* كانت المساندة العربية لفلسطين مجرد (شكل) دون جوهر حقيقي بالمقابل كان الاستعداد الصهيوني عسكرياً وسياسياً ضخماً ومؤثراً
احتفل الكيان الصهيوني بالذكرى الحادية والستين لإنشائه، (15 مايو 1948) واحتفلنا نحن بنكبتنا، وهي النكبة التي لا تزال حاضرة، وحية وطازجة، رغم مرور كل هذه السنين الطوال، وهي حية لأن أسبابها ونتائجها، لا تزال تكوى الوجوه، وتدمى القلوب، وكل عقد من السنين أو أقل يتعمد الكيان الصهيوني أن يعيد انتاج الذكرى سواء بالعدوان أو الاحتلال المباشر ولنتأمل الحروب التي شنت طيلة هذه السنوات علي بلادنا العربية: (1948 ـ 1956 ـ 1967 ـ 1973 ـ 1982 ـ 1996 ـ 2000 ـ 2006 ـ 2009) في كل هذه الحروب كانت إسرائيل هي البادئة بالعدوان تحت حجج وذرائع مختلفة، وكانت دائماً في كل ما تفعله تحاول أن تذكرنا خاصة أولئك المسكونون بداء الهزيمة النفسية امامها واؤلئك المهووسون بوهم التطبيع والسلام معها، أنها أبداً لم تكن ولن تكون دولة سلام، وأنها ستظل عدواً مهما زينوا، وادعوا، وأن الحرب مع العرب، والعدوان عليهم وتأديبهم هو منهج ثابت، بل هو جزء من بنية الدولة ووظيفتها التي أنشئت من أجلها، بهذا المعنى ورغم لحظات الفرح القليلة (حرب 1973 علي الجبهة المصرية السورية ـ وحربي 2000 و2006 علي الجبهة اللبنانية)، والانتفاضات الفلسطينية الصامدة علي الرغم من ذلك فإن مجمل أداء المشروع الصهيوني في مواجهتنا، لا يزال ينتصر، وبالمقابل لايزال العرب(الرسميون) يهزمون! لماذا؟ هذا هو السؤال لعل هذه الدراسة تجيب عليه انطلاقاً من النكبة الأساس؛ نكبة 1948؟.
* في البداية يحدثنا التاريخ أن خلاصة حرب 1948 تقول سطورها أنها بدأت منذ العام 1917 عام وعد بلفور ثم جاءت الحلقة الثانية عام 1920ـ عندما وضعت بريطانيا فلسطين تحت الحكم العسكري في نهاية يونيو 1920، ثم حولتها إلى الحكم المدني، وعينت اليهودي الصهيوني هربرت صمويل أول "مندوب سام) لها على فلسطين (1920 ـ 1925) حيث شرع في تنفيذ المشروع الصهيوني ميدانياً على الأرض. وتابع المندوبون "السامون" المسيرة نفسها، غير أن أكثرهم سوءاً ودهاءاً ونجاحاً في التنفيذ كان "آرثر واكهوب" (1931 ـ 1938) حيث وصل المشروع الصهيوني في عهده إلى درجات خطيرة، ويذكر المؤرخون أن فلسطين عاشت تحت الاحتلال البريطاني مؤامرة رهيبة، فحُرم أهل فلسطين من بناء مؤسساتهم الدستورية وحُكم أنفسهم ،ووضعوا تحت الحكم البريطاني المباشر، وأُعطي المندوبون السامون صلاحيات مطلقة. وضيقت بريطانيا على الفلسطينيين سبل العيش وكسب الرزق، وشجعت الفساد، وسعت لتعميق الانقسامات العائلية والطائفية وإشغال أبناء فلسطين ببعضهم، وفي المقابل شجعت الهجرة اليهودية، فزاد عدد اليهود من 55 ألفاً (8% من السكان) سنة 1918 إلى 650 ألفاً (31% من السكان) سنة 1948. ورغم الجهود اليهودية البريطانية المضنية للحصول على الأرض، إلا أن اليهود لم يتمكنوا من الحصول سوى على نحو 6.5% من فلسطين بحلول عام 1948 وكان معظمها إما أراضي حكومية أو أراض باعها إقطاعيون غير فلسطينيين كانوا يقيمون في لبنان وسوريا وغيرها من البلاد العربية وقد بنى اليهود على هذه الأراضي 291 مستوطنة.
وفي الوقت الذي كانت فيه السلطات البريطانية تسعى حثيثاً لنزع أسلحة الفلسطينيين، وتقتل أحياناً من يحوز سلحاً نارياً، بل وتسجن لسنوات من يملك رصاصات أو خنجراً أو سكيناً طويلاً ،فإنها غضت الطرف، بل وشجعت سراً تسليح اليهود لأنفسهم، وتشكيلهم قوات عسكرية وتدريبها، بلغ عددها مع اندلاع حرب 1948 أكثر من سبعين ألف مقاتل (64 ألف مقاتل من الهاجاناه، وخمسة آلاف من الأرجون، وألفين من الشتيرن… وغيرها)، وهو عدد يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش العربية السبعة التي شاركت في حرب 1948.
أما بالنسبة لتسلسل وقائع الحرب ومقدماتها فيحدثنا التاريخ بأنها تمت على النحو التالي:
1- صدور قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين يوم 29/11/1947 حين وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار رقم 181 الذي يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية ولقد رحب الصهاينة بمشروع التقسيم بينما شعر العرب والفلسطينيون بالإجحاف.
2- تصاعدت حدة القتال بعد قرار التقسيم، وفي بداية عام 1948 تم تشكيل جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، وبحلول يناير 1948 كانت منظمتا الأرجون وشتيرن قد لجئتا إلى استخدام السيارات المفخخة (4 يناير تفجير مركز الحكومة في يافا مما أسفر عن مقتل 26 مدني فلسطيني)، وفي مارس 1948 قام المقاتلون الفلسطينيون غير النظاميين بنسف مقر الوكالة اليهودية في القدس مما سؤدي إلى مقتل 11 يهودياً وجرح 86.
3- استشهاد عبد القادر الحسينى في القسطل يوم 8/4/1948.
4- مذبحة دير ياسين يوم 9/4/1948 والتي قتل فيها 253 فلسطيني وهجر الباقين مع تدمير البيوت والحقول الأمر الذي أصاب العديد من المدن والقرى بالرعب فسقطت تباعاً (طبريا وحيفا يوم 19/4/1948 ـ بيسان وصفد ويافا 22/4/1948ثم توالى السقوط).
5- في 12 أبريل 1948 تقر الجامعة العربية بزحف الجيوش العربية إلى فلسطين واللجنة السياسية تؤكد أن الجيوش لن تتدخل قبل انسحاب بريطانيا المزمع في 15 مايو. وكان الانتداب البريطاني على فلسطين ينتهي بنهاية يوم 14/مايو/ 1948 وفي اليوم التالي أصبح إعلان قيام دولة إسرائيل ساري المفعول ومباشرة بدأت الحرب بين الكيان الجديد والدول العربية المجاورة.
6- المعارك في فلسطين بدأت في مايو 1948 بعد الانتداب البريطاني على فلسطين وإعلان العصابات الصهيونية قيام دولة إسرائيل على المساحات الخاضعة لسيطرتها في فلسطين، وتدفقت الجيوش العربية في مصر وسوريا والعراق وإمارة شرق الأردن على فلسطين ونجحت القوات العربية في تحقيق انتصارات كبيرة، وفي السادس عشر من مايو 1948 اعترف رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان بدولة إسرائيل ودخلت أول وحدة من القوات النظامية المصرية حدود فلسطين وهاجمت هذه القوات مستعمرتي كفار داروم ونيريم الصهيونيتين في النقب، كما عبرت ثلاثة ألوية تابعة للجيش الأردني نهر الأردن إلى فلسطين، واستعادة القوات النظامية اللبنانية قريتي المالكية وقدس على الحدود اللبنانية وحررتهما من عصابات الهاجاناة الصهيونية.
7- استمرت المعارك على هذا النحو حتى تدخلت القوى الدولية وفرضت الهدنة الأولى (من 11/6 ـ 8/7/1948) ثم اشتعلت المعارك لتعقد هدنة ثانية (من 18/7 ـ 10/11/1948) ثم عاد اقتال ليستمر حتى 7/يناير/1949 موعد الهدنة الثالثة وما بين هذه الهدن كانت إسرائيل تتسلح وتتسع وتقوى والعرب يتفرقون ويتراجعون لتنتهي الحرب بتوقيع مصر لاتفاق هدنة في 24 فبراير 1949 تليها لبنان 23 مارس 1949 ثم الأردن في 3 أبريل 1949 فسوريا 20 يوليو 1949 ودائماً كانت مصر هي البادئة سواء بالحرب أو بالاستسلام وحتماً سيتبعها العرب حتى يومنا هذا وكان من نتائج هذه الحرب سهولة احتلال الصهاينة لأغلب مدن الشمال الفلسطيني مع اللد والرملة والنقب الذي كان يشكل لوحده نصف مساحة فلسطين وذلك نتيجة انكسار الجيوش العربية بعد الأشهر الستة الأولى من القتال والتي عانت فيها العصابات الصهيونية ثم استطاعت أن تستعيد زمام المبادرة وتنتصر نتيجة التفرق العربي وعدم التنسيق بين الجيوش وعدم الاستعداد الجيد للقتال وغلبة القرار السياسي على القرار العسكري وغيرها من الأسباب (الدروس) التي سنتحدث عنها لاحقاً.
* ومن النتائج المؤلمة أيضاً لهذه الحرب إجبار حوالي 800 ألف فلسطيني على الفرار والهجرة القسرية من ديارهم من أصل مليون ومائتين وتسعون ألف فلسطيني أي نحو 60% من أهل فلسطين وذلك نتيجة ارتكاب الصهاينة 34 مذبحة مروعة أثرت سلباً على روحية الصمود الفلسطيني، وكان من النتائج الخطيرة لهذه الحرب المؤلمة سقوط 78% من أراضي فلسطين في أيدي الصهاينة فضلاً عن دمار قرابة الـ 400 قرية ومدينة مع تهويدها بالكامل.
إلا أن السؤال الآن، وبعد 60 عاماً من الحرب والصمود والمقاومة وبعد 9 حروب متتالية مع هذا العدو، ما هي القراءة الجديدة للحرب في ضوء أحداث وتطورات السياسة العربية اليوم، سوف نحاول هنا أن نعيد القراءة بهدف أخذ العبر من خلال محاولة الإجابة عن سؤالين رئيسيين الأول: ما هو المشهد السياسي العربي قبل بدء الحرب مباشرة عام 1948 وما هي أوجه تشابهه مع المشهد السياسي العربي الراهن (2008)؟ والسؤال الثاني: ما هي الدروس المستفادة من حرب 1948 من المنظور المعاصر والذي نعيشه اليوم في العام 2008؟ وفي الإجابة عن هذين السؤالين قد نكتشف الحقيقة الضائعة...
* * الأمة عشية الحرب * *
يمكن إجمال العوامل التي أثرت على الموقف العسكري والاستراتيجي لحرب 1948 بوجه عام قبل بدء العمليات مباشرة، من وجهة النظر الرسمية، والتي تشكل سيناريو عاما (لمنطق الهزيمة عسكرياً) في الآتي:
1- رفض الحكام العرب لفكرة بدء العمليات الحربية في داخل فلسطين قبل يوم 15 مايو 1948، نظراً لبقاء فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني حتى ذلك التاريخ، مما يجعل تدخل أي قوات عربية قبله (من وجهة نظر الحكام) اعتداء على الدولة صاحبة الانتداب(أنظر كيف هي العمالة المبكرة للغرب والتي لا تزال حاضرة بنفس الأداء في كافة قضايانا!!).
2- إن الأسطول البريطاني كان يقوم بحراسة شواطئ فلسطين وحوض شرقي البحر الأبيض المتوسط، مما يجعل وصول إمدادات من الأفراد أو المعدات للصهاينة على نطاق واسع من قبرص وفرنسا أو إيطاليا وغيرها من دول البحر المتوسط أمراً متعذراً وفق تصور الحكام العرب وقتذاك وهو لا يزال حسن نية مفرط حكامنا يتمتعون به إزاء واشنطن ودول الغرب.
3- رأى القادة العرب الانتظار حتى تنتهي حراسة الأسطول البريطاني لحوض شرقي البحر المتوسط بمجرد انتهاء الانتداب وبدء العمليات فور انتهائه، وأن تتخذ هذه العمليات صفة خاطفة غرضها الاستيلاء على موانئ فلسطين لتعطيلها ولمنع الصهاينة من استغلالها.
4- إن القادة العرب رأوا أيضاً أن تردي الأوضاع والآراء داخل الأمم المتحدة، بعد الموافقة على تشكيل هيئة إشرافية لفلسطين في نوفمبر 1947 ،ثم اختلاف الدول العظمى وقتذاك على طريقة تنفيذ وتشكيل هذه الهيئة، يشجع على القول بأن دخول قوات عربية في فلسطين عقب انتهاء الانتداب مباشرة وقبل قيام الهيئة الدولية المزمع تشكيلها للإشراف على فلسطين لن يعتبر انتهاكاً لحرمة ميثاق هيئة الأمم المتحدة (طبعاً وفق التصور الساذج للحكام العرب وقتذاك).
5- كان من الحسابات المحتملة عسكرياً أيضاً أن عدد السكان اليهود في فلسطين في ذلك الوقت الحالي هو حوالي 700 ألف نسمة يمكن تجنيد 60 ألفاً منهم في جميع أنحاء المستعمرات الصهيونية، وكان المحقق أن لديهم 25 ألف مقاتل من الهاجاناه علاوة على جماعات إرهابية أخرى أهمها "أرجون زفاي لئومي" بين (3000) و(5000) مقاتل وعصابة "شتيرن" التي لا يتجاوز عددها بضع مئات، وتتركز معظم قوات اليهود الرئيسية حول تل أبيب والقدس وحيفا، وأن معظم أسلحة اليهود (رشاشات ـ مدافع هاون ـ سيارات مصفحة لنقل المؤن والذخائر) وكان عدد الأسلحة الثقيلة محدوداً للغاية ومستعمراتهم محاطة بالأسلاك الشائكة والألغام الأمر الذي رتب حسابات خاطئة لدى القادة العرب منها أن الصهاينة لن يقوموا بحرب نظامية بل حرب عصابات، لذا كان من المقدر لديهم أنه إذا دخلت القوات المصرية مجهزة بكميات كبيرة من الأسلحة الآلية والأسلحة المعاونة كالمدفعية ووحدات المهندسين وغيرها لتفوقت على العدو في قوة النيران، كما قدر أيضاً أن أقل تشكيل يجب أن يشترك في القتال هو مجموعة لواء مشاة مستقل متماسك حتى لا يتعرض لأخطار لا مبرر لها من حرب العصابات الصهيونية، وكان من المفترض أن يتدخل عرب فلسطين لمساندة القوات المصرية.
6- والأهم من كل هذا أنه كان من المقدر أن تتعاون الدول العربية كافة بالتدخل بقواتها النظامية في عملية تحرير فلسطين، مما استوجب التفكير في تخصيص قطاع للقوات النظامية لكل دولة منها على ضرورة تنسيق الجهود لضمان الحصول على التفوق النهائي على قوات العدو المشترك طبعاً كل هذا لم يتم وبالتالي كانت الهزيمة.
7- من الثابت تاريخياً أنه لم يكن هناك خطة عسكرية واحدة بين الجيوش العربية كافة ويكفي أن نقوم باستعراض عام لخطة كل جيش على حدة لنلاحظ الانفصال العام بين خططهم خلال حرب عام 1948.
أ. الجيش المصري: كانت خطته هي الاحتشاد على الحدود في منطقة العريش وكان هدفه هو قطاع غزة، على أن يناط بالبحرية المصرية واجب مراقبة السواحل الفلسطينية وفرض حصار عليها مع القوة الجوية المصرية (الطريف المؤلم هنا أن الحقائق تؤكد أن إجمالي قوة مصر الجوية كان يتكون من 6 طائرات مقاتلة وطائرة للاستكشاف والتصوير وخمس طائرات نقل داكوتا).
ب. الجيش الأردني: كانت خطته تقوم على تقوية فرقته المرابطة في جسر الشيخ ياسين لتأمين الدفاع عنها ويوجه قواته كالآتي: لواء مشاة وهدفه نابلس ـ لواء ميكانيكي وهدفه رام الله ـ لواء ميكانيكي في الاحتياط وهدفه منطقة خان الأحمر.
ج. الجيش العراقي: كانت مهمته أن يحتشد في المنطقة الكائنة بين أربد والحدود، وهدفه التقدم على رأس أربد ـ جسر الجامع، وتطهير المنطقة من المستعمرات اليهودية واحتلال رأس جسر عبر الأردن في منطقة جسر الجامع.
د. الجيش السوري: كان من المفترض أن يحتشد في منطقة فيق، وكان هدفه التقدم على محور الحمة ـ سمخ، وإنشاء رأس جسر عبر نهر الأردن.
هـ . الجيش اللبناني: كانت مهمته أن يحتشد في منطقة الناقورة ،وهدفه (نهاريا) وتطهير المنطقة الكائنة بين الحدود وأيضاً تدمير المستعمرات اليهودية الموجودة فيها كافة.
8- إن أي محلل استراتيجي لديه أدنى إلمام بأدبيات الحرب يدرك إذا ما تأمل الوضع العام لخطط الجيوش العربية (كما حددناها آنفاً) مضافاً إليها تردي الأوضاع السياسية العامة في المنطقة، وقبول أغلب القادة العرب وقتذاك لمنهج بيع القضية والخوف من الصدام مع قوات الانتداب البريطاني، مثل هذا المحلل سيدرك أن كل هذا سيؤدي حتماًُ إلى انتصار إسرائيل بعد الهدنة الثالثة والأخيرة يوم 7 يناير 1949.
إن ثلاثة عوامل ـ كما يروي من عاشوا القضية ـ هي التي عجلت بالنهاية الدرامية لأحداث 1948:
أ. تواطؤ بريطاني مع الصهاينة بتسليمهم بعض المناطق الاستراتيجية دون قتال.
ب. تآمر بعض الملوك العرب (الملك عبد الله ملك الأردن نموذجاً) مع القادة الصهاينة وتسليمهم بعض المناطق الاستراتيجية بالإضافة إلى عدم الالتزام وغياب التنسيق بين الجيوش العربية كنتيجة لطبيعة التآمر.
ج. تصاعد الضغوط الدبلوماسية الأمريكية والغربية من جراء القدرة الصهيونية على استثمار الوضع الدولي العام لصالحها خاصة داخل الأمم المتحدة (وهو ذات الموقف المعاصر اليوم مع خلافات شكلية بسيطة في المواقع والأسماء والخنادق!!)
* إن ما يجري هذه الأيام، سواء في مصر أو في غيرها من بلاد العرب، من هجوم وتكفير وتنفير ضد ثقافة المقاومة ولقواها المجاهدة، يستوقف المراقب ويؤلم المثقف المهموم حقا بقضايا امته وبالتوازى يستوقفه أيضاً وبعد مرور 61 عاماً علي النكبة، هذه الهرولة العربية الرسمية ناحية العدو، دونما تقدير لمصالح أو مشاعر أمة اكتوت بنار الاحتلال والاغتصاب والعدوان، إن هؤلاء الحكام وإعلامهم المجن، هم النسخة المعاصرة من حكام وأعلام النكبة، ولكن في شكل جديد أكثر عولمة وزخرفة ودجل، ولكي نبرهن على هذه النتيجة دعونا نتأمل ومن واقع وثائق حرب فلسطين وملفات العسكريين المصريين والتي أعددناها وأصدرناها قبل سنوات في كتابنا الموسوعي (وثائق حرب فلسطين ـ مكبتة مدبولي ـ القاهرة ـ 1987)، أبرز الدروس والعبر المستفادة من هذه الحرب التاريخية في مسار الصراع العربي الصهيوني؛ يمكننا بلورة هذه الدروس التي تفسر وتجيب عن السؤال المركزي الذي لا يزال حاضراً وطازجاً ومراً:
"لماذا هزمنا" في عشرة أسباب رئيسية على النحو التالي:
(1) غياب الغرض الاستراتيجي من الحرب:
لقد أدى التدخل السياسي المستمر في هذه الحرب إلى أن تسير دون غرض استراتيجي محدد، فالحكومة المصرية وقتذاك لم تبين بوضوح لرئاسة هيئة أركان حرب الجيش، في أي وقت من الأوقات، الغرض الحربي من هذه الحرب، بل كانت الأغراض المؤقتة تعطى للقيادة في الميدان تلفونياً أولاً بأول، وقد نتج عن ذلك ارتباط القائد بالأراضي التي احتلها حيث أنها أصبحت الغرض الوحيد الواضح أمامه، وتعرضت القوات العربية للاشتباك في عمليات لا لزوم لها إلا المحافظة على هذه الأراضي، كما كان الجنود يسألون دائماً عن الغرض من الحرب خصوصاً في الفترات الأخيرة من العمليات وقد كان لذلك تأثيره السلبى على الروح المعنوية والمقدرة على القتال.
(2) فقدان مبدأ الحشد العسكري والسياسي:
لم تكن للحكومات العربية عام 1948سياسة قاطعة حيال المشكلة الفلسطينية قبل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، ومع ذلك أنشئ معسكر للتدريب بالعريش في أكتوبر 1947، وكانت القوة التي تعمل به عبارة عن "كتيبة من المشاة وكتيبة مدافع ماكينة"، وعندما ظهرت بوادر تخلي الحكومة البريطانية عن انتدابها في فلسطين طلبت رئاسة الجيش (في شهر مارس 1948) عدة طلبات حتى مكنها تجهيز قوة مجموعة لواء كاملة للتدريب استعداداً للتدخل في فلسطين (15 مايو 1948) ولكن جميع هذه المطالب لم تجب في الوقت المناسب لها، بسبب عدم البت في خطة سياسية ثابتة للحكومة في ذلك الوقت.
والغريب أنه قد تقررت سياسة الحكومة المصرية ـ على سبيل المثال ـ حيال مشكلة فلسطين، أو على الأقل أخطرت رئاسة الجيش رسمياً بهذه السياسة قبل التدخل العسكري الفعلي بأربعة أيام فقط، وبذلك لم يتسع الوقت لإجراء أي حشد لقوات الجيش عدا مجموعة لواء ناقصة التسليح والتدريب، جمعت على عجل من مناطق مختلفة، ثم أمرت بدخول فلسطين.
(3) انهيار مبدأ خفة الحركة:
نتج عن قصر المدة التي جرت فيها التجهيزات أن دخلت القوات العربية المعركة دون أن يكون لديها وسائل الحملة الميكانيكية الكافية أو وحدات الاستطلاع والوحدات المدرعة الأخرى، وقد ظل هذا النقص ملموساً من أول العمليات حتى انتهائها.
نتج عما سبق عجز القوات عن تطبيق مبدأ خفة الحركة خصوصاً في المراحل الأخيرة من العمليات، وبالتالي فقدت ميزة المبادأة التي انتقلت للعدو، وأصبح الجيش يعمل على خطوط مواصلات طويلة مهددة لا تمكنه من خفة الحركة، بينما يعمل العدو على مواصلات داخلية قصية آمنة تمكنه من تطبيق هذا المبدأ على أوسع مدى ممكن.
(4) فقدان مبدأ الأمن:
فرضت "السياسة التي ينتهجها الحكام العرب على قادة القوات العربية بفلسطين التقدم السريع في أول الحرب؛ فتقدمت القوات المصرية إلى غزة ثم إلى المجدل وأسدود، وإلى الخليل وبيت لحم، ثم احتلال خط المجد إلى الخليل، ثم اضطرت القوات تنفيذاً لذلك إلى ترك عدد كبير من المستعمرات ومواقعه القوية خلف خطوط المواصلات مما كان محل تهديد دائم لهذه الخطوط، ثم فرضت السياسة أيضاً دوام احتلال هذه المناطق بأي ثمن في الوقت الذي لم تتمكن فيه من إحضار أسلحة أو عتاد جديد، وتمكن العدو فيه من زيادة قوته أضعافاً مضاعفة، وإكمال تسليحها وتدريبها تماماً ،وبذلك انقلب الأمر وأصبحت القوات المصرية مهددة تهديداً أساسياً في المناطق التي يحتلها بدلاً من أن تهدد مواقع العدو فيها، ونفس الأمر ينسحب على باقي القوات العربية مما أدى إلى فقدان تام لمبدأ الأمن الاستراتيجي، وانهيار خطط الدفاع العربية أمام هجمات حرب العصابات اليهودية وقتذاك.
(5) فقدان مبدأ الاقتصاد في القوة:
اضطرت السياسة العربية الحاكمة قادة القوات بفلسطين إلى احتلال مناطق واسعة، وكانت هذه المناطق أكبر بكثير مما يسمح به حجم القوات، وبذلك اضطر القادة الى احتلالها كلها بقوات صغيرة ذات دفاعات رقيقة متباعدة غير متماسكة ،ولم يتمكنوا في أي وقت من تجميع أي قوة لازمة لأي عملية يضطرون للقيام بها أو لاستخدامها لإيقاف هجمات العدو وتهديده لخطوط مواصلاتها.
تمكن (العدو) بناء على ذلك من جعل القوات العربية في حالة تيقظ تام واستعداد مستمر باستخدامه قوات صغيرة خفيفة الحركة للقيام بأي هجوم على النقط الضعيفة في دفاعاتها، وقد تمكن من اختراق هذه الدفاعات عندما توفرت لديه القوة اللازمة لذلك، أي أن (العدو) طبّق هذا المبدأ تماماً في حين أن القوات العربية عجزت عن تطبيقه.
(6) غياب مبدأ العمل الهجومي التعرضي:
تمكنت القوات العربية من تطبيق هذا المبدأ في الأيام الأولى من العمليات فقط، حيث كانت لديها ميزة المبادأة والتفوق في التسليح والسيادة الجوية، وبذلك أصبحت متمكنة من مهاجمة العدو وتهديد مستعمراته المتعددة وقواه المتفرقة، التي لم تكن لديه الوسائل الكافية للدفاع عنها بأجمعها.
ولكن الحال انعكست بمجرد أن أرغمت المطالب السياسية الحاكمة القوات العربية على احتلال أراض واسعة والدفاع عنها، فارتبطت القوات بالأرض واضطرت للدفاع عن مناطق كبيرة متباعدة، وانتقلت ميزة المبادأة بالعمليات إلى العدو الذي قصرت خطوط مواصلاته، فزال التهديد عن مستعمراته المنعزلة التي لم تكن لدى العرب قوات كافية لمحاصراتها أو الاستيلاء عليها.
(7) مبدأ المفاجأة:
جاء قرار الحكومات العربية بالتدخل عسكرياً في فلسطين في آخر لحظة قبل بدء التدخل فعلاً، وبذلك كانت المفاجأة لرئاسات الجيوش العربية وليست للعدو وكانت رسائل المخابرات في ذلك الوقت بالغة النقص، وظلت كذلك أثناء العمليات، ولك يكن لديها لا الوقت ولا الوسائل اللازمة لجمع المعلومات عن العدو وعن قواته وتحصيناته ومواقعه، وقد كانت قوة تحصينات العدو وأسلحته مفاجأة تامة للقاوت العربية، بل إن مواقع بعض المستعمرات كانت مجهولة للقوات.
(8) غياب مبدأ التعاون محلياً وعربياً:
تمكن القوات المصرية ـ فقط وإلى حد ما ـ من تطبيق هذا المبدأ بين أسلحتها البرية والبحرية في أغلب العمليات التي اشتركت فيها، وقد يرجع السبب في ذلك إلى أنه المبدأ الوحيد الذي لا يتأثر (في داخلية الجيش) بالعوامل السياسية.
أما التعاون بين القوات المصرية والقوات العربية الأخرى فقد كان في حكم المنعدم تقريباً، لعدم وجود قيادة موحدة تشرف على العمليات جميعها، ولعدم صفاء النية نحو الغرض المشترك.
فالقوات الجوية المصرية كانت تقدم المعاونة التي يطلبها الجيش الأردني في المراحل الأولى من العمليات دون تردد، وكذلك زحفت القوات الأرضية واحتلت (عجور وعرطوف) معاونة للأردنيين، ولكن لما جاء الدور على الجيش الأردني لتخفيف ضغط العدو على القوات المصرية بالهجوم على جبهته لم يتم تحقيق المعاونة المطلوبة.
هذا وقد كان للتدخل السياسي آثار أخرى ضارة بمسار الحرب، فقد اضطرت القوات العربية إلى قبول مواقف ومعارك كان من الأصوب تلافيها.
(9) عدم استكمال الشئون الإدارية للجيوش:
لقد أضيفت الشئون الإدارية كمبدأ مهم إلى مبادئ الحرب المعروفة وكان ذلك عقب الحرب العالمية الثانية وذلك نظراً لتأثيرها على العمليات.
وعندما بدأت حملة فلسطين في 15 مايو 1948 لم تكن الجيوش العربية مستكملة للشئون الإدارية، فعلى سبيل المثال نجد أن الوحدات كافة كانت تنقصها الحملات الميكانيكية بشكل واضح ومؤثر ولم تكن هناك وسائل كافية لنقل الوقود والمياه وكما كانت المطابخ الميدانية قليلة.
وعندما اتسعت رقعة العمليات وتعددت الوحدات زاد الضغط على طلبات الذخيرة والأدوات الدفاعية والمخازن الميدانية كافة، ولذلك ركنت القيادة العامة في مصر (على سبيل المثال) إلى عمليات الاستيلاء على المركبات المدنية لتواجه النقص الملموس في الحملات الميكانيكية وفي غيرها من الأفرع الإدارية.
(10) انهيار الروح المعنوية:
يتفق المحللون العسكريون على أن الروح المعنوية الطيبة إذا ما توافرت تعتبر من أكبر الدوافع لإحراز النصر. وقد ظهر ذلك جلياً منذ فجر التاريخ في جميع الحروب.
ولقد دخلت القوات العربية وفي مقدمتها القوات المصرية ـ على سبيل المثال ـ فلسطين، وكانت الظروف تتمشى مع وجود روح معنوية قوية، الأمر الذي كان يعوض إلى حد ما النقص في النواحي الأخرى واستمر الحال على هذا المنوال حتى فترة الهدنة الثانية.
ولما تبدلت الظروف وعمد الاستعمار الغربي (البريطاني ـ الأمريكي) إلى معاضدة الصهيونيين الذين تدفقت عليهم الأسلحة من كل مكان، تبدلت الحال وتأثرت الروح المعنوية للقوات، ولم يكن مستطاعاً السيطرة التامة على هذه الروح ولاسيما وأن الحال لم تكن لتؤهل لذلك، فكان لهذا كله الأثر البالغ في نتيجة العمليات في الفترة الأخيرة وقد صحبت ذلك كله مشاكل الأسلحة والذخائر الفاسدة وما إلى ذلك، وأدى هذا جميعه إلى التدرج النفسي في قبول الهزيمة أمام الصهاينة.
* وبعد: إن الدروس المستفادة إذن من حرب 1948 من وجهة النظر الاستراتيجية/ السياسية تدور حول (فقدان مبادئ: المحافظة على الغرض ـ فقدان الحشد العسكري والسياسي ـ خفة الحركة الاستراتيجية ـ استيعاب مفهوم الأمن ـ الاقتصاد في القوة ـ العمل الهجومي التعرضي ـ المفاجأة لإرباك العدو ـ الدعم المنظم للشئون الإدارية ـ الروح المعنوية ـ وأخيراً غياب مفهوم التعاون العربي محلياً وإقليمياً).
* ترى ما الذي تغير بين (اليوم) و(البارحة)؟
إن الباحث المحايد في أوضاع المنطقة العربية بوجه عام والأراضي الفلسطينية المحتلة بوجه خاص يرصد الآتي على مسار العمل العربي العسكري والسياسي:
(1) تفتقد الدول العربية إجمالاً ـ والمحيط منها بالكيان الصهيوني على وجه الخصوص ـ مبدأ التعاون في حده الأدنى اقتصادياً وسياسياً، ويزداد الأمر فداحة إذا ما وصلنا إلى التعاون العسكري، فالموجود منه يشكل هامشاً هلامياً دون مضمون فعلي، بل أحياناً يصل الأمر إلى حد القطيعة بين جيوش تلك الدول (أنظر حال كل من مصر وسوريا اليوم!)، وأحياناً يصل الخلاف بين الأشقاء العرب إلى حد الحرب والانقضاض علي قوى المقاومة أنظر حال مصر مع كل من حماس وحزب الله وحملات الردح الإعلامي والسياسي التي لا تتوقف، من هنا تتشابه أوضاع المنطقة العربية، ودول المواجهة للكيان الصهيوني تحديداً، ـ وإلى حد بعيد ـ مع أوضاع عام 1948، بالإضافة لتردي جديد متمثل في الاتفاقات والعلاقات الخاصة مع إسرائيل والتي أضرت العرب ولم تفدهم بدء من كامب ديفيد 1979 وحتى زيارة تننياهو القادمة لمصر في نهاية مايو 2009.
(2) وبالتبعية، فإن غياب الحد الأدنى من التعاون العربي المشترك بين المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية العربية، أدى إلى فقدان مبادئ استراتيجية بديهية في نطاق قتال العدو من قبيل (مبدأ الحشد ـ خفة الحركة الاستراتيجية ـ غياب مفهوم الأمن والاقتصاد في القوة) ويلاحظ بالنسبة للمبدأ الأخير أن الدول العربية لا تنتهج ـ على سبيل المثال ـ تنسيقاً في مسألة التسليح العسكري ،إذ نلحظ وجود دول لديها فائض عسكري هائل دون وجود بشري حقيقي بل أحياناً دون حاجة حقيقية (أنظر صفقات دول الخليج وبخاصة السعودية شبه الدورية مع أمريكا وبريطانيا كنموذج)، تقابلها دول كثيفة السكان لا تستطيع تجديد قطع الغيار العسكري ،لانعدام القدرة المالية وتقييد أقساط الديون المتفاقمة لحركتها.
(3) ولكن الملاحظ أنه على الرغم من كآبة الصور الاستراتيجية/ السياسية العربية الحالية وتشابه أغلب أجزائها مع صورة عام 1948، إلا أن جوانب مضيئة آتية من الداخل (الوطن الفلسطيني المحتل) ومن الجنوب اللبناني (حزب الله) ومن العراق المقاوم للاحتلال، طبعاً رغم التشويه المتعمد لهذه المقاومات من أعلام وسياسي الحكومات التابعة لواشنطن والمتحالفة سراً وعلانية مع تل أبيب.
* إن ثمة نصف كأس ممتلئ رغم ظلام النصف الفارغ، وهذا هو الرهان الحقيقي لأمتنا التي رغم مرور 61 عاماً على النكبة لا تزال ترفض قبول نتائجها، وتقاوم وهو الأمر الذي دفع شارون العفن في موته المؤجل ذات يوم في الانتفاضة الفلسطينية الثانية وبسبب صمود وصحوة الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الدائم عليه قال ـ وكان على صواب ـ "إن حرب 1948 لم تنته بعد" وفي تقديرنا أنها لن تنتهي إلا بنهاية هذا الكيان وخروجه من فلسطين اواستئصاله بداخلها، ولو كره المطبعون في بلادنا الذين يخشون علي( كيانهم) الإسرائيلي أكثر من خوفهم علي أمن أمتهم ووطنهم القومي، أولئك الذين سموا ذات يوم (بالمارينز العرب)، ويبدو أن هذا المصطلح من كثرة ما تأولوه ومارسوه من تطبيع حرام لم يعد دقيقاً، أو لم يعد كافياً، وصار واجباً علي كل أديب أن يبحث معنا عن مسمى جديد لهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق