لم يُمح الالتباس الذي تحمله معركة القصير في طيّاتها. في هذه الساعات، يستعيد كثيرون وقائع اليوم الأوّل لبدء الهجوم. وقتذاك بلغت النشوة حدّاً غير مسبوق عند من منّى النفس بنصر سريع في غضون أيام قليلة، لكن الآمال خابت عندما انجلى غبار اليوم الأول عن سقوط ٢٤ شهيداً في صفوف حزب الله. «الحرب خُدعة»، عبارة لهجت بها ألسن المعارضين المنتشين: «نجحنا في استدراج مقاتلي الحزب إلى داخل المصيدة». حصيلة المعركة في اليومين الأولين كانت قاسية على حزب الله، لكنّ إطلاق النار لم يتوقف. أُعيدت الحسابات وخُلطت الأوراق لتُرسم خطة جديدة. أوقف الهجوم البري لوحدات «الكوماندوس» للحدّ من الخسائر في صفوفها، لكن القوات المهاجمة قرّرت اعتماد سياسة التركيز على القصف المدفعي والغارات الجوية، تارة لإنهاك المسلّحين المتحصنين وتارة أُخرى للتخلّص من الكمّ الهائل من الألغام والعبوات الناسفة المنصوبة. في موازاة ذلك، حرص على إطباق الحصار على المدينة والتثبّت من إغلاق كافة المنافذ للحؤول دون وصول مدد لوجستي وبشري. ورويداً رويداً صار يعتمد عمليات القضم البطيء لأحياء مدينة القصير التي ترافقت مع عمليات ميدانية محددة ومضمونة. ورغم كل ذلك، لم تنقطع الاتصالات والمفاوضات مع المسلّحين لحظة.
هذا في الشكل. أمّا مسألة «الفخ الذي وقع فيه مقاتلو الحزب في البداية»، فيسرد المعارضون عنها روايتين. الأولى تنطلق من شكل استراتيجية الهجوم وسوء تقدير قوّة الخصم ومهارات المسلّحين القتالية. إذ تقرّر، في الشق الأول، الدخول من ثلاثة محاور بشكل طولي سريع وصولاً إلى قلب المدينة، وتقسيمها إلى ستة مربعات. يترافق ذلك مع غزارة في النيران وإسناد مدفعي كثيف. كان تقدير المهاجمين يشير إلى أنّ ذلك سيُضعضع المقاتلين المتحصنين في المدينة، وصولاً إلى انهيارهم تحت قوّة الصدمة الأولى، لكنّ ذلك لم يحدث. أما الشق الثاني، فيتعلّق بالقدرات القتالية للمسلّحين، إذ فوجئ مقاتلو الحزب بمهارات قتالية عالية يتمتع بها المسلّحون، وخصوصاً ذوي الخبرات في «ميادين الجهاد العالمية»، وقدرتهم المميزة في التفخيخ والتخفّي والمواجهة. لم يشبه مقاتلو القصير زملاءهم الذين سلّموا سلاحهم أو فرّوا في معارك حوض العاصي (غربي القصير).
أما الرواية الثانية، فتسلك مساراً آخر. تتبنّى مقولة «الخداع والمصيدة»، مستندة إلى المفاوضات التي أجراها ممثّلون عن الحزب مع المسلّحين، بوساطة قام بها أحد وجهاء العائلات، أثناء بدء محاصرة المدينة. وتُشير إلى أنّ المسلّحين «سايروا الحزب لإخراج عائلاتهم والمدنيين من المدينة، وأوهموهم بأنّهم سيُسلّمون أنفسهم فور بدء المعركة»، لكنهم اشترطوا حصول بعض المواجهات «الشكلية»، كي «لا يخرج المسلّحون بهيئة الخونة ما يُحلّل قتلهم على أيدي المعارضين أنفسهم في ما بعد»، على ذمة معارضين سوريين. وتضيف الرواية: «بالفعل، تحقق ذلك. فقد كانت الأمور تسير وفق المخطط. نفّذ المسلّحون تعهّداتهم لقيادة الحزب. نفّذوا عدداً من الانسحابات المتّفق عليها. فبدت الأمور سهلة لدى المهاجمين إلى أن فوجئ مقاتلو الحزب بأنهم وقعوا في المصيدة؛ إذ نفّذ المسلّحون نصف المتّفق عليه ثم انقلبوا عليه. أوهموا الحزب بالتزامهم الاتفاق ثم استدرجوه إلى الكمين. وبالتالي، هذا ما يُبرّر أعداد الشهداء المرتفعة لدى الحزب في أوّل أيّام المعركة».
وسط كل ذلك، استمرّت المعارك لنحو ١٦ يوماً. سُجّل الهجوم الأخير فيها عند ساعات الفجر الأولى من يوم أمس. نشرت تنسيقيات المعارضة السورية صوراً وأسماء لـ431 مسلحاً معارضاً قُتِلوا خلال المواجهات، فضلاً عن تلك الجثث التي لم يستطيعوا سحبها، والمسلّحين الغرباء الذين قُتلوا لكن لم يُكشف عنهم بعد. أمّا الأعداد الحقيقية للقتلى، بحسب مصادر المعارضة الموثوقة، فتُشير إلى أنّهم تجاوزوا ١٢٠٠ قتيل، فيما ناهزت أعداد الجرحى الألف. وعلمت «الأخبار» أنّ هناك نحو ١٠٠٠ مسلّح تمكن مقاتلو الحزب والجيش السوري من أسرهم، بينهم عدد من «الغرباء»، أي المسلّحين الأجانب الذين قدموا لنُصرة المسلّحين في القصير. وأشارت المعلومات إلى أنّ بين هؤلاء أسرى من الجنسية الأوسترالية، إضافة إلى فتيات عدة من الجنسية الشيشانية، كانت مهمتهن استخدام القنّاصات. هذا في ما يتعلّق بمسلّحي المعارضة. أما الشهداء في صفوف مقاتلي حزب الله، فلم يتجاوزوا المئة (93 شهيداً)، فضلاً عن أعداد الجرحى الذين عادوا بالعشرات.
لم تُكشف خبايا سقوط القصير بعد. المؤكد أنّ دقائق ليلة السقوط تزخر بالكثير من التفاصيل. لكن المعلومات الأولى تشير إلى أنّ المفاوضات التي جرت تحت النار عجّلت بالسقوط. تكشف المعلومات أنّ مجموعات المسلّحين انقسمت في ما بينهم، متحدثة عن وقوع عدد من الاشتباكات بين مسلّحي المجموعات المسلّحة أنفسهم على خلفية تبادل تُهم الخيانة. وتُشير المعلومات إلى أنّ هناك عدداً من المسلّحين ألقوا السلاح وسلّموا أنفسهم من دون قتال، بعدما حصلوا على الأمان من حزب الله بحفظ حياته. وتلفت المعلومات إلى أنّ الجيش السوري وحزب الله، بعد المفاوضات، فتحا ممرات باتجاه بلدتي الضبعة والبويضة الشرقية (شمالي القصير)، ففوجئ المسلّحون بزملائهم يفرّون باتجاهها من دون تنسيق مسبق، إضافة إلى آخرين، انسحبوا باتجاه جرود عرسال تحت وطأة الهجوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق