الاثنين، 3 يونيو 2013

«الربيع التركي»: الرومللي ينتفض على الأناضول وحزبه!

مصطفى اللباد
تدخل التظاهرات التركية يومها الرابع مستقطبة انتباه المنطقة والعالم، في تحوّل قد يغير مسار الأحداث في المنطقة إلى وجهة غير متوقعة. أصبحت تركيا بموقعها الجغرافي ودورها السياسي في السنوات الأخيرة لاعباً إقليمياً، يتحالف مع حركات وتيارات سياسية حاكمة في دول «الربيع العربي» وينخرط في الحراكات الداخلية فيها، بحيث يصطف مع أطراف محلية في مواجهة أخرى. ويؤدي ذلك إلى حقيقة الاستقطاب الكبير الذي يحيط بتركيا الآن، سواء في المواقف أو التحليلات السياسية، بما يؤبد تركيا مرة أخرى في ثنائية «الملاك» و«الشيطان» التي كانت عليها قبل عقد من الزمان. أظهرت جماعة «الإخوان المسلمين» ومن لفّ لفها دفاعاً عن مواقف أردوغان «الملاك»، واعتبرت أن المتظاهرين، إنما يتظاهرون اعتراضاً على تقليص بيع الخمور في تركيا. أما خصوم الجماعة فيرون في أردوغان «الشيطان» حليفاً لـ«الإخوان» يتبنى أجندتهم ويمثل فرعهم في تركيا. والحال أن كلا الاحتمالين غير صائب أو دقيق ولا يصيب سوى قشرة الأزمة وليس جوهرها، فالتظاهرات التركية تشبه قمة جبل الجليد، التي تبدو واضحة للنظر في حين يبقى الجبل مستوراً. وبعيداً عن السجال السياسي العربي المواكب للتظاهرات التركية، والذي لا يصيب عمق الحراك وجوهره نطرح بعض الأسئلة في هذا المقال. كيف يمكن قراءة الصراع الرئيس الحاكم في تركيا والذي تتفرّع تظاهرات اسطنبول عنه وخلفياته السياسية - الاجتماعية - الثقافية؟ ومن ثم ما هي الأسباب المباشرة لاندلاع التظاهرات؟ تحاول السطور الآتية الإبحار في الإجابة على هذين السؤالين، عبر تعيين الصراع الرئيس في تركيا، ومن ثم تحديد الظواهر والحراكات وتحليلها كوحدات منفصلة، وفي النهاية إرجاعها إلى الحراك الرئيس مرة أخرى للنظر إلى صورة الحراك الكلية والمتعددة الطبقات.

الرومللي في مواجهة الأناضول

وفق هذه النظرة يكون ما تشهده تركيا من تظاهرات حالياً جزءاً من حراك أكبر، طرفاه أردوغان وحكومته والنخبة السياسية التركية المعارضة. وبدوره ينضوي الحراك الأخير في ملف أساس، هو المتمثل في ذلك الحراك التاريخي المستمر منذ تأسيس الجمهورية التركية سنة 1923 على الأقل، وطرفاه الأناضول بحمولته السياسية والثقافية والاجتماعية في مواجهة الرومللي بحمولة مغايرة. ولئن أحرز الأناضول تقدماً في العقد الأخير لتعديل مواقعه المتراجعة تاريخياً أمام الرومللي، فإن «حزب العدالة والتنمية»، ومن قبله الزعيم التاريخي للإسلام السياسي التركي المرحوم نجم الدين أربكان، يمثلان بوضوح قيم الأناضول، ويؤمن نجاحهما للأناضول ونخبه السياسية وقيمه الثقافية ورجال أعماله حصة من السلطة التركية المسيطر عليها تاريخياً من الرومللي (معقل العلمانية) ونخبته السياسية والثقافية ورجال أعماله. فقط في هذا الإطار يمكن تحليل التظاهرات الأخيرة في اسطنبول بعيداً عن إسقاط الأمنيات على تحليل ما يجري، سواء من الطرف المؤيد لأردوغان أو المعارض له.
يتنافس الأناضول والرومللي منذ عقد على الأقل على روح تركيا وهويتها، ففي حين انتزع الرومللي (ممثلاً في الغرب التركي ومدنه الأبرز اسطنبول وأنقره وإزمير) لنفسه الصدارة والقيادة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، نجح «حزب العدالة والتنمية» في تثبيت نفسه موئلاً للأناضولبكلمات أخرى الحراك السياسي يدور على السطح في تركيا بين «حزب العدالة والتنمية» في مقابل خصومه، أما في العمق فيدور حول حصص السلطات السياسية والاقتصادية والثقافية بالتنافس التاريخي بين الجانبين. هذه هي الصورة الأكبر للمشهد التركي، أما الأسباب الموجبة للتظاهرات فمتعددة ومشكّلة من هواجس واعتراضات، ولكنها فرع من الصراع الأكبر. يبرر ذلك بوضوح أن التظاهرات اندلعت في مدن الرومللي الكبرى، بمواجهة سلطة الأناضول الجديدة.

الأسباب المباشرة للتظاهرات

يمكن الإشارة إلى أسباب مباشرة للأزمة، والتي لعبت دورها في دفع الشباب الأتراك للنزول إلى ميدان تقسيم وما حوله، قبل أن تمتد إلى مناطق أخرى في اسطنبول وتتوسّع باتجاه أنقرة وأزمير، وبشكل يستمر الآن لليوم الرابع على التوالييتمثل السبب الأول في غياب العدالة الاجتماعية عن تركيا، فنسبة النمو العالية للاقتصاد التركي لا تعني بالضرورة تنمية اقتصادية مستدامة، مثلما لا تعني أن الشرائح التركية بكاملها تقطف ثمار نسبة النمو العالية، بل تبقى الثمار محصورة في الأغلب بشرائح رجال المال والأعمال، سواء المرتبطون منهم بـ«حزب العدالة والتنمية» ولهم نصيب وافر (بزنس الاناضول الصاعد) أو غير المرتبطين به وله نصيب يتقلص بمرور الوقت. أما السبب الثاني، فيمكن رؤيته في شكوى المعارضين الأتراك من تغلغل أردوغان وحكومته في الحياة الاجتماعية للأتراك يوماً بعد يوم، محاولاً فرض نظرته للحياة على كل المواطنين الأتراك وعلى نمط عيشهم (قيم الأناضول الثقافية). بمعنى آخر ينص الدستور التركي على علمانية الدولة، ولكن ممارسات حكومة العدالة والتنمية تسعى بقوة إلى «تديين المجال العام التركي» تحت دعوى الحفاظ على الصحة والأخلاق. ولأن الأخيرة مصطلح فضفاض، يحاول أردوغان صيغة كود أخلاقي جديد للأتراك حسب نظرته للحياة وللعالم وكما يتسق مع القيم السائدة في الأناضول. ربما كان السبب الثالث متمثلاً في الاعتراض على المشاريع الكبرى لأردوغان، التي يراها المعارضون وسيلة لخلق «ديكتاتور جديد»، في حين تكشف طريقة تنفيذها وتلزيمها، بحسب هؤلاء المعارضين، غياباً للشفافية وتغليباً لمصلحة دوائر اقتصادية بعينها قريبة من حكومة «العدالة والتنمية» (صعود رجال الأعمال من الأناضول الداعمين لأردوغان وحزبه). رابعاً، ومن طرف خفي يؤدي اختلال التوازنات داخل المجتمع التركي لمصلحة أردوغان وحكومته في مواجهة المؤسسة العسكرية إلى زيادة هواجس المعارضين والمحتجين من استفراد طرف واحد بمقدرات الدولة والمجتمع، من دون أن يعني ذلك أن المحتجين يوالون أو يراهنون على الجيش التركي أو حتى يرونه حلاً للأزمة. خامساً، طموح أردوغان السياسي الواضح يثير حفيظة عدد غير قليل من الأتراك، ليس فقط لأنه أحرز النقاط تلو الأخرى على المؤسسة العسكرية، ولكن لأنه قبل ذلك يريد تعديل الدستور التركي كي تخرج تركيا من إطار الجمهورية البرلمانية لتدخل في إطار جمهورية رئاسية هو رئيسها، وهو أمر معلن. سادساً، يلاحظ الزائر لتركيا في السنة الأخيرة امتعاضاً من انخراط تركيا في الشأن الداخلي لدول مجاورة، وهم هنا لا يتبنون بالضرورة رؤية محددة في هذه الصراعات، ولكن يتخوفون من تداعيات هذا الانخراط على المجتمع التركي. سابعاً، من غير المستبعد في هذا السياق أن تكون تجربة الرئيس محمد مرسي المتعثرة في الحكم في مصر، وتحالفه مع تيارات دينية متطرفة قد لعبت دوراً في زيادة الهواجس التركية المعارضة لأردوغان وحكومته المتحالفين مع مرسي وجماعته (يمثلون بدورهم وبشكل من الأشكال الريف المصري في مقابل المدن).

الخلاصة

لا تعتقد هذه السطور في قيام انتفاضة تركية تطيح برجب طيب أردوغان الآن، فحكومة «حزب العدالة والتنمية» أحدثت بالفعل تغيّراً في موازين القوى السياسية والمجتمعية في تركيا، فضلاً عن أنها تمثل شرائح اجتماعية واقتصادية وثقافية لها مصلحة في بقاء أردوغان. وبالمقابل لا تعتقد السطور أيضاً أن ما يحدث هو مجرد طفرة اعتراضية من طرف مجموعة من الشباب عديمي الميول السياسية أو الخلفيات الاجتماعية، وبالتالي سرعان ما ستنفض التظاهرات ويعود كل شيء إلى حاله السابق. والسبب في ذلك أن التظاهرات كما رأينا جزء من حراك سياسي، على خلفية صراع تاريخي محمّل بأبعاد سياسية واقتصادية وثقافية. على الأرجح سيضطر أردوغان إلى توجيه أنظاره إلى الداخل التركي لاحتواء الموقف، ما سيمنعه من مواصلة الانخراط الإقليمي في قضايا المنطقة، كما سيعمد أردوغان إلى تغليب الاعتبارات الداخلية على اعتبارات السياسة الإقليمية في الفترة الراهنة. بمعنى آخر ستنشأ فجوة داخلية تكبح اندفاعة تركيا الخارجية، وهي نتيجة هامة للمنطقة وللأطراف العربية بغض النظر عن ميولها واصطفافاتهايبقى الدرس الأهم لأردوغان من التظاهرات متمثلاً في أن الغالبية البرلمانية المريحة (327 مقعداً من أصل 550) التي يملكها حزبه قد تكون هامة لتمرير مشاريع القوانين في البرلمان، ولكنها ليست كافية لقمع التظاهرات أو دمغ المتظاهرين بالتطرف أو حتى منع توازن سياسي جديد من التبلور على الأرضتقول القاعدة البديهية الغائبة عن حكومة «حزب العدالة والتنمية»: التصويت لحزب ما في الانتخابات البرلمانية يعني توكيله بإدارة السلطة وفق القوانين والأطر الدستورية وخلال مهلة زمنية محددة، ولكنه لا يعني بأي حال تفويضاً بالتدخل في الحريات المدنية للمواطنين الناخبين أو فرض تصورات الموكَّل (بفتح الكاف) حول العالم وطريقة الحياة على أصحاب التوكيل. الصراع في تركيا لا يحسم بالضربات القاضية وإنما بمراكمة النقاط، وبغض النظر عن استمرار التظاهرات من عدمها في الفترة المقبلة، فإن أردوغان وحزبه يبدوان الآن في وارد خسارة بعض النقاط في انتفاضة الرومللي الحالية.
"السفير"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق