كان هذا تحولاً مفصلياً في العلاقات الأميركية ــ السورية لم يحصل مثيل له منذ بداية الغطاء الأميركي للدخول العسكري السوري إلى لبنان. وكان من الواضح في هذا التحول الآتي من طرف واشنطن أنها تريد تدفيع دمشق، الرافضة لغزو العراق واحتلاله، أول فاتورة إقليمية كثمن للمتغيرات الجديدة الناتجة من سقوط بغداد وتحوّل الولايات المتحدة إلى «قوة إقليمية مباشرة» في المنطقة. قيل آنذاك، في العالم الشفوي للسياسة السورية، إن باول قدم ثلاثة وثلاثين مطلباً، كان من بينها ما يتعلق بالوضع الداخلي السوري، إلا أنّ ما طفا على السطح الإعلامي، وعند الرسميين الأميركيين، كان ثلاثة مطالب تتعلق بالعراق وفلسطين ولبنان ،من دون أن تصل الأمور آنذاك للمطالبة بانسحاب سوري، لكن بالتركيز على وقف تزويد حزب الله بالسلاح. (جريدة «الحياة»، 4 أيار2003).
بعد خمسة أشهر من زيارة باول لدمشق، انتقلت واشنطن إلى خطوة تصعيدية جديدة مع سوريا: موافقة مجلس النواب الأميركي على قانون «محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية»، في يوم 15 تشرين الأول 2003. كان مشروع القانون قد قدم للكونغرس بمجلسيه في الأسبوع الذي جرت فيه الغارة الإسرائيلية على منطقة عين الصاحب قرب دمشق في يوم 3 تشرين الأول، التي عُدَّت تطوراً نوعياً عسكرياً خلال تسع وعشرين سنة من عمر اتفاقية فك الاشتباك السورية ــ الإسرائيلية الموقعة في 31 أيار 1974. في تلك الأيام من خريف عام 2003، كان من الواضح عبر «قانون محاسبة سوريا» أنّ واشنطن تريد تدفيع دمشق ثمن معارضتها للأميركيين بشأن العراق المغزو والمحتل في مكان جغرافي محدد هو بلاد الأرز، وليس في النطاق الجغرافي السوري. في تلك الفترة بدأت بوادر تقارب أميركي ــ فرنسي، بعد خصومة بين باريس وواشنطن بسبب غزو العراق، كان محورها (نزع الوجود السوري من لبنان)، تتوجت بلقاء النورماندي (6-7 حزيران 2004) بين بوش وشيراك، الذي ولد به عملياً القرار 1559، قبل أن يتبناه مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004. لا يمكن تفسير المعارضة اللبنانية للوجود السوري (لقاء وليد جنبلاط مع قوى قرنة شهوان ثم اقتراب فريق الرئيس رفيق الحريري منهما في اللقاء الثالث)، من خلال قوة دفع محلية، لكن أساساً عبر رياح دولية أطلقها القرار 1559. عملياً، كانت هذه القوى اللبنانية المحلية، مدفوعة بتلك الرياح الدولية، قد استطاعت إنشاء المناخات (وخاصة في ظرف ما بعد اغتيال الرئيس الحريري) التي أجبرت السوريين على الخروج العسكري من لبنان في 26 نيسان 2005. منذ منتصف أيار، وبدفع من حسابات عند معارضين سوريين بأن «الرياح الغربية» ستمتد من بيروت إلى دمشق، جرت محاولات أدت إلى كتابة ثلاث مسودات لتحالف عريض، أثمرت في يوم 16 تشرين الأول 2005 قيام «إعلان دمشق»، في مناخات من أزمة أميركية ــ سورية كبرى، قبيل خمسة أيام من صدور (تقرير ميليس)، وهو أمر لا يمكن من دونه تفسير نقل مركب التحالف الجديد للمعارضين السوريين من «الطرح الإصلاحي» إلى «الطرح التغييري».
لم تكن واشنطن على هذا النغم السوري المعارض: قبيل ثلاثة أيام من ولادة ذلك التحالف السوري الجديد، قالت جولييت وور، مديرة الشؤون العامة في السفارة الأميركية ببيروت، الكلمات الآتية: «الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، بل إلى تغيير تصرفاته» (جريدة «السفير»، عدد الجمعة 14 تشرين الأول2005)، محددة تلك التصرفات في ثلاثة أمكنة بالتوالي: العراق، فلسطين (علاقاته مع «حماس» و«الجهاد»)، ولبنان. اصطدم «إعلان دمشق» بالحائط، إلا أنّ هذا لم يوقف القوى الفاعلة فيه عن الاستمرار في نفس النهج الذي تجسد ثانية في «إعلان بيروت - دمشق» (منشور في «السفير»، عدد 12 أيار 2006)، المكتوب في بيروت والمرسل إلى دمشق «معلباً» لتوقيعه، الذي عند مقارنته بقرار مجلس الأمن رقم1680، الصادر بعد خمسة أيام في 17 أيار إثر سعي حثيث من المندوب الأميركي جون بولتون، لا يمكن إلا أن يلفت النظر فيه تشابه مطالباته مع القرار1680بشأن العلاقات السورية ــ اللبنانية.
تبدل المشهد بين دمشق وواشنطن في ضوء نتائج حرب تموز 2006: أصبحت واشنطن لأول مرة منذ سقوط بغداد في يوم 9 نيسان 2003 بموقف دفاعي. إثر ذلك، حصل تقارب أميركي مع دمشق بالوكالة عبر باريس نيكولا ساركوزي منذ صيف 2007، وتكثفت التقاربات التركية والقطرية مع العاصمة السورية. منذ مجيء باراك أوباما إلى البيت الأبيض في الشهر الأول من عام 2009، أصبحت هذه التقاربات الأميركية مباشرة وليست بالوكالة: كانت المطالبات الثلاث التي ذكرتها (جولييت وور) هي مضمون الطلبات الأميركية من دمشق، معطوفاً عليها طلب أميركي بابتعاد العاصمة السورية عن طهران. لم تستجب السلطة السورية للطلبات الأميركية، وقد كانت دمشق بذلك مدفوعة بقوة علامات مكاسب (محور طهران – دمشق – حزب الله – حركة حماس) في محطات 14 حزيران 2007 بغزة، و7 أيار 2008 ببيروت وبنشوء حكومة لنوري المالكي في25 تشرين ثاني2010 أقرب لطهران من قربها لواشنطن، ثم حكومة لبنانية هي أقرب لطهران ودمشق بعيداً عن واشنطن منذ سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2011.
من دون ذلك لا يمكن تفسير تدويل وأقلمة الأزمة السورية ونشوء محور «موسكو – «البريكس» – طهران – بغداد – حزب الله ضد وفي مواجهة المحور «الأميركي – الأوروبي – التركي – الخليجي» على الأرض السورية التي أصبحت ميداناً مشتعلاً للصراع بين هذين المحورين، ليس على سوريا، بل عبرها، ومن خلالها، كصراع على مجمل إقليم الشرق الأوسط الذي وصفه الجنرال ديغول بأنه «قلب
العالم».
في بيروت حصلت ترجمة فورية لتبدل العلاقة الأميركية – السورية عند معارضين لبنانيين للوجود السوري في لبنان. بعد أسبوع من زيارة كولن باول لدمشق كتب سمير قصير: «في ماضٍ ليس ببعيد، كان التفكير في احتمال انتهاء الهيمنة السورية يعدّ ضرباً من الوهم. اليوم أضحى الاعتقاد أنّ هذه الهيمنة ستظل قائمة إلى ما لا نهاية وهماً بدوره. لا لأنّ باول ورايس وساترفيلد لوّحوا ويلوحون بضرورة الانسحاب السوري؛ بل لأن التأقلم الذي نصح به باول الحكم السوري، بما يعنيه من استجابة للتطلعات الأميركية، يفضي إلى تعديل جوهري في سياسته، وصولاً إلى حد تغيير النظام القائم جلده سعياً للديمومة.
وسواء غيّر النظام السوري جلده أو لم يغيّر فإن قدرته على الاحتفاظ بغنيمته اللبنانية الموروثة صارت موضع شك في ظل انقلاب استراتيجي يضيره تمدد أي قوة اقليمية خارج حدودها»
.