الأحد، 2 يونيو 2013
رغيف الخبز أم النضال؟..هاني المصري
منذ توقيع "اتفاق أوسلو"، ظهرت "وجهة نظر" أخذت تُعبِّر عن نفسها مؤخرًا بجرأة متزايدة، مفادُها أنّ إنجاز الحقوق الوطنيّة مسألة تحتاج إلى نضال وتضحيات، وهذا ما لا يمكن تجسيده ولا نقدر عليه. وبما أن الحل الوطني بعيد ولا يمكن الوصول إليه بحكم الاختلال الفادح في ميزان القوى، وفي ظل الضعف والانقسام الفلسطيني، وحال الوضع العربي الذي لا يسرّ صديقًا ويسعد كل الأعداء، فلا يمكن لنا سوى التركيز على توفير رغيف الخبز، وتعزيز الصمود من خلال بناء المؤسسات وإثبات الجدارة وإظهار حسن النية عبر الوفاء بالالتزامات الفلسطينية السياسية والاقتصادية والأمنية من جانب واحد، وصولاً إلى اعتبار الاقتصاد هو صاحب الأولوية، والمدخل لتحقيق السلام، بعد أن عجزت السياسة عن تحقيقه.
لا مشكلة جوهرية في ما سبق، إذا ميّز نفسه عن "السلام الاقتصادي" الذي يطرحه نتنياهو، وكان ضمن إستراتيجية الحفاظ على ما لدينا وعدم تقديم تنازلات جديدة أو الإقدام على مغامرات غير محسوبة في مرحلة غير مواتية، ولكن الخلل يكمن في أن ما سبق يمهد إلى الدعوات لقبول ما هو معروض على أساس أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، حتى ولو من خلال "التواصل" مع الإسرائيليين على كل المستويات، بما فيها الأوساط اليمينيّة والاستيطانيّة والمتطرفة، في محاولة لإقناعها بإقامة دولة فلسطينيّة، حتى لو كانت على حساب قضية اللاجئين، ومنزوعة السلاح مع تبادلٍ للأراضي وترتيباتٍ أمنيّةٍ تُطمئِن إسرائيل على وجودها وأمنها في المستقبل القريب والبعيد.
في هذا السياق، يغدو التطبيع مع العدو بكل أشكاله، خصوصًا الاقتصادي، هو الشكل الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للتعامل معه. فالتطبيع يراد له أن يحل محل الكفاح بكل أشكاله، وليس مهمًا هنا أن يكون الإسرائيلي الذي يتم التعاون معه مؤيدًا للحقوق الفلسطينية أم لا، مناهضًا للاحتلال أم داعمًا له، لأن التواصل مع الإسرائيليين ضروري لإقناعهم بالحقوق الفلسطينية، ولو أدى ذلك إلى تصفية هذه الحقوق أو التنازل عن بعضها أو تأجيلها حتى يظهر الشريك الإسرائيلي المستعد لتحقيقها.
لقد بدأ تطبيق وجهة النظر بشكل جزئي منذ اتفاق "أوسلو"، وبشكل شامل ومنهجي منذ عشر سنوات، بعد موافقة القيادة الفلسطينيّة على خارطة الطريق، التي أعطت الأولويّة للأمن الإسرائيلي، حيث تغيرت طبيعة الصراع، وأخذ يعبر عنه وكأنه نزاع حول الأراضي، أو بين طرفين متساويين، أو حول طبيعة السلام وشكله، والترتيبات التي سيتم الاتفاق عليها، أو لتحقيق حل الدولتين، أو أنه صراع بين المتطرفين والمعتدلين من الجانبين، أو بين الإرهاب ومعسكر معاداة الإرهاب، حيث مطلوب من (الفلسطيني الجديد) إثبات معاداته للإرهاب، (المقاومة) حتى النخاع.
لماذا لا يمكن الجمع ما بين الحصول على رغيف الخبز والحياة الكريمة وبين النضال لاستعادة الحقوق؟ لأن تفضيل الرغيف على الحقوق أدى إلى إهدارها، وعدم تأمين حياة كريمة أيضًا، بينما النضال الفلسطيني يمكن أن يحقق الأمرين معًا.
في هذا السياق، من الطبيعي أن نجد أنصار "التطبيع المنفلت من كل القيود" يدعمون استئناف المفاوضات من دون شروط، بحجة أن هذا يمكن أن يحرج إسرائيل ويظهرها أمام العالم، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركيّة، بأنها المعطّل للسلام، وكأن العالم لا يعرف هذا الأمر بعد عشرين سنة مضت على "أوسلو"، بينما هو في الحقيقة يفتح طريق "السلام الاقتصادي" الذي يحقق لهم المزيد من النفوذ والثروة.
كما رفض هؤلاء التوجه إلى الأمم المتحدة، لأنه سيقود إلى مواجهة مع الإدارة الأميركيّة، أما من أيده منهم ففعل ذلك على أساس توظيفه كتكتيك يهدف إلى الضغط من أجل العودة إلى استئناف المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة، وليس من أجل شق بديل من هذه المفاوضات.
نفس التعامل هذا جرى ويجري مع المصالحة والمقاومة الشعبيّة ومقاطعة الاستيطان، فكل هذه الشعارات مجرد تكتيكات للضغط من أجل العودة إلى استئناف المفاوضات، بالرغم من أن الجميع بات يدرك أنها لا يمكن أن تقود إلى حل وطني، ولكنها مطلوبة حتى لا تسير الأمور نحو مجابهة متصاعدة، يتم فيها السعي لعزل إسرائيل ومقاطعتها وفرض العقوبات عليها، واستخدام الفلسطينيين لبدائل متنوعة سياسيّة وكفاحيّة تجعل الاحتلال مكلفًا لها بدلاً من أن يبقى، كما هو الآن، احتلالاً رابحًا، أو "احتلال خمس نجوم".
علينا ألا نتفاجأ بهذه النتائج المُرَّة، لأن "أوسلو" لم يؤد إلى ضربة قاصمة لوحدة القضيّة والأرض والشعب، وفصلها عن بعضها البعض، وتقسيم كل واحدة فيها إلى أقسام، والأقسام إلى تفاصيل، ولا إلى التخلي عن أشكال النضال قبل أن تحقق أهدافها فحسب، وإنما أدى إلى نشوء بنية اقتصاديّة اجتماعيّة يتصدر فيها أفراد وشرائح داخل السلطة وخارجها من المستفيدين الذين ازدادوا غنًى ونفوذًا في مرحلة أوسلو، بينما أغلبيّة الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة ازدادوا فقرًا.
يحاول أنصار وجهة النظر تبريرها بأنها كفيلة بتوفير فرص عمل للفلسطينيين، فشيء أفضل من لا شيء، خصوصًا في ظل ازدياد الوضع الاقتصادي تدهورًا. ففي الحقيقة، هذه السياسة لا تؤدي إلى حل اقتصادي، ولكنهم يمهدون الطريق أمام جون كيري الذي وعد برزمة مشاريع اقتصاديّة ضخمة بعد أن عجز عن تحقيق أي تقدم سياسي جوهري، علّ الفلسطينيين يقبلون بهذه الرشوة التي لن تكون سخيّة كما يتم الترويج لها، وسيحصد الحصة الرئيسية منها أفراد وشرائح قليلة، وستكون هذه السياسة إذا اعتُمِدت بديلاً من النضال لإنهاء الاحتلال وتجسيد حقوقه الوطنية.
نعم، الفلسطيني بحاجة لأنْ يعيش ويحيا ويعمل ويفرح ويغني ويتعلم ويتعالج ويتطور نحو الأمام، كما هو بحاجة لأن بلاده تحت الاحتلال إلى النضال لإنهائه، خصوصًا بعد فشل ما يسمى "عملية السلام"، ولا يمكن أن نضعه في مقايضة بين حقوقه ومتطلبات الحياة الكريمة، وأن من يفعل ذلك يساهم بوعي أو من دون وعي في تبرير الخضوع للاحتلال والتعايش معه تحت عنوان "التواصل" مع الإسرائيليين لكسبهم إلى جانب الحق الفلسطيني.
إن أكثر من عشرين سنة من التطبيع بأشكاله لن تزيد من معسكر السلام في إسرائيل ولا إلى اعتداله، وإنما إلى المزيد من تطرفه وتعميق احتلاله وعنصريته وعدوانيته. فمن يريد أن يؤثر بالعدو ويزيد تناقضاته عليه أن يكون قادرًا على التأثير، وحتى يكون قادرًا يجب أن يكون فاعلاً وموحدًا وحاملاً لرؤية قادرة على التأثير ومستعد للنضال من أجلها والتضحية في سبيلها.
فلا يمكن أن نكون تحت الاحتلال وفي حالة صراع مرشحة للتدهور، وأن نضع خططًا سياسية واقتصادية على أساس أننا في حالة سلام أو مقبلين عليه. ولا يمكن للاقتصاد أن يكون مدخلاً للسياسة وللتعامل مع إسرائيل إذا لم يكن الفلسطينيون على نفس المستوى لجهة أن تكون لديهم دولة مستقلة واقتصاد غير تابع للاحتلال.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق