وفي ما يخص النفط والغاز، فبالرغم من صغر حجم مواردها مقارنة بالجار العراقي إلا ان أهميتها في توليد الطاقة تجعل منها منطقة لا تتساهل السلطة معها، بينما حسم مقاتلو المعارضة قرارهم بأنهم ليسوا بحاجة لتلك الأنابيب وقرروا إطلاق معاركهم في محافظتي الرقة ودير الزور، في وقت تغرق الحسكة بأزمات متتالية. بداية من التوجس الكردي والتنوع العرقي والطائفي مع الحشد التركي على الحدود، وصولاً إلى محاولة فرض منطقة تخضع لهوى المسلحين ومن يدعمهم. وبين كل هذه الملفات، تبقى الجزيرة منطقة منسية برغم الجنون الذي يضربها يومياً.. ومن كل الجبهات.
دير الزور.. معركة النفط والحدود
تُعتبر دير الزور ثاني أكبر محافظات سوريا مساحة بعد حمص. وتحجز لنفسها جزءاً كبيراً من الشريط الحدودي العراقي مع منفذ البوكمال الحدودي الرسمي الذي أغلقته السلطات العراقية مع سيطرة مسلحي «الجيش الحر» على المعبر أو بالأحرى المدينة كاملة. وإلى جانب الحدود يعتبر نهر الفرات عصب الحياة الأساسي لمحافظة تعتمد في مواردها على الزراعة وخاصة على ضفاف النهر، حيث تمتد مناطق الريف على طول مدخله من الرقة شمالاً وحتى البوكمال شرقاً. ويُضاف إلى ذلك، توزع حقول النفط في مراكز عدة فيها، ما دفع شركة النفط الرسمية التابعة للدولة والشركات الأجنبية لتوطيد مواقعها، وهذا بالطبع قبل اندلاع الاحتجاجات.
أما اليوم فقد انقلبت الصورة وسيطر المقاتلون على عدد كبير من حقول النفط وضربوا الأنابيب وحاصروا العاملين حولها تحت حجة أن هذه الخطوط تمد دبابات ومراكز النظام العسكرية بالوقود.
ما حصل فرض أزمة وقود حقيقية في البلاد دفعت الجيش السوري إلى شن حملات عسكرية واسعة بغرض استعادة السيطرة على المناطق النفطية في الريف، ومنها امتدت معارك الجيش النظامي مع المقاتلين لتقتحم دير الزور المدينة بدءاً من حزيران الماضي.وهكذا سيطرت المعارضة على عدد كبير من أحيائها إضافة للريف المجاور ما فرض أزمة نزوح هائلة لأبناء الفرات إلى المناطق المجاورة لا سيما الرقة، بينما نجح قلة من الأهالي بالوصول إلى العراق التي كانت دير الزور بوابتها الأولى للتجارة إلى سوريا أيام الحصار.
وشكلت المنطقة ذاتها بوابة العبور الأساسية للمقاتلين الذاهبين للجهاد إبان الاحتلال الأميركي وما بعده. إذ يذكر أهالي الدير العديد من قصص أبنائهم ممن تطوعوا للقتال في العراق، بينما شكل عبور المقاتلين الأجانب إلى بلاد الرافدين ملفاً لا يقل خطورة برغم نجاح النظام في ضبط حدوده إلى حد كبير في السنوات الأخيرة.
في المقابل، تبدو الصورة داخل المدينة مشتتة للغاية مع كتائب عدة يعتبر كل منها أنه القائد الأعلى والوحيد لمن هم حوله، بحسب ناشط من المنطقة، ما سبب معارك بين الكتائب نفسها من جهة وبين الكتائب والجيش السوري من جهة أخرى. الأخير كان عمد إلى اتباع سياسة حث الأهالي للعودة إلى بيوتهم وعودة المهمات الحكومية ووظائف الدولة ولو بالحد الأدنى، وهو ما تم بالفعل في أحياء الجورة والقصور في سبيل الضغط على «الجيش الحر» لإخلاء المناطق التي يسيطر عليها. بدوره، لا يتردد «الجيش الحر» في شن هجمات على مواقع النظام الأمنية والعسكرية وخاصة مطار المدينة حيث تنطلق معظم الهجمات الجوية منه، فيما لم تسقط أي من المقار الأمنية بيد «الجيش الحر» باستثناء مبنى واحد في وسط المدينة، التي ينحدر منها رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب والسفير المنشق في العراق نواف الفارس.
الرقة.. أزمة العشائر
إلى الشمال من دير الزور تقع محافظة الرقة، الوحيدة التي زارها الرئيس السوري بشار الأسد خلال الأزمة الأخيرة. من بين تلك المناطق، وعلى عكس جارتها، امتازت الرقة بهدوء نسبي جعلها تتأخر عن اللحاق بركب المدن المنتفضة ضد النظام. وبرغم اندلاع عدة احتجاجات فيها في الربيع الماضي، ما لبثت أن هدأت بعدها لتعود الجبهة للاشتعال من جديد، لكن عبر البوابة الحلبية من الشمال وامتداد سيطرة المسلحين في الريف الحلبي شرقاً وصولاً إلى معابر الرقة الحدودية مع تركيا ومنها إلى عدة سدود على نهر الفرات الذي تمتد منه خطوط المياه إلى حلب. ولكن كل هذه الجبهات لم تمنع هدوء المدينة واستقرار النازحين من دير الزور فيها من دون أن تصلها اشتباكات النظام والمعارضة حتى الآن بشكل واسع.
وإلى جانب الثقل البشري للنازحين تبدو ورقة العشائر في الرقة بارزة بقوة، حيث يعزو العديد من أبناء الرقة هذه الظاهرة إلى صغر مساحة المنطقة أولا ودخولها في حالة من الانغلاق فرضت استمرار سطوة العشائر.
هذه العشائر، رغم دخولها مظاهر المدنية، إلا أن بعضها ما زال يحتفظ بممارسات أيام البداوة والقبلية، وإن لم يبرز الأمر بشكل كبير حتى اليوم برغم محاولات المعارضة المتكررة اللعب على وتر العصبية القبلية والنزعة العشائرية، حيث تهب العشائر لنجدة بعضها البعض على مبدأ الفزعة. هذا الأمر أعطى النظام زخماً إضافيا لإعادة تحريك الورقة عينها فأقام سلسلة من المؤتمرات الخاصة بالقبائل وعزز حضورها إجمالا على الساحتين السياسية والإعلامية، خاصة أنه اعتاد إعطاء شيوخ هذه المناطق نفوذاً واسعاً مقابل ولائهم له وضمان حصر السلاح بيد زعماء القبائل لتجنب اشتعال المنطقة ضده. وهو ما ثبتت فعاليته لاحقاً، وخصوصاً أيام التوتر السوري العراقي في عهد الرئيس العراقي صدام حسين الذي حاول استعمال هذه النزعة ضد الرئيس حافظ الأسد، لكنه فشل.
وتشير أوساط العشائر دوما إلى أن لا مصلحة لها بدخول الصراع المسلح سواء لمصلحة النظام أو المعارضة، لمعرفتها الدقيقة أن مثل هذا التورط سيقود إلى حروب لاحقة مع عودة نزعة القبلية والأخذ بالثأر إن استمر الطرفان في استثمار هذا الملف لمصالحهما. ويعقّب ناشط من الرقة على حادثة اعتقال أحد شيوخ العشائر في الفرات قبل عام ونصف العام تقريباً قائلاً «لم يهبّ أبناء العشيرة يومها ضد النظام ولم يحدث أي رد فعل قبلي واضح، ما أعطى انطباعا أن سلطة الزعيم بدأت بالتلاشي، وأن من يحتفظ لغاية الآن بذكريات البداوة لن يفكر برد فعل يودي إلى عواقب خطيرة».
الحسكة.. الزلزال الكردي والأقليات
إلى جانب الرقة ودير الزور، تعتبر الحسكة ثالث مناطق الجزيرة السورية. وتمتد على شريط حدودي مع تركيا شمالاً ومع العراق وتحديداً كردستان شرقاً، حيث تمتد المناطق الكردية إلى الجانب السوري في مناطق رأس العين والقامشلي وعامودا والدرباسية مع حضور كردي لافت في الحراك منذ اندلاع الاحتجاجات. ويفخر الأكراد بكون مناطقهم، الوحيدة التي ما زالت تحتفي بالحراك السلمي، مقابل توجس من العلاقة المرتبكة مع مسلحي «الجيش الحر» وخاصة الإسلاميين منهم، و«جبهة النصرة» التي أقامت عدة اتفاقات لإدارة المناطق الشمالية منها مع الأكراد بهدف حقن المعارك بينهما. ويعتبر الإسلاميون أن للأكراد مساعي انفصالية لإقامة دولتهم، بينما يشتكي هؤلاء (الأكراد) من تدفق الأسلحة والمسلحين عبر الحدود التركية شمالاً.
وبموازاة ذلك، تتفاقم مخاوف الشارع، الذي يجاوره حشد بشري من العرب أو ما يطلق عليه بالحزام العربي، حيث يعتبر العديد من الأكراد أن النظام في فترة الستينيات قام بنقل الكثير من البدو وتوطينهم في هذه المناطق، في محاولة منه لتغيير التركيبة الديموغرافية لشمالي شرقي البلاد.
ولم تسجل الأيام والأشهر الماضية أي توتر بين العرب والأكراد، ولا حتى مع الأقليات الأخرى كالآشوريين والسريان والكلدان، بالإضافة إلى الأرمن حيث تتشارك هذه الأقليات مع الأكراد في قلقها من الإسلاميين عموماً. في المقابل، تحدث البعض علناً عن اتهامات بدعمهم للنظام ودعا آخرون للتهجير بينما بدت لافتة مؤخراً إعادة فتح المعابر الحدودية بين كردستان العراق والحسكة وهو ما ساعد كثيراً في حل أزمة المعيشة ونقص الكهرباء والوقود عن المحافظة التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد في السنوات الماضية. كما ارتفعت التكاليف الزراعية بشكل حاد، الأمر الذي تسبّب بهجرة الآلاف من أبنائها إلى دمشق وحلب وتشكيل أحزمة بؤس، وسط تعتيم إعلامي شديد واهتمام بائس من المنظمات الدولية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق