فما الذي يدفع الرئيس السوري إلى تصعيد اللهجة، فيما كانت التسريبات تعد بخطاب مغاير واقرب إلى الانفتاح الإيجابي؟ يرى مناع، وهو من أبرز المعارضين السوريين، «الأسد انتهز عمليات ناجحة للجيش السوري جرت مؤخرا، لتوظيفها في رفع اللهجة والعودة إلى فكرة فرض حل، وليس التوافق على حل".
والحال أن خطاب الرئيس السوري يرتبط بتطورات ميدانية مهمة أعادت للجيش السوري المبادرة العسكرية نسبياً على الأرض، بفضل الصمود في معارك المطارات القاسية في الشمال، والاحتفاظ بأهم المدن، والسيطرة على ريف دمشق. والأرجح أيضا أن الرئيس السوري، الذي بدا قويا وواثقا من نفسه، أقام موقفه على اعتبارات القوة الراهنة. فإلى إنجازات الجيش، أضاف إلى كفته الراجحة نسبيا تراجع قدرة المعارضة المسلحة على الحشد والقتال، واضطرار بعض وحداتها إلى إخلاء مواقع استراتيجية مؤخراً، كما حدث في دير بعلبة قرب حمص وحول مطار العاصمة وفي ريف دمشق.. لكن الاعتبار الأهم، هو خروج «جبهة النصرة» في عباءة الثورة، ولعبها مع التيار الجهادي السلفي دورا متعاظما، تتعاظم معه مخاوف أميركية وغربية من انقلاب الأمر كله لمصلحتها، على حساب الأجنحة المدنية والديموقراطية للثورة السورية. وترشح تسريبات أن مصادر التسليح بدأت تجف بضغط أميركي لاحتواء الجهاديين، بعد أن أخفق المجلس العسكري الموحد في فرض سلطته على الأرض والتقدم عليهـم، وهـي اعتبارات تقع في سلـة الأسد، وتدعـم اندفاعه نحو إلغاء أية تنـازلات سياسية، بل وتشجعه على تحدي دور الأمم المتـحدة، التي تعرضت إلى ركلة رئاسية قوية، بإسقاط مبادرتهـا واتفـاق جنـيف ووسيطـها الأخـضر الإبراهيمي من كل حسابات الخطاب الرئاسي السوري وتصوراته للحل.
ولكن، وفقاً لمناع، يخاطر الأسد بتضييع الفرصة مرة جديدة، ببنائه موقفا مستديما على اعتبارات راهنة، فلا بد أن تطرأ عليه متغيرات أكيدة في صراع متحرك، بدلاً من تحيّن فرصة استعادة المبادرة العسكرية، للتفاوض من موقع قوي وقيادة سوريا، نحو حلّ يحفظ الجيش والمؤسسات والدولة ويحقق المصالحة الوطنية. ويراهن الأسد على اعتبار محطة بعض هزائم المعارضة، خطا تنازليا لا رجعة عنه. يقول «إذا أراد الأسد أن يكون منسجما مع نفسه، كان عليه أن يترك منصبه لنائبه خلال المرحلة الانتقالية، كي يحق له أن يتقدم إلى الانتخابات كأي مرشح آخر، فكل من يشارك في العملية الانتقالية لا يحق له الترشح إلى أي انتخابات.. لا يمكن أن يكون حاميها حراميها؟".
وهكذا، الرؤية كما انعكست في خطاب الأسد وفي ذهن المعارض السوري ليست «كلها متكاملة لفرض حل، ولكنه حتى في الهامش الذي تركه في تصوره لفرض الحل، قتله دفعة واحدة، بتضييق مساحة المعارضة السورية المقبولة على طاولة الحوار، فلا مبرر لكل هذا العنفوان والسلطات السورية فشلت في خيارها الأمني، كما فشلت المعارضة مع خيارها بالعسكرة. وهناك خطيئة أصلية يقوم عليها كل الخطاب: التواجد الجهادي الأجنبي، وهذا ما جعل سكان غير منطقة يطالبون بعودة أي حاجز للجيش السوري، ما أن يرفع من جيرتهم».
ويروي المعارض السوري شيئا من تغير المزاج الشعبي السوري، ولعب الخطاب الرئاسي على «الوطنية السورية» في اعتبار أن ما يواجهه هو إرهاب وليس ثورة. وفي التفاصيل أن وفداً من معربة وبصرى الشام ذهب لمقابلة أبو الزبير الليبي، قائد «جبهة النصرة» في حوران، وطلب منه «إخراج المقاتلين من بيوتنا، لكي لا نهان باللجوء في الأردن»، فكان جواب الليبي «هذه ليست أرضكم، هذه أرض جهاد ورباط ، فإما أن تجاهدوا معنا وإما أن ترحلوا عنها».
ويحمّل مناع «الائتلاف السوري» وغيره مسؤولية فتح الأبواب أمام «جبهة النصرة» والسماح لها بدخول عقر دار «الثورة السورية» وتشريع وجودها. فعندما يدافع «الائتلاف» عن الجبهة ويعتبرها جزءا من الثورة «يمكن بعدها للأسد أن يخرج بخطاب كهذا، يقول فيه إن الثورة كلها مجاهدون أجانب».
ويتساوى لدى مناع رفضان للعملية السياسية، ينفي أحدهما الآخر، ويتعادلان في إغلاق آفاق الحل «لدينا مشكلتان: الأولى مع الطرف الذي قال إننا لن نحاور ولن نفاوض إلى أن يغادر الأسد قصر الشعب، والطرف الآخر الذي يرى إرهابيا في كل من رفع سلاحا، وهما يتقاطعان في النتائج، وهذا نرفضه لأنه يضع عقبات أمام أي تفاوض من أجل الخروج من الطريق المسدود نحو أفق انتقال مخلّصة للعباد والبلاد». ويتحدث مناع عن غياب الشريك في الحل السياسي «لا أحد يحاور ورقبته تحت السكين، وهناك أربعون ألف معتقل، ومن بينهم ثلاثة في هيئة التنسيق في مكتب العلاقات الخارجية عبد العزيز الخير وإياس عياش ورجاء الناصر، يقبع الأول والثاني في السجن، فعن أي حوار يتحدث الأسد؟».
أما عما يُحكى عن مشاركته في قيادة مرحلة انتقالية في أي عملية سياسية عرضها خطاب الأسد كرئيس لحكومة، فيجيب مناع «طبعا لا، لقد عرض علينا في الماضي، أفضل مما يعرض اليوم، وهناك تراجع كبير عما كان مطروحا، وأنا جزء من هيئة التنسيق الوطنية ، وهي التي تملك قرار المشاركة أو عدمه. كما أعي كل نقاط القوة والضعف في مشروع كهذا، لم أطمح طيلة حياتي كلها لأي منصب سياسي، وأي شخص يمكنه النهوض بالمهمة أساعده بما استطيع».
وفي النهاية، كيف يمكن الحوار مع رئيس يلعب البينغ بونغ وحده ؟ يتساءل مناع . فـ«تكليف الحكومة الحالية إدارة الحوار غير مقبول، ونحن لن نذهب تحت الطاولة. لو كلف طرفا ثالثا بالتفاوض، كان من الممكن عندئذ الرد. لو كان جديا في الرغبة بالمصالحة، كان يجب أن يسلم إلى حكومة انتقالية، وينبغي أن يجري على أساس خطة انان والإبراهيمي».
ولكن ما البدائل؟ هل أصبح مستحيلاً التفاوض بين السوريين؟ يرى مناع أنه لم يعد هناك أي إمكانية للتفاوض في سوريا من دون ضمانات دولية، ولأن الثقة تبددت، «نريد شركة ضمان وليس مجرد ضمانات». أما عن احتمالات التفاوض، وإمكانية أن يكون الأسد قد أغلق الباب على الروس والأميركيين والإبراهيمي نهائيا؟ فيقول مناع إن «أي تفاوض حول سوريا لن يعتمد لا قرارات الدوحة ولا على خطاب الرئيس الأخير، وإنما على جمع زبدة ما طرح كل من الإبراهيمي وموسكو وواشنطن، لأن الأطراف الداخلية وحدها تعجز عن صياغة خطاب وحدة وطنية، هذا خطاب يحتاج إلى من لم تتلوث أيديهم بالدماء ليشكلوا مركز الثقل في أي عملية مصالحة وطنية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق