استمرار المظاهرات في معظم المدن التركية وامتدادها إلى غازي عينتاب ، ومتظاهرو استانبول يخلون الساحة لليسار واليسار "المتطرف" الذي بدأ إقامة المتاريس!؟
وأخلى ناشطو المجتمع المدني أمس الأول، وهم رأس الحربة في أكبر حركة احتجاج شعبية على الحكومة التركية منذ توليها الحكم في العام 2002، المكان لأنصار اليسار واليسار المتطرف الذين احتفلوا بـ«انتصارهم» بعد انسحاب قوات الأمن. وأقام المتظاهرون، في خطوة تحد لرئيس الوزراء، متاريس في الشوارع المؤدية إلى ساحة «تقسيم» كدسوا فيها كل ما دمر في المدينة وهياكل سيارات مقلوبة، وحتى بعض حافلات البلدية، بعد يومين من المواجهات مع الشرطة وليلة التعبير عن فرحهم.
ووقفت مجموعات من المتظاهرين عند المتاريس التي كتبت عليها شعارات مثل «حكومة اصطفا» (استقالة الحكومة)، استعداداً لمواجهات جديدة.
وبالرغم من أن أي حادث لم يسجل في اسطنبول برغم المواجهات في محيط مقر رئيس الوزراء في حي بشيكتاش، فإن قوات الأمن تدخلت مجدداً في أنقرة أمس، مستخدمة خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق آلاف الأشخاص الذين أرادوا التوجه إلى مكتب أردوغان، بالإضافة إلى اشتباكات مماثلة في إزمير وأضنة ثالث ورابع كبرى المدن التركية، كما امتدت مساء أمس إلى غازي عنتاب في جنوب شرقي تركيا، في مؤشر على استمرار التعبئة الشعبية.
وقالت نقابة الأطباء في أنقرة إن 414 مدنياً أصيبوا في هذه الصدامات، فيما تحدثت وكالة «الأناضول» عن 56 جريحاً في صفوف قوات الأمن.
ونددت المنظمات الحقوقية التركية والأجنبية بهذا القمع، متحدثة عن أكثر من ألف جريح. حتى أن «منظمة العفو الدولية» لفتت إلى مقتل شخصين، لكن أي مصدر رسمي لم يؤكد هذه الحصيلة، كما أورد غولر أمس الأول أيضاً، أرقاماً أقل بكثير، مشيراً إلى 79 مصاباً هم 53 مدنياً و29 شرطياً.
وقال أردوغان أمس الأول، «إذا كان هذا الأمر يتعلق بتنظيم التجمعات وإذا كان هذا حراكاً اجتماعياً يجمعون فيه 20، فإنني سأقوم وأجمع 200 ألف شخص. وإذا جمعوا مئة ألف فسأجمع مليوناً من حزبي». وأضاف «كل أربعة أعوام نجري انتخابات وهذه الأمة تختار، أولئك من لا يقبلون سياسات الحكومة بإمكانهم التعبير عن رأيهم في إطار القانون والديموقراطية»، واصفاً المحتجين بأنهم "بضعة لصوص".
وفي ما بدا تحدياً جديداً للمتظاهرين الذين يتهمونه بالسعي إلى «أسلمة» المجتمع التركي، أكد أردوغان أمس، أنه سيتم تشييد مسجد في الساحة، قائلاً «نعم، سنقوم أيضاً ببناء مسجد. ولن أطلب إذنا من رئيس حزب الشعب الديموقراطي (أكبر أحزاب المعارضة) أو من حفنة من المخربين للقيام بذلك. من صوتوا لنا (في الانتخابات) منحونا السلطة للقيام بهذا الأمر".
إلا أنه في مواجهة كل ذلك وتحت وطأة الانتقادات، تراجع رئيس الوزراء التركي، وأقر أن الشرطة تحركت في بعض الحالات بشكل «مفرط»، قائلاً «صحيح، لقد ارتكبت أخطاء وأعمال مفرطة في كيفية رد الشرطة".وأضاف أن وزارة الداخلية أمرت بإجراء تحقيق، لكنه كرر أنه سينجز مشروع تطوير ساحة «تقسيم» الذي أثار الغضب الشعبي حتى النهاية.
من جهته، دعا وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أمس، إلى إنهاء التظاهرات المناهضة للحكومة معتبراً أنها ستضر بـ«سمعة» تركيا في العالم.
وفي هذا السياق، اعتبر الرئيس التركي عبد الله غول أن مستوى المواجهة «يثير القلق»، فيما دعا نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش إلى الحوار «بدل إطلاق الغاز على الناس». بدورها، دعت دول حليفة لتركيا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى ضبط النفس، في الوقت الذي دعا فيه أيضاً وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أمس، السلطات التركية إلى «التحلي بضبط النفس حيال المتظاهرين والذهاب نحو التهدئة»، موضحاً أن طلب ضبط النفس موجه إلى السلطات التركية.
قد لا يكون ميدان تحرير بالمعيار المصري ينتهي إلى سقوط الحاكم كما حصل مع حسني مبارك. لكن بالمعايير التركية ميدان تحرير بكل معنى الكلمة.
لقد ظن قادة «حزب العدالة والتنمية» أنهم، بالخمسين في المئة التي نالوها في الانتخابات النيابية قبل سنتين بالضبط، يمكن لهم أن يتحكموا بمصير وتطلعات وهواجس الخمسين في المئة المتبقية.
وإذ استتر «العدالة والتنمية» بورقة توت الديموقراطية، فإن الديموقراطية ليست ولم تكن يوماً مجرد عملية ميكانيكية رقمية تنتهي بفوز الأكثر عدداً.
الديموقراطية لا تعني طغيان الحزب الفائز، بل أن يحترم المكوّنات الأخرى التي لم تعطه أصواتها، لا سيما أن تركيا بلد متعدد الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية، وبلد منقسم بحدة على نفسه أيديولوجياً.
لقد حدث في ميدان التقسيم في اسطنبول ما كان يظن رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان أنه بمنأى عنه. و«دفق التاريخ» الذي يحلو لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن يستخدمه في الإشارة إلى ما يسمى بـ«الربيع العربي»، بات يتدفق أيضاً في قلب المدينة التي يراد لها أن تعود عاصمة للعثمانيين الجدد، وفي قلب معظم المدن التركية الأخرى.
ما حدث هو استثنائي بكل معنى الكلمة. عشر سنوات طغى عليها شعارا التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي. أما في التنمية، فقد تراجع النمو في العام 2012 من ثمانية وتسعة في المئة إلى أقل من ثلاثة في المئة. ومن جهة الاستقرار السياسي، فقد اهتز في الريحانية قبل شهر، وانفجر في التقسيم في يوم أمس الأول.
كانت انتفاضة الأول من حزيران عصا غليظة، ارتفعت في وجه سلطة «العدالة والتنمية». أسباب كثيرة كانت تجعل «انتفاضة التقسيم» نتيجة طبيعية وحتمية.
1 ـــ السياسات الكيدية والانتقامية والاستئصالية التي انتهجها أردوغان تجاه الفئات العلمانية على امتداد السنوات العشر الأخيرة.
بات نهج «العدالة والتنمية» تغيير منظومة القيم العلمانية واستبدالها بمنظومة ذات طابع ديني بدءا من تغيير النظام التعليمي ليكون للمدارس الدينية حيز كبير لتنشئة «جيل متدين محارب»، وصولاً إلى المس بالحريات العامة وآخرها قانون منع الدعاية للمشروبات الروحية، ومنع تقديمها في أماكن محددة.
وانتفاضة التقسيم كانت ظاهرياً تحت شعار منع إقامة مركز تجاري كبير على حديقة عامة وتغيير شبكة المواصلات. لكن المشروع كان يهدف أساساً إلى خنق نصب العلمانية الذي يجسده تمثال لأتاتورك وجنوده، وإلغاء ساحة تقسيم من أن تكون رمزاً للعلمانية.
انتفاضة تقسيم كانت ضد «تديين» الدولة والدفاع عن مكاسب العلمانية التي تتعرض لخطر شديد، بالرغم من تطبيقاتها المشوهة سابقاً.
2 ــــ لقد كان الغضب الشعبي في الأول من حزيران مظهرا من مظاهر الاحتجاج الكامن في صدور أكثر من 20 مليون علوي، لم تفلح شعارات الحرية والإصلاح والديموقراطية التي رفعها «حزب العدالة والتنمية» في أن تترجم ولو مطلباً صغيراً واحداً لهم بالرغم من مرور عشر سنوات على وصول الحزب إلى السلطة.
وأكبر دليل على أنه ليس في نية «العدالة والتنمية» تغيير النهج التمييزي ضد العلويين أن رئيس الحكومة لم يتردد في أن يطلق قبل أيام من «انتفاضة التقسيم» على الجسر الجديد المزمع إنشاؤه فوق البوسفور اسم السلطان سليم الأول، والذي يعرف في التاريخ العثماني على أنه «قاتل وجزار العلويين».
لم يراع أردوغان مشاعر كل هذه الكتلة التي تتسم تاريخياً بكتم غضبها وسلميتها، مؤكداً النزعة المذهبية في طريقة مقاربة الملف العلوي. كيف يمكن لرئيس حكومة في بلد ديموقراطي أن يجرؤ على فعل ذلك؟ ماذا يعني كل ذلك؟.
3 ـــ إن أحد الأسباب الأساسية لـ«انتفاضة تقسيم» هي الممارسات التقييدية للحريات الصحافية وحرية التعبير. وتركيا هي البلد الأول في العالم في عدد الصحافيين المعتقلين وفي نسبة الضغوط على الصحافيين وطرد المخالفين لسياسة الحكومة من أماكن عملهم ومنعهم من الظهور على شاشات التلفزيون. أليس معبّراً ومثيراً أن يتصدر»السلطان سليمان القانوني»، الممثل خالد أرغينتش، بطل مسلسل «حريم السلطان»، طليعة الفنانين في تقسيم ضد سياسة أردوغان في قمع الحريات، وهو الذي تعرّض لأبشع حملة من أردوغان بذريعة أن أرغينتش شوّه صورة السلطان سليمان القانوني طالباً منع المسلسل من العرض؟
4 ــــ وليست قضية ارغينيكون ورغبة «العدالة والتنمية» في قطع دابر دور الجيش في الحياة السياسية ببعيدة عن «انتفاضة تقسيم». إن محاولة تفريغ الجيش من كل ضباطه المنتمين إلى المرحلة الماضية وإدخال عناصر تدين بالولاء للإسلاميين أفضت إلى استقالة المئات من الضباط، لا سيما في سلاحي البحرية والجو.
أما الجنرالات الذين يحاكمون بتهمة السعي إلى انقلاب على الحكومة، فلا تزال محاكمتهم تسير ببطء بالرغم من مرور سنوات على بدئها، والجميع يرى كيدية في التعامل مع هذا الملف الذي حوّل الجيش التركي من مؤسسة مهيبة إلى أداة طيعة في يد أردوغان وحزبه.
5 ــــ ولا أحد يمكنه أن يتجاهل نهج الحكومة في السياسة الخارجية، خصوصاً تجاه الملف السوري، نظراً إلى أن سياسة أردوغان -داود أوغلو تجاه سوريا انتهت حتى الآن إلى أضرار اقتصادية في المحافظات الحدودية، وإلى مخاطر أمنية واضحة آخرها تفجيرا الريحانية ومقتل 52 تركياً، فضلاً عن تصعيد الحساسيات المذهبية بسبب مقاربة سوريا للأزمة من زاوية مذهبية، بالإضافة إلى ارتباط هذه المقـــــاربة بالتبعية للســــياسات الأمـيركية.
إن سياسة تركيا تجاه سوريا فتحت على ما لم يكن متصوراً، وهو أن تفتح تركيا أراضيها لعناصر «جبهة النصرة»، ولم يتردد داود أوغلو في أن يدافع عن «النصرة» بالقول إنها كانت نتيجة للوضع في سوريا وليست سبباً.
كل هذه العوامل ساهمت في الانفجار الذي حدث أمس الأول.
ماذا بعد؟
ربما في لغة الأرقام ليس من تهديد لاستمرار سلطة «العدالة والتنمية». لكن لم يعد في مقدور أردوغان أن يواصل النهج المتبع حتى الآن في مقاربة قضايا العلمانية والمسألة العلوية وحـــالة الجيــش والحريات الصحافية.
لقد كانت انتفاضة الأول من حزيران هزة كبيرة لسلطة «حزب العدالة والتنمية»، ويفترض أن تؤثر في سلوكيات الحزب لأن عدم الشروع في ذلك سيفاقم من الوضع، وتواجه تركيا انتفاضة أكبر.
أما لجهة الموقـــــف من سوريا، فإن ما جرى في اسطنبول لن يبدل ثابــــتة تركــــيا في إسقاط النظــــام في دمــــشق، حيــــث معيار أردوغان في النجاح أو الفشل.
لكن ذلك لا يعــــني استبعاد تغييرات ما في طريقة المقـــــاربة، تولي الشأن الداخلي التركي أولوية مع الاستمرار في التـــــورط الكامل في ســـــوريا، بل في تحمــــيل دمشق جانباً مما جرى في اسطنبول.
ولعل الخطأ الأكبر الذي قد يقع فيه أردوغان أن يحصر ما جرى في اسطنبول بالوضع في سوريا، بينما تشكل العوامل الداخلية الصرف أكثر من 75 في المئة منها.
ولعل ما يؤرق أردوغان بعد اليوم صورة تلك التركيا المتحولة اسطنبولها إلى ساحة حرب في وسائل الإعلام، وهو الذي يجيد الاستعراضات الإعلامية ودور الصورة في الحدث.
إن تكرار ما جرى في اسطنبول من عدم تكراره مرتبط بمدى التغيير الذي سيطرأ على طريقة مقاربة أردوغان للأوضاع. ولن يفيده في شيء أن يضحي ببعض الرؤوس الأمنية أو البلدية. الموضوع جوهره في السياسة والنهج. فإن لم يعتبر وريث السلطان سليم الأول مما جرى، واستمر في غروره، فإن جرس الإنذار الذي قرع سيتحول إلى حراك شعبي واسع، وربما عنفي، وهو ما سيدخل تركيا في متاهات لا تحمد عقباها. الكرة في ملعب أردوغان، بعدما تلقى مرماه هدفاً مباغتاً. وما بعد الأول من حزيران هو غير ما قبله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق