طبيعة العملية: غارة جوية تحت جنح الظلام. الهدف: موقع للبحوث العلمية التابعة للصناعات العسكرية السورية، في جمرايا شمال شرق دمشق. التوقيت: بعد يومين على مكالمة هاتفية بين الرئيس باراك أوباما ورئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي أوفد مستشار الأمن القومي يعقوب عاميدرور إلى موسكو نهاية الأسبوع الماضي في زيارة قالت تل أبيب إنها لبحث مسألة الأسلحة الاستراتيجية السورية. الاستعدادات: كان أبرزها نشر منظومات القبة الحديدية المضادة للصواريخ في الجولان السوري المحتل، مع تسريبات عن إمكان قيامها بعملية عسكرية «خاطفة» في سوريا أو لبنان تحت عنوان الخوف من انتقال الأسلحة الكيميائية السورية إلى جهات «إرهابية» بينها حزب الله. السياق: تأكد خطأ كل التنبؤات الإسرائيلية بشأن قرب سقوط النظام السوري «خلال أسابيع» (وهي التوقعات التي أطلقها مسؤولون إسرائيليون خلال العام الفائت).
أما الهدف، فيبدو واضحاً أن الدولة العبرية أرادت رسم خطوط حمراء، لكل من يعنيه الأمر، وفي مقدمته القيادة السورية التي تحقق وحداتها المسلحة تقدماً ملموساً في الميدان، بأن هناك حدوداً لا يمكن دمشق وداعميها تجاوزها، وإلا خاطرت بدخول إسرائيلي عسكري مباشر في المعركة، مراهنة على ما يبدو على أرجحية اختيار الطرف السوري عدم الرد، على ما درجت عليه العادة خلال تجارب ماضية، كان آخرها استهداف منشأة دير الزور في عام 2007 تحت عنوان أنها منشأة نووية.
إلا أن حسابات الحقل ليس بالضرورة أن تتطابق مع حسابات البيدر، وخاصة أن غارة يوم أمس تختلف كثيراً عن الغارات السابقة على المستويات كلها، وعدم الرد السوري هذه المرة سيعني قبولاً للمعادلة الجديدة التي تحاول إسرائيل فرضها على شكل قيود على حركة النظام، الذي يرجح ألا يكون بمقدوره القبول بها من دون المخاطرة بكينونته نفسها. وبناءً عليه، يبدو أن السؤال الأكثر منطقية هو عن كيفية الرد وطبيعته وحجمه. هل سيكون صريحاً يحمل توقيعاً سورياً علنياً، أم عملاً عسكرياً أم أمنياً مضمراً؟ هل سيكون مباشراً، أي يستهدف الكيان الإسرائيلي، أم يضرب المصالح الإسرائيلية؟ هل يكون من الكبر بمكان لا يترك مجالاً للإسرائيلي إلا لرد مقابل، فندخل في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل يمكن أن يتدحرج إلى حرب لا شك في أن نطاقها سيتوسع ليشمل المنطقة كلها؟ أم سيكون من النوع الذي يردع إسرائيل ويجهض أهداف غارة يوم أمس، ولكن يمكنها إمراره بشكل أو بآخر؟
وبغض النظر عن كل الاختلافات السالفة الذكر، إلا أن تعامل الدولة العبرية مع اعتداءات كهذا بقي على حاله. صمت رسمي وتسريبات إعلامية أقرب إلى التكهنات منها إلى المعلومات المباشرة المؤكدة، في مقابل اعتراف من دمشق التي يبدو أنها تتمهل لإعلان موقفها النهائي مما حصل إلى حين دراسة حيثياتها وتداعيات الخطوات المحتملة.
وكانت وكالة «رويترز» أول من التقط خيط ما يجري، بنقلها عن مصادر أمنية ودبلوماسية تاكيداً بأن طائرات إسرائيلية أغارت على قافلة كانت متجهة من سوريا إلى لبنان، في منطقة الحدود السورية ـــ اللبنانية. بعدها بدأ الخبر يتفعل مع نقل إحدى الوكالات خبراً يتحدّث عن أن الغارة استهدفت قافلة فور دخولها الأراضي اللبنانية من سوريا. وبعد نفي لبناني قاطع لهذه المعلومات، جرى الربط بين هذه العملية وأنباء عن انفجار ضخم وقع في منشأة عسكرية سورية، في منطقة جمرايا، سبق أن تعرضت لأكثر من هجوم من مجموعات المعارضة المسلحة. وبينما ساد الظن في ساعات أمس الأولى أن انفجار جرمايا ناجم عن هجوم من مسلحي المعارضة، جاء إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن شنّ إسرائيل غارة على موقع سوري ليكشف عن حيثيات الاعتداء، قبل أن يصدر بيان القيادة العامة للقوات المسلحة السورية، ليقطع الشك باليقين: حصلت غارة إسرائيلية، شنتها طائرات تسللت تحت مستوى الرادار، واخترقت الأجواء السورية من منطقة جبل الشيخ، واستهدفت منشأة للبحوث العلمية. ونفى البيان أن تكون الغارة قد استهدفت قافلة كانت متوجهة إلى لبنان. وبدا لافتاً قول بيان القوات المسلحة السورية إن المنشأة المستهدفة تعمل في إطار تعزيز قدرات المقاومة، والربط بين الغارة والهجمات الفاشلة التي سبق أن شنتها مجموعات المعارضة على المنشأة.
إسرائيل الرسمية لاذت بالصمت. وأشارت وسائل الإعلام العبرية إلى أن ديوان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، طلب من وزرائه عدم الإدلاء بأي تصريح أو الرد على أسئلة الإعلاميين عن التقارير التي تتحدث عن هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية. وبحسب الإعلام العبري، فإن هذا الصمت، يسري أيضاً على الإعلاميين والمعلقين، ويمنع عليهم الإدلاء بأي معلومات تصل إليهم. واكتفت وسائل الإعلام بنقل الخبر عن وكالات الأنباء الأجنبية. لكن كل التعليقات الإسرائيلية بنت تحليلاتها على الصمت السوري، مراهنة على أن دمشق ستتجاهل الغارة «لمنع الإحراج». وأكد المراسل العسكري للقناة العاشرة في التلفزيون العبري، نير دفوري، أن الرقابة العسكرية تمنع بنحو كامل الإدلاء بمعلومات، وأشار إلى أن المنع ينسحب على الإدلاء بتعليقات، أيضاً على ما نشرته وكالة رويترز للأنباء، التي كانت أول من أشار إلى الهجوم، مشيراً إلى أن «كل من نتصل به من المسؤولين، يرفض التطرق إلى الموضوع، أما ما هو مسموح قوله، فهو التأكيد أن إسرائيل جاهزة وعلى استعداد (للتعامل مع التطورات)، لكن كلما تكلمنا أقل، وكلما أبعدنا أنفسنا عن الموضوع، قلّ إمكان تلقي رد».
مع ذلك، وفي إشارة إلى أن القافلة المستهدفة كانت تنقل سلاحاً متطوراً، لكنه غير كيميائي، أكدت القناة أنه «لو صحّت الأنباء عن أن ما كانت تنقله القافلة هو صواريخ دفاع جوي متطور، فهذا أمر لا يمكن إسرائيل أن تتجاوزه؛ إذ من المعلوم أن روسيا باعت سوريا منظومات متطورة جداً، قادرة على إسقاط الطائرات الحربية الإسرائيلية، وإذا وصلت هذه المنظومات إلى لبنان، فإن التحدي سيكون صعباً للغاية أمام مناورة سلاح الجو الإسرائيلي فوق لبنان». وأشارت القناة إلى أن «حزب الله لن يستسلم، إن كان هو من يقف وراء عملية تهريب هذه المنظومة، وسيحاول إعادة الكرّة من جديد».
وأكدت القناة أن الصمت الإسرائيلي الرسمي «ليس صدفة، بل يشبه ما قامت به عام 2007، بعد مهاجمة المفاعل السوري، أي إنها تصمت وتتيح للأسد هامشاً للنفي، كي يستطيع أن يتجاهل ما حدث، وكأنه لم يحدث، وبالتالي لا يكون ملزماً بالرد على إسرائيل».
وشددت صحيفة هآرتس على أنّ «من الصعب تصور كيف سيتعامل (الرئيس السوري بشار) الأسد مع هذه المسألة، في ظل الوضع غير المسبوق، الذي هو فيه، لكن المتغير الذي يجب أن نقف عنده، هو حزب الله».
وقال موقع صحيفة يديعوت أحرونوت إن روسيا زودت في العام الماضي، سوريا بمنظومات سلاح متطورة، تضمنت رادارات حديثة جداً، وأيضاً صواريخ بر – بحر، و«لم تعد ذات فائدة لسوريا اليوم، إلا إذا كانت تخطط كي تنقلها إلى حزب الله في لبنان».
بدورها، أشارت القناة الأولى العبرية، إلى أن «الحديث عن السلاح الكيميائي، وكأنه هو فقط ما يقلق إسرائيل في سوريا، ليس حديثاً صحيحاً، إذ إن لدى الجيش السوري أسلحة أخرى، تشكل خطراً على إسرائيل، كما هي حال منظومات الدفاع الجوي من نوع اس اي 17. وإذا نقلت هذه المنظومات إلى حزب الله في لبنان، فهذا يعني عدم إمكان المحافظة على وجود سلاح الجو (الإسرائيلي) في الأجواء اللبنانية».
وسادت أمس حالة من القلق لدى المستوطنين الإسرائيليين في شمال فلسطين المحتلة، وسط شائعات تناقلت عن مواجهة مقبلة مع لبنان أو مع سوريا، الأمر الذي استتبع تدخلاً من قيادة الجبهة الداخلية لدى البلديات والمجالس المحلية، والطلب منها عدم تغيير إجراءاتها المتبعة، إلى حين تلقي تعليمات مغايرة من الجيش الإسرائيلي. مع ذلك، شهدت المستوطنات حركة تأهيل وتجهيز للملاجئ، واستدعاء الطواقم المختصة بالإنقاذ، للإبقاء على جهوزية حالات الطوارئ. أما بلدية حيفا، فعقدت جلسة خاصة لتقويم الأوضاع، من بينها الاتصال بالمصانع والمنشآت البتروكيميائية في خليج حيفا وجواره، للتأكد من إجراءات السلامة المقررة، ومنعاً لوقوع كارثة، في حال استهداف البتروكيميائيات بصواريخ، عند تردي الوضع إلى مواجهة. وقال رئيس بلدية حيفا، يونا ياهف، إن النقاشات مستمرة لدى البلدية، للاستعداد لمواجهة أي تصعيد «لا يأمل أحد أن يحصل».
أعقب ذلك جلسات لمنتدى وزراء التسعة في الحكومة الإسرائيلية، وجلسات شبيهة، برئاسة نتنياهو، شارك فيها مسؤولو المؤسستين الأمنية والعسكرية، لدراسة «الخطر السوري، والسلاح الاستراتيجي في حوزة النظام في دمشق». لم يرشح عن هذه الجلسات الكثير من التفاصيل، لكن تصريحات نتنياهو نفسه، إضافة إلى تصريحات أطلقها عدد من الوزراء، ومن بينهم نائب رئيس الحكومة، سيلفان شالوم، كانت واضحة: إسرائيل ستستخدم القوة العسكرية المباشرة، لمنع «انزلاق» السلاح السوري الاستراتيجي إلى لبنان.
بطبيعة الحال، لم يكن قرار الضربة قراراً إسرائيلياً فقط. وقبل الضربة، ذكرت وسائل إعلام عبرية، أن رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، افيف كوخافي، موجود حالياً في زيارة سرية للولايات المتحدة، للقاء عدد من كبار المسؤولين الأمنيين الأميركيين في البنتاغون، للبحث في مسائل أمنية، من بينها «الأوضاع في الساحة السورية».