هي الحقارة التي تأبى أن تغادر أهلها ، وهي الشعوب ذات الذاكرة المثقوبة والانتهازية المعهودة ، وهي العمالة التي تقترن مع ظاهرة الشعوب التحررية ، وهي الحقيقة التي لطالما تعرضت – وستظل – لحروب طمس وإلغاء وتشويه ، تلك إذن هي العناصر التي تلخص المشهد السياسي الفلسطيني عقب تصريحات فاروق القدومي احد اهم رجالات فتح ومؤسسيها الاوائل والتي وجه فيها الاتهامات للسيد محمود عباس ومحمد دحلان بالمشاركة في التخطيط مع رئيس الوزراء الصهيوني السابق شارون في التخطيط لإغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات .
فالتصريحات التي أدلى بها فاروق القدومى كانت بمثابة معيار جديد للحكم على ماهية ودور المكونات الاساسية وأهم الفاعلين في الساحة السياسية الفلسطينية ، وكانت بمثابة شهادة ذات وزن وثقل تتعلق بقيادات فلسطينية متنفذة وتملك آليات صنع قرار في بقعة فلسطينية هامة ولها دور فاعل في صياغة البرنامج والسلوك الفلسطيني على كافة الاصعدة ، وكانت بمثابة معطيات هامة ستعتبر مرتكزات هامة لأي دراسة أو تحليل سياسي سيتناول حركة فتح وبالتالي تحديد طبيعة المواقف والعلاقات التي ستتبناها وتكونها المؤسسات والحركات الفلسطينية الاخرى مع حركة فتح في المستقبل المنظور على اعتبار ان الحركة تعتبر مكونا اساسيا من مكونات المجتمع الفلسطيني لا يمكن الغاؤه أو تحيده .
التصريحات في ميزان السياسة :-
لعل القاعدة الهامة القائلة بأن " التحليل السياسي الغوري المؤدي إلى اتخاذ مواقف عقلانية " قد أضحت جوهر علم السياسة والذي يختص بطبيعة الحال بمختلف الظواهر السياسية ويعمل على حلحلتها والوقوف على مسبباتها واهم لاعبيها وما ستئول إليه مستقبلا ، وعند اسقاط هذه القاعدة على تصريحات القدومي يبرز لدينا مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية كانت تقف وراء هذه التصريحات بعيدا عن الفهم الضيق والتي تقف وراءه مجموعة من العواطف المفتعلة والهيجان والنشوة ذات الابعاد التبريرة أو التنافسية باختلاف هوية الجهة أو الشخص الذي صدر منه موقف حيال هذه التصريحات .
فالتصريحات في ميزان السياسة صدرت اولا من شخصية لها وزن وثقل كبيرين وصدرت من شخصية تعرضت لجدلية تعاظمت بعد استشهاد الراحل عرفات حول اعتبارها الشخصية الاولى ام الثانية في حركة فتح ، ففاروق القدومي هو امين سر حركة فتح وعضو لجنتها المركزية ويعتبر أحد مؤسسيها الاوائل وليس شخصية ثانوية أو حتى من قيادات في الصف الثاني أو الثالث ، وهذا بحد ذاته يعتبر في حقل السياسة نصا جوهريا ومرتكزا اساسيا ومنهجا سيسهم بشكل كبير في فهم الظاهرة الفتحاوية وتحديد موقعها في الجسد الفلسطيني وكيفية التعاطي معها سياسيا وشعبيا في المستقبل المنظور .
لكن وفي ضوء القاعدة سالفة الذكر – وبشكل مقتضب وعلى شكل تساؤلات كون التصريح تصدى له الكثيرون تحليلا ودرسا - فإن الخطاب قد اكتنفته واعقبته جملة من التساؤلات والتحليلات والتفسيرات الهامة تمحورت أولاً حول توقيت التصريحات والتي اتخذت ابعادا ثلاثة ، البعد الاول علاقته بالظرف الزمني لحدوث الجريمة ، والبعد الثاني علاقته بالإستحقاقات الفتحاوية القادمة وأهمها المؤتمر السادس والذي سيعتبر منعطفا كبيرا لهذه الحركة ، والبعد الثالث علاقته بالظرف السياسي الفلسطيني العام والذي يمر بمرحلة عصيبة وتعصف بكل مكوناته ومنجزاته مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية والتي تهدد كينونته وهويته .
وثانيا تتمحور حول أسباب و اهداف وغايات فاروق القدومي والتي تتخذ ايضا ابعادا ثلاثة ، البعد الاول وزن فاروق القدومي في ظل الصيرورات التي تمر بها الحركة على كافة الصعد ، البعد الثاني استمرار وتكرس سكيولوجيا التسلط والديكتاتورية في مدركات بعض قادة فتح والتي تهدد مجمل القيادات الاخرى ومنها فاروق القدومي بطبيعة الحال ، البعد الثالث تكرس الانقسام الجيو سياسي " الجيوبولوتيكي " بين قطاعات شعبنا وبالتالي حركة فتح وهذا بطبيعة الحال يشغل ذهن فاروق القدومي لما له من ابعاد على وزن بعض القيادات الخارجية في سلوك فتح وخطابها وصياغة مجمل سياساتها .
ثالثا طبيعة وفحوى التصريحات والتي حملت اتهامات على درجة كبيرة من الخطورة كونها تتهم – بالخيانة- قيادات فلسطينية تملك آليات صنع قرار ولها دور فاعل في تحديد مستقبل وحاضر الشعب الفلسطيني وفي التاثير على قضيته ومسيرته التحررية ولها دور فاعل ايضا في تحديد شكل العلاقات الفلسطينية الداخلية .
على خطى هاني الحسن :-
بعيدا عن التحليلات والتفسيرات حيال هذه التصريحات والتي ستساهم بلا شك في بناء مواقف متباينة وسيكون لها مفاعيل على الواقع الفلسطيني ، فإن هناك قضية باتت تثار حول مستقبل فاروق القدومي عقب هذه التصريحات والتي اود أن اثيرها وأن أضعها في سياق تاريخي وفي ضوء منهج تجريبي سيجلى كثيرا من الامور .
فهنا لا بد من الاستشهاد بمقولة هامة للشهيد صلاح خلف " أبو إياد " في كتابه فلسطين بلا هوية حيث قال
" إن دخول حركة فتح في منظمة التحرير أفقدها طابعها الثوري ... وغلبت علينا البيروقراطية "
وهذا يقودني لأشير إلى أن بنية فتح البيروقراطية والتي تكرست عبر عقود طوال أدت إلى تنفذ المال السياسي وتحوله لأداة جوهرية في صياغة مواقف الحركة وفي بناء البنية الفتحاوية برمتها ، وهذا يعني بأن من يملك قرار فتح هو من يملك المال وبأن القيادات ذات الابعاد التاريخية والرمزية والتأسيسية لا قيمة لها في حال خالفت وجهة نظر وقرارات من يملك المال السياسي .وهذا ما حصل فعلا لهاني الحسن سابقا والذي يعتبر من المؤسسين الاوائل للحركة والذي أعلن عن موته تنظيما وسياسيا عقب تصريحاته المنتقدة لمحمد دحلان وتجريم الحركة والاقرار بوقوفها وراء احداث غزة والتي أدت لحسم الامور من قبل حركة حماس ، وهو ما سيحصل لفاروق القدومي بطبيعة الحال فحركة فتح لم تعد حركة لها مؤسسات تنظيمية حقيقية وبنية ذات شخصية قانونية ورقابية بل تحولت وبفعل المال لأداة بيد شخوص بعينها تستطيع تحريك القواعد الفتحاوية وصياغة القرار الفتحاوي كما تشاء وهذا ما لمسناه من ردود فعل من اقاليم فتح في الضفة والقطاع وبعض الاقاليم الخارجية حيال الخطاب والتي لم تقم وزنا للقدومي ولم تذكر تاريخه النضالي بل تبنت طرحا قاسيا وانتقائيا متنكرا لوزن هذه الشخصية ومفاعليها التاريخية .
الشعب والرهان الخاسر :
وهنا لابد ايضا من دراسة الردود الشعبية على تصريحات القدومي ، وهنا سأبتعد عن العواطف وسأبتعد عن المحاذير وبعض القيود ، لأقول إن تلك الردود الباهتة والقاصرة واحيانا المتواطئة من البعض قد أستسيغها من شعب لا يرزخ تحت احتلال ولا يملك دافعية ومنظومة قيمية وسلوكية تمكنه من تبنى مواقف على درجة من الاهمية حيال قيادات متنفذة تثار حولها الشكوك والتي بطبيعة الحال ليست على درجة كبيرة من التعارض من سلوكها وممارستها الحقيقة على الارض ، فالشعب الفلسطيني شعب تحرري يخوض حرب تحرر طويلة افقدته الكثير وكل ذلك على أساس قاعدة جوهرية مفادها رفض الظلم الواقع عليه ورفض العبث بمقدراته ورفض سلب ارادته وطمس هويته وكيانته وشخصيته المستقلة ، ولكن ما يحصل في الاونة الاخيرة وخاصة في الضفة هو نقيض كل ذلك فالشعب التحرري وذات الدينامية والارادة الحية تحول لشعب خانع ذليل يرى الخيانات والتواطىء وعمليات المسخ لهويته ومقدراته ومنجزاته من ذوي القربي دون ان ينبس بكلمة او بفعل يندرج في سياقات تاريخية كان عنوانها رفض الظلم والخضوع ،بل على العكس أضحى يتعامل بشكل مرضي وباهت لا يتناسب مع شعب قدم كل تلك التضحيات .
فتصريحات القدومي بصرف النظر عن مصداقيتها فهي تعطي مؤشرات واضحة وتأكيدات هامة ترتبط بالسلوك الشائن لسلطة رام الله ومفاعيلها على الارض و التي تتعارض مع مصالح الشعب ، وهذا بطبيعة الحال كان يتطلب ردة فعل جماهيرية حازمة تنهي الارتكاسات المتزايدة وتعيد توجيه البوصلة ووضعنا في الطريق الصحيح دون الالتفات لمخاطر أو سيل دماء جديدة فنحن شعب يخوض معركة تحررية يجب ألا تقعده الدماء والاشلاء وهذا لا يندرج في خانة المثاليات بل هو منطق اكدته التجارب التاريخية وهذا ما يجب فعله والا تواصل انحدارنا وضياع حقوقنا ومنجزاتنا واضحينا مثالا حيا من افرازات قاعدة ميكافللي بأن الشعوب منافقة وتنحاز للأقوى .
من بريمر العراق إلى دايتون فلسطين ....
تتضح اسباب منع الجزيرة :كما لابد ان اشير لانعكاسات التصريحات الاخيرة على بعض وسائل الاعلام وخاصة الجزيرة ، فما حصل بالامس من قرار يمنع استمرار عمل الجزيرة في الضفة بسبب نقلها للتصريحات الاخيرة ليس بالامر المحدث في قاموس النظم الموالية للإحتلال والمنسلخة عن شعوبها ، فالجزيرة على وجه الخصوص تعرضت لمنع من قبل الحكومات العراقية والتي كانت تأتمر بأمر بريمر الحاكم الفعلي للعراق وذلك بسبب نقلها لكافة جوانب المشهد العراقي والذي بطبيعة الحال سيكون للجانب المقاوم - باعتبار العراق ترزخ تحت الاحتلال – حصة الاسد وهذا لا يمكن ان يتماشى مع سياسيات الحاكم الفعلي وبالتالي ادى إلى اغلاق القناة ، وهذا تكرر بالامس في ضفتنا العزيزة فسياسة قناة الجزيرة لا تتماشى مع سياسة الحاكم الفعلي للضفة كيث دايتون ولهذا تم منع القناة ، وكل ما تم تسويقه في بيان " وزاة الاعلام لفياض " ما هي الا ادعاءات لم يقبلها حتى الناطق الاعلامي باسم حكومة فياض غسان الخطيب وحاولت حركة فتح التنصل منها لمعرفتها بمدلولات المنع وانعكاساته السلبية على الحركة فسارع عزام الاحمد لنفي علاقة فتح بمنع الجزيرة في محاولة يائسة لتغيير مفهوم حزب السلطة الذي يلازم حركة فتح وبالتالي يجرمها .
اخيرا فإن نهاية رجل قدومي باتت مسالة وقت لا أكثر وبات غيابه عن المسرح التنظيمي والسياسي امرا حتميا ، ولا بد ان أنوه هنا بأنني لم أقصد من العنوان نعت القدومي بالشجاعة كوني غير مقتنع بدوافع تصريحاته ومعظم سلوكه السابق ، بل اعتبر القدومي ظاهرة بحد ذاتها حصلت في الماضي والحاضر وقابلة للحصول مستقبلا !!