بالرغم ان الكثيرين لم يجدوا في الوصول الى الهدنة في سوريا اي جانب إيجابي, إلا أن قراءة الهدنة من مفهوم سوري لابد ان تلقي الضوء على امر مهم جداً يرتبط تماماً بهوية و شكل القوة الجديدة الفاعلة في أروقة النظام السوري. المطلعين على الداخل السوري يدركون تماماً حجم الصراع الذي دار في اروقة النظام السوري من اجل الموافقة على فكرة الهدنة و قبول فكرة وقف اطلاق النار. باختصار,نفوذ المؤسسة العسكرية المتنامي على الأرض في سوريا هو الذي حسم الأمر, و رجح كفة الوصول الى اولى اتفاقات مسيرة وقف العنف و التي تمثلت بالهدنة المؤقتة التي قررها الجيش السوري.
من مفهوم دبلوماسي, مثلت الهدنة "هدية سياسية كبيرة" قدمتها المؤسسة العسكرية السورية للمبعوث الأممي الأخضر الابراهيمي. رجل الدبلوماسية المخضرم يتقن -الى اليوم- عملية فتح ابواب الحوار المغلقة التي فشل خلفه أنان في التعامل معها. جولات مكوكية من طهران الى موسكو فجدة و دمشق. الحقيقة, أن اوساط واسعة من المعارضة السورية في الخارج بدأت تتذمر من سياسة الابراهيمي الساعية الى اتمام رسم خريطة الانتقال السياسي في سوريا. الدبلوماسي الجزائري يدرك ان الوصول الى حل يحتاج الى حنكة دبلوماسية عاليه و يحتاج ايضاً الى انفتاح –دون تحفظات- على الاطراف المؤثرة في الأزمة السورية. على الأرض هناك قوى ادركت تماماً أن الجيش السوري سحب الأوراق من كل الاطراف, و ان مضي الابراهيمي قدماً في اول خطوة على طريق وقف العنف ضمن تفاهمات مع المؤسسة العسكرية السورية يعني اقتراب الحل السياسي و اقتراب خروج الكثيرين من المشهد سواء من المعارضة أو النظام, لهذا قد يشكل افشال الهدنة الان مصلحة استراتيجية لهذه الفئات المتحاربة على الأرض. فانطلاق مسيرة التسوية تعني نهاية مجلس اسطنبول, و اعلان فشل مسبق للقاء الدوحة القادم. على الصعيد الآخر, نجاح سياسة الهدنة ستؤدي لاحقاُ لسحب ورقة القرار من يد فريق واسع ينتمي الى تركيبة النظام الحالي.
اجماع عالمي واسع: الحل في موسكو
بات من الواضح للجميع اليوم أن الخط الأحمر الروسي هو خط لا يمكن تجاوزه ابداً. كل التصريحات الرسمية و الصحفية بدأت تقر بعدم جدوى التحايل على روسيا بالامور المتعلقة بالمسألة السورية. فالحل في سوريا يمر فقط عبر بوابة "موسكو".
كثير من القراءات المغلوطة في بداية الأزمة راهنت على تغير الموقف الروسي ضمن صفقات اقتصادية مجزية او ضمانات للوجود الاستراتيجي الروسي في المنطقة. إلا أن المفاجآت الروسية مازالت مستمرة, لا بل أن الموقف الروسي الصلب اليوم انتقل من المسألة السورية الى ما هو أبعد اعاد صياغة شكل التحالفات الدولية في العالم, و فتح باب التحزبات الدولية على مصراعيه. ان المحافظة على تركيبة الدولة السورية اليوم هو نتيجة لسياسات مُحكمة ناتجة عن تقييمات دقيقة للوضع الدولي مازالت تقدمها روسيا و الصين لحلفائها الاستراتيجيين و خصوصاُ سوريا. فالماكينة الدبلوماسية و الاستراتيجية الروسية لم تدخر جهداً لحماية المؤسسة العسكرية السورية و ضمان عدم تفتيتها. لهذا بات واضحاً اليوم أن مجمل مؤسسات الدولة السورية تعيش حالة من الترابط العضوي مع الروس, هذا ما قد يفسر ان قرار وقف اطلاق النار جاء عبر المؤسسة العسكرية السورية, تحت باب بيان صادر عن القوات المسلحة. اذاً, الاشارات القادمة من دمشق تؤكد تفرد المؤسسة العسكرية السورية اليوم بصناعة القرار على ألأرض, الأمر الذي سيعني لاحقاً أن شكل التسوية في سوريا و خارطة المرحلة الانتقالية سيرسمها الجيش العربي السوري. قد يكون من الافضل اذاً النظر الى الواقع السوري الجديد بعيداً عن القراءات السطحية المرتبطة بالشخوص و الفئات, فما تعيشه سوريا اليوم يمكن تشخيصه على انه الاحتقان الذي يسبق الدخول في المفاوضات. لهذا بات من المتوقع أن يضع الروس جميع الاطراف امام خيارين: اما تشكيل مجلس عسكري للإشراف على خارطة الطريق الدولية و اما تفاهمات بين مجمل مكونات العملية السياسية في سوريا للبدء في رسم المرحلة الانتقالية القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق