والتلويح بأن الحشد البحري الأميركي هو من أجبر النظام السوري على الانصياع، وان ذات الحشد سيبقى مستمراً حتى التحقق من نيات النظام السوري. بمعنى أخر يريد أوباما أن يقول أن سياسته الصارمة حيال الأزمة السورية هي سبب نزع السلاح الكيماوي، وليس المبادرة الروسية. وكأن أوباما لا يسلم لبوتين وروسيا بتحسن الصورة والمكانة عبر المبادرة، التي لا يرى فيها كونها سلماً للنزول عن الشجرة.
الخلاصة
تظهر روسيا عبر مبادرتها بنزع السلاح الكيماوي الروسي باعتبارها القوة العظمى الند للولايات المتحدة الأميركية، لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. وهذه المكانة التي تاق لها بوتين منذ عقد، وسعى إليها بلا كلل أو ملل، وعمل بكل الوسائل على تحقيقها، قد قاربت على «نهايتها السعيدة» في حال موافقة أميركا الكاملة عليها. ميزة المبادرة الروسية أنها تضغط بشدة على أوباما، لأنها تحقق لواشنطن ما لا تستطيع تحقيقه عسكرياً، أي نزع السلاح الكيماوي السوري بدون خسائر بشرية. ويزداد الضغط على أوباما بملاحظة مكاسب إسرائيل الاستراتيجية منها، وبالتالي تؤمن لنجاحها اللوبي الصهيوني في أميركا، فضلاً عن انقسام الكونغرس حول الضربة العسكرية. أوباما ضعيف ويحتاج إلى الوقت ولن يقبل بمكانة روسيا الجديدة، ولكنه مضطر مرحلياً لمسايرتها. وبالمقابل، بوتين محنك وصبور وقارئ ممتاز لحسابات واشنطن، ولكنه لا يستطيع فعلياً منع ضربة عسكرية أميركية للنظام السوري، في حال قرر أوباما ذلك. كما أن بوتين وإن همش إيران تفاوضياً، إلا أنه لا يتحكم بمجريات الصراع السوري على الأرض كما تتحكم به إيران. وهما نقطتان هامتان قد تشكلان أرضية فشل المبادرة الروسية في الفترة المقبلة.
من ناحية أخرى، يبلغ المخزون السوري من الأسلحة الكيماوية قرابة ألف طن موزعة على الجغرافيا السورية في أكثر من أربعين منشأة، ما يستلزم وقتا طويلا لنزعها. ستشكل هذه الحقيقة المهمة تقنيا قيمة تكتيكية ثمينة للطرفين الروسي والأميركي، اللذين سيعمدان لاستثمار هذا الوقت الطويل في تحسين الشروط وتغيير الإطار الصراعي بشكل أكثر مناسبة لمصالحهما، ما يجعل النهايات مفتوحة على احتمالات غير متوقعة. يقول منطق الأمور أن أميركا لن تسلم بـ«النهاية السعيدة» لروسيا، وستعمل على إعادة التموضع تفاوضياً وعسكرياً، قبل أن تعود ـ على الأرجح - لقلب الطاولة في وقت لاحق. حتى ذلك الحين، سيعتاد العالم مؤقتاً على سيرغي لافروف المبتسم في مواجهة جون كيري أمام الكاميرات، وستتبارى أطراف الأزمة في ادعاء «انتصارات» متحققة من المبادرة الروسية. وإلى حين، ستتوارى القوى الإقليمية المنخرطة على جانبي الأزمة عن بؤرة المشهد، بعد أن همشت المبادرة الروسية حضور تلك القوى في «الحل»، الذي استحال من الآن مباراة دبلوماسية - إعلامية بين روسيا وأميركا... وحتى إشعار آخر قادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق