السؤال الذي يطرح نفسه على هذه الفصائل الآن ,وهو سؤال ملح بحق ,هل نجحت في قطف ثمرات نضالها وتضحياتها أم أنها تكتفي بمجرد العطاء دون الأخذ ؟,
إن التحدي الكبير أمام جميع الحركات المقاتلة ضد أنظمة الاحتلال والطغيان هو القدرة على استثمار جهودها وتضحياتها في تحقيق مكتسبات سياسية ملموسة .بعض الثورات في العالم نجحت في نهاية المطاف في تحقيق مكاسب سياسية من خلال إنهاء الاحتلال وإقامة حكم ديمقراطي, وبعضها الآخر ظل على ذات المنوال على مدى سنوات وعقود دون الوصول إلى الغاية التي يرجوها.لماذا ؟ وأين يكمن الخلل إذن؟
بعض الفصائل الفلسطينية التي تفتقد للرؤية السياسية ( استراتيجيا وتكتيكيا ) تعتقد انه من المحتم أن تستمر في طريقها مهما كلف الثمن وبغض النظر عن الانجازات التي يمكن أن تحققها ومبررهم في ذلك "أن عليك العمل وليس عليك إدراك النتائج "!!,وهي لا تريد أن تقترب من العمل السياسي أو البحث في جدوى العلاقات والتوازنات الإقليمية والدولية وتعتبر أن ذلك مضيعة للوقت !! وتتصور أن كل العالم ضدها وان كل ما يجري هو "نسج مؤامرات" وبالتالي رد الفعل هو أن تستمر على ذات الطريق بغض النظر عن أي حسابات أخرى. وهذه النظرة ليست صائبة في كل أحوالها ,فالعالم لا يقسم ابيض واسود ولا يعامل بمنطق التفكير المسبق بل بمنطق القدرة على إحداث التغيير واختراق الحواجز وفتح المربعات المغلقة.
انه من خلال احتكاكي بكثير من فصائل العمل الفلسطيني وجدت أن اغلبها تفتقد لتبني رؤية واضحة لتحرير فلسطين ,وتجد أنها على ذات الوسائل والآليات منذ خمسين عاما دون تغيير أو تبديل ,بل إنني أصبت بالصدمة حين سألت احد القيادات عن طبيعة العلاقة بين المقاومة والعمل السياسي وهل نجح حزبه في إحراز انجازات على المستوى الوطني خلال ثلاثين عاما فلم أجد أجوبة واضحة ,فقلت لنفسي أيمكن لهؤلاء أن يقودوا العمل الوطني ويقودوا شعبهم نحو الحرية والاستقلال .
إن مثل هذه الرؤية القاصرة تجعل من هذا الفصيل أو ذاك مجرد "مضحي" فقط لكنه عاجز عن تحويل تضحياته إلى منجزات , وتفقد قدرته على اغتنام كل العوامل والفرص القائمة لتحسين موقعه التحرري.وهذه المعضلة صبغت العديد من الحركات الثورية في العالم والتي اقتنع بعضها في نهاية المطاف إن كل عمل عسكري أو مقاوم لابد له من ثمرة سياسية .
نحن هنا نقر بأنه لا يمكن القضاء على الاحتلال بضربة قاضية بسبب الخلل في موازين القوى لكن بإمكاننا إحراز نجاحات وانجازات مرحلية ستصب في نهاية المطاف في الهدف الكلي , تحرير فلسطين .
ان تحرير فلسطين لا يلغي فكرة تحقيق انجازات مرحلية سواء على الصعيد السياسي او الحياتي المعيشي. ان عدم قدرتنا على توحيد العمل الوطني والفشل في بناء مجتمع مستقر ومتماسك (بل طغى عليه الانقسام والتعصب الحزبي ) تضع علامة استفهام كبرى حول قدرتنا على قطف ثمرات التضحيات الهائلة التي قدمت .
إن العمر الطويل لحركات المقاومة يملي عليها مراجعة حسابية دقيقة توازن فيها بين ما قدمته وبين ما أنجزته .هناك حركات فاق عمرها العقد والعقدين والثلاثة ولم تنجح للان في إجراء عملية حسابية فيما دفعت وفيما أنتجت بحجة انه لا يجب أن ننتظر مقابل ما نقدمه ,ربما لان فلسفة المراجعة الوطنية الشمولية غائبة في مجتمعنا الفلسطيني .
سمعت جيري ادامز زعيم "الشين فين " الايرلندي لدى زيارته غزة يقول "لقد حاربنا الانجليز سنوات ثم نحن الذين أرغمناهم على صنع السلام ".
وكان نيلسون مانديلا يردد مقولة "أن من يصنع الحرب يصنع السياسة ", وفي مقولة أخرى له ذكرت في احد الكتب التي نشرت سيرة حياته " سيأتي يوم ترغم أعداءك على التسليم بحقوقك لكنك بحاجة إلى اتخاذ الوسيلة الصحيحة والمناسبة ".
وفي مذكرات لونستون تشرشل "صحيح انك تحارب عدوك بالسلاح لكن من المهم أن تغلبه سياسيا لان السياسة هي حرب من نوع آخر "
من المهم أن نتذكر دوما بان من يعطي من حقه أن يأخذ ,وان من يضحي من حقه أن ينال ثمرة تضحياته .لأن هذه هي سنة الحياة , حتى لا يتحول الإنسان إلى "بنك دم " يضخ ويعطي ويقدم دون مقابل .
**الانجاز دلالة على صحة المسار
الحصول على المقابل هو إقرار بالنجاح وبصحة المسار وبإثبات القدرة على صناعة الانجاز .
النبي محمد (ص) حارب وقاتل وصمد وتعرض للأذى لكنه في نفس الوقت صنع من تضحياته وصموده نصرا وانجازا ملموسا وحقيقيا من خلال نشر الإسلام والقضاء على ظاهرة الكفر والنفاق في جزيرة العرب ثم قيام كيان إسلامي منظم أصبح له فيما بعد خليفة وجيش وحكومة ,إلى سلسة طويلة من الانجازات العريقة التي لا تعد ولا تحصى .
وخلال هذه المسيرة الطويلة لم يقف الرسول (ص) عند وسيلة واحدة بل جمع بين العديد منها ,فقد حارب وسالم , وعاهد وصالح, وفاوض وناور وعقد الاتفاقيات والمعاهدات ,وكلها في نهاية المطاف صبت في تعزيز الإسلام شرعة ومنهاجا .
ومن يقرأ سيرة الفاروق عمر وعمر المختار وصلاح الدين الأيوبي وعبد القادر الجزائري وعمر المختار وغيرهم من صناع الثورات في العالم يجد أنهم نهجوا نهجا مقاربا .
إن الفصائل الفلسطينية التي تمتلك رصيدا كبيرا (مثلما هو المليونير) بحاجة إلى وضع هذا الرصيد موضع الاستثمار الفعلي وبناء المشاريع الوطنية وتشييد البنية التحتية والتقدم إلى الأمام بقوة وشجاعة , ودونما تردد.
إن هذا الرصيد يلقي على القوى الفلسطينية مسئولية وطنية في إعادة صياغة المشروع الوطني الذي بات اليوم مهددا بسبب النزعة الفصائلية المنفردة التي غلبت على النهج الوطني الجمعي.
لا ينبغي الاتكال على نظرية "العطاء" فقط ,أو الترديد بنقل القضية إلى أجيال قادمة(هروب للأمام ), أو العمل بنظرية "إن تعمل والباقي على الله ",أو نلقي باللائمة على العالم والتمزق العربي (وان كان صحيحا) , إذ أن هذا لا يجدي في معالجة الحالة بقدر ما هو نوع من السياسة التبريرية غير المقبولة . ألا يكفي أن إسرائيل بلغت من العمر 61 عاما !! وهي لا تزال لليوم تبني المستوطنات وتغرس الجدار وتسرق الأراضي وتهود القدس وتضرب بيروت تارة وغزة تارة أخرى ..فيما نحن لا زلنا نشكو ونتذمر من ظلم المجتمع الدولي والتمزق العربي والانقسام الفلسطيني ونعيد إنتاج الاسطوانات ذاتها دون برامج وطنية ذات أبعاد عملية !!. متى يقتنع الشعب الفلسطيني بان الفصائل الفلسطينية تمثل الأمل والأفق في التحرر الوطني ..ومتى يقتنع بأنها تعمل متحدة ومتماسكة وليس فرادى وأحزابا متشاكسة ..متى يقتنع بأنها تحمل رؤية جدية وعملية وأنها تسير قدما للأمام وليس للخلف ؟!!
إن الرجل قد يكون عنده مائة ألف حجر (طوبة) ,وهي ستبقى حجارة ان ظلت على حالها لكن بإمكان الرجل الماهر ذي الخبرة أن يصنع منها قصرا او جامعة أو مستشفى أو بناء جميلا رائعا.
ان الانجازات المعنوية مثل الثبات والصبر والصمود والممانعة "انجازات معنوية قيمية لها دور عظيم في التعبئة والتجهيز لكنها لوحدها لا تكتفي بل لابد من المزج بين ما هو معنوي وما هوي تجسيدي مادي .والله تعالى لم يعد المؤمنين بالجنة في الآخرة فحسب بل أيضا في تحسين ظروف الحياة الدنيا (ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )
**تجارب ناجحة
هناك تجارب عالمية نجحت في تفادي أن يتحول الاختلاف إلى صدام بين فصائل المقاومة، بل وفي حالات معينة تم استثمار هذا الاختلاف لصالح التحرير.. فالفصائل التي تعمل سياسياً سيتحسن موقعها، عندما تستند الى قوة مسلحة على أرض الواقع، والفصائل المسلحة ستشكل حاميا وداعما لاي انجاز سياسي وطني.وهنا يحصل التكامل لا التعارض ,والتوافق لا التناقض.
"ومن ذلك الدهاء السياسي" للشين فين" ونجاحها في إظهار نفسها كحركة سياسية ونيلها لتعاطف عالمي.
"إن حُسن استخدم الجناحين العسكري والسياسي لمسألة الإستراتيجية والتكتيك، جعل من "الشين فين" يعتمد في مفاوضاته ونشاطه السياسي على وجود الجيش الجمهوري الأيرلندي . فرغم أن الجيش الجمهوري الأيرلندي متوقف عن العمليات المسلحة، فإنه لم يسلم سلاحه ولم يُحل نفسه، لأنه يُنظر إليه كضمانة لاستمرار فاعلية عمل "الشين فين" التفاوضي والسياسي، وكورقة قوية للمفاوض الأيرلندي في مواجهة الخصوم السياسيين.. ويُعتقد أن الشين فين يعتبر التخلي عن السلاح دون تحقيق اتفاقات مضمونة ونهائية بمثابة مجازفة، رغم أن الشين فين نفسه يُنكر من الناحية العلنية مثل هذا القول، ولكن هذا الإنكار يدخل في مسألة التكتيك السياسي".
ان تجربة العمل السياسي في جنوب أفريقيا أدى إلى إنهاء نظام الابرتهايد العنصري وتمكن السود من التمتع بحقوقهم ,كما ان التجربة الفيتنامية التي خاضت مقاومة شرسة نجحت في تحقيق مكاسب سياسية وكذا بعض التجارب في أمريكا للاتينية . ان العمل المقاوم هو الذي يفتح الطريق لتحقيق المكاسب السياسية لكن بشرط أن تكون الرؤية واضحة من حيث الإستراتيجية والتكتيك واستخدام الوسائل المتاحة واغتنام الفرص وخلق أجواء مساعدة مساندة للعمل المقاوم أن ينتزع حقوقه السياسية .
** الانجاز على قدر التضحية
على سبيل المثال ,هناك قضايا أصبحت بديهية منها ان حماس أصبحت "لاعبا رئيسا " ,وانه " لا يمكن تجاوزها ", وان "المجتمع الدولي أصبح على قناعة بضرورة الحوار معها "...وهذه كلها مهمة وتشكل تغيرا في سياسة المجتمع الدولي تجاه حماس لكنها لا تصل إلى مرتبة ومستوى حجم التضحيات الذي قدمته حماس من لحمها ودمها(طوال ربع قرن) والذي يخولها ان تحصد أكثر من مجرد انجازات قيمية معنوية أو مجرد فتح حوارات هنا وهناك .ان حماس لديها الكثير من المخزون والرصيد النضالي ولديها الكثير من العوامل المساعدة التي تهيئ الطريق أمامها لإحداث اختراق في المعادلة الإقليمية والدولية .حماس يجب الا تنتظر من يأتيها بل يجب ان تبادر إليه وتفتح الأبواب المغلقة وتكسر الحواجز التي ضربت حولها وذلك من خلال "دهاء "سياسي وفن إعلامي في اللعب في الملعب الدولي .
إحدى المفارقات أن حماس التي جاهدت وقدمت وضحت بقادتها ورموزها قبلت في اتفاق مكة ووثيقة الوفاق الوطني ان تفوض منظمة التحرير بقبض الثمرة السياسية مع انه من حق حماس - مع باقي فصائل العمل الوطني - ان تقطف الثمرة وتتأكد من ان تضحياتها تصب في الاتجاه الصحيح ,لا ان تجد نفسها أمام معضلة تعارض المقاومة مع السياسة !!
** قد يسأل البعض : لو افترضنا جدلا ان كلامك صحيح فما هي الوسيلة الصحيحة لترجمة ذلك ؟
بداية أقول بأنه ما دام الهدف واضحا فانه لا حجر على الوسيلة ما دامت مشروعة وتحقق مصلحة وتدفع مضرة .
ويمكن القول ان الصراعات في مختلف دول العالم تحل بإحدى هذه الطرق او بعضها مجتمعة : الحل العسكري الذي يفضي إلى نصر حاسم ,أو عمل سياسي يفضي الى تسوية سياسية ,أو الاحتكام إلى القانون للفصل في المنازعات .
من هنا مطلوب من الفصائل الفلسطينية الا تقف فقط عند حدود العمل العسكري وحده بل لابد من القناعة بان العمل السياسي لا يقل قوة وتأثيرا عن قوة السلاح فيما لو "استخدم على أصوله ".
مخطئ من يعتقد ان العمل السياسي يعني بالضرورة التنازل أو الاعتراف او المس بالثوابت ,بل على العكس ,العمل السياسي يعني أن تقف على أرضية صلبة وتنتزع حقوقك وتكسب الحلفاء والمناصرين ... يعني أن تكسب مساحة جديدة من الأرض ..يعني تقليص عمر الاحتلال ..وعموما هو ترجمة حقيقية لكل التضحيات والمقاومة . ان صناعة التاريخ غير صناعة الانجاز!!
هنا لا بد ان أشير الى أن موضوع العمل السياسي وتحقيق الانجازات يجب ان يأتي من خلال مظلة وطنية وليس من خلال رؤية فصائلية فحسب ,بمعنى وضع أسس واستراتيجيه واضحة لإدارة الصراع مع الاحتلال تتوافق فها القوى جميعا على حملها وتطبيقها .
هنا اسجل نقطة ذات أهمية ان الذين يتحاورون في القاهرة ويختلفون على "برنامج الحكومة " يجب ان يضعوا جهدهم في صياغة "برنامج الوطن "لأنه أهم بكثير من برنامج حكومة قد تتغير بين حين واخر .ان الصراع مع الاحتلال يملي على الجميع ان يخرج من شرنقة الحزبية الأحادية والبحث عن المظلة الوطنية الواسعة ثم ان نجري تقييما شموليا للمسيرة الوطنية بكل أبعادها (المقاومة والسياسة) حتى نخرج من دائرة الفصام النكد بين المقاومة والسياسة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق