الاثنين، 3 يونيو 2013

«تقسيم» ليس «ميدان التحرير»

عريب الرنتاوي
احتار المراقبون في البحث عن “سابقة” ينسبون إليها ما يحصل منذ ثلاثة أيام، في ميدان “تقسيم” الشهير، في قلب أكبر مدينة تركية، وأكثرها رمزية و”تاريخية” على الإطلاق: اسطنبول..بعضهم استحضر ميدان “تيانانمن” في قلب العاصمة الصينية عام 1989..بعضهم الآخر استحضر الساحة الحمراء وصعود بوريس يلتسين ظهر دبابة للجيش الأحمر في العام 1991، ما عُدّ شارة الانطلاق لتفكيك الاتحاد السوفياتي والمرحلة الشيوعية بأسرها..بيد أن أغلب المراقبين، استحضر “ميدان التحرير”، الذي صار “إيقونة” ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، بل والاسم الحركي للربيع العربي في طول المنطقة وعرضها.
المؤكد أن ما حصل تظاهرات شعبية واسعة ومتزامنه، شكل “مفاجأة” من العيار الثقيل، وبدا أن ساحة “تقسيم” و”جسر السلطان سليم الأول”، لم يكونا سوى “أول الغيث” والشرارة التي أشعلت سهلاً..المؤكد أنها كانت “صدمة” قاسية لرئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، وهو يتحضر لتولي عرش تركيا الحديثة، بعد انتخابات 2014، كرئيس مطلق الصلاحيات، بموجب الدستور الجديد والنظام السياسي الذي يجري العمل على تعديله (تغييره من برلماني إلى رئاسي) بصورة جوهرية.
لكن مع ذلك، فإن أياً من الأمثلة (الميادين) الثلاثة المذكورة، لا يصلح “سابقة” يمكن الركون إليها أو القياس عليها في الحالة التركية..تركيا الحديثة، ليست الاتحاد السوفياتي ولا الصين الشعبية..هي ديمقراطية ناشئة، وتكاد تكون ديمقراطية مستقرة، تلامس عضوية الاتحاد الأوروبي وشروط “كوبنهاجن” الثقيلة..وتركيا الحديثة ليست مصر / حسني مبارك..الذي استقر على عرش مصر لثلاثين عاماً، نجح خلالها في كسر إرادة الشعب المصري وتزويرها، ووضع البلاد على سكة التمديد والتجديد والتوريث.
في تركيا، هناك معارضة متنامية لحكم العدالة والتنمية الذي طال واستطال لأكثر من عقد من السنين..لكن الحزب لم يخطف السلطة، ولا جاء على ظهر دبابة..جاءت به إليها صناديق الاقتراع، وفي كل انتخابات، كان الحزب يسجل تقدماً على الانتخابات التي سبقتها، مدعوماً بسجل حافل من الإنجازات، يقف في صدارتها “المعجزة الاقتصادية” التي نقلت تركيا من دولة مدينة، مُصدرة للعمالة الرخيصة، إلى الاقتصاد 17 في العالم، حيث تضاعف الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من أربع مرات، وكذا معدل دخل الفرد.
لكن “الديمقراطيات” تكره الركود وتنحو صوب التغيير المستمر..وقد زاد في إلحاحية المسألة تركياً، أن “العدالة والتنمية”، انتهج خلال السنوات الثلاث الفائتة، سياسات عززت الخشية من ميول الهيمنة والاستبداد وتدمير طابع الدولة التركية الحديثة، العلماني على نحو خاص، كما أن سياسات أنقرة المتخبطة والطائشة في المسألة السورية، أثارت مخاوف قطاعات من الأتراك، وعززت اتجاهات المعارضة.
أردوغان و”العدالة والتنمية” اصصدما بالجيش بطريقة تفوح منها رائحة “تصفية الحسابات”، واصطدما بالقضاء والصحافة (أكبر سجن للصحفيين في العالم)، وعززا مخاوف العلويين من خلال جنوح الحزب لأسلمة الدولة والمجتمع (القرارات الأخيرة بشأن الخمور) والإصرار على عدم الاعتراف بالهوية الدينية الخاصة بالعلويين الأتراك، ولم يفلحا بعد في حل المسألة الكردية..كما أن محاولات أنقرة تزعم محور إقليمي “سنّي” في مواجهة إيران وحلفائها وهلالها، أيقظ مخاوف كثيرين على طموحات “عثمانية جديدة”.
هذه الملاحظات، وكثيرٌ غيرها، لا ترجح إنزلاق تركيا على أي من المسارات الثلاث السابقة: السوفياتي أو الصيني أو حتى المصري..والحديث عن “ربيع تركي” ينطوي على قدر من الخفّة أو “الرغائبية” أو “الشماتة”، وهذه جميعها لا تنفع كأدوات للاستشراف أوالتحليل السياسي..حزب العدالة والتنمية ما زال، وسيبقى حتى وقت ليس بالقصير، الحزب الأكبر في البلاد، وأي انتخابات قادمة ستعيده إلى السلطة، حتى وإن فقد بعض مقاعده وناخبيه..والذين خرجوا بمئات الآلاف في تظاهرات المدن التركية، يدركون تمام الإدراك، أن الحزب قادر على تسيير ملايين المتظاهرين في الاتجاه المعاكس إن هو رغب أو قرر ذلك.
باب التداول السلمي للسلطة في تركيا ما زال مفتوحاً..وثمة قدر من الحريات و”التعددية” و”توزيع السلطة” يكفي للقول أن تركيا أنجزت ربيعها من قبل، وهي ليست بانتظار ربيع جديد..والمؤكد أنها ليست بحاجة لتلقي النصائح حول كيفية التعامل مع المظاهرات والمتظاهرين، أو الإصغاء لنداءات التنحي التي توجه لزعيم تركيا في السنوات العشر الأخيرة، سيما إن جاءت هذه النصائح والنداءات، من قبل حكام دمشق، الذين أخفقوا في احتواء تظاهرة أطفال في درعا فشرّعوا أبواب بلادهم ومجتمعهم، لهبوب الريح السموم التي تكاد تأتي على الأخضر واليابس.
نفهم “تشفي” النظام السوري بحكام تركيا الجدد، لكننا لا نمتلك منع أنفسنا من الابتسام، ونحن نستمع لنصائح ودعوات وزير الإعلام السوري السيد عمران الزعبي، التي سارع في توجيهها على الهواء مباشرة صوب أنقرة واسطنبول..ففاقد الشيء لا يعطيه..ولا تنه عن خلق وتأتي بأفظع منه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق