عقد المؤتمر العام السادس لحركة «فتح» في الداخل استحقاق تنظيمي مؤجل في خدمة استحقاق إسرائيلي ـ أميركي ، كما قال محمود عباس مواربة ، وذلك في إطار خطاب مثّل تراجعاً عن عدد من المواقف الهامة ، تحت ضغط التنظيم أولاً ، ثم اللجنتين المركزية والتحضيرية للمؤتمر العام..!
الرئيس الفلسطيني قال في خطابه المرتجل ، ملوحاً لإسرائيل أمام عشرات الأشخاص ، «لن يعقد المؤتمر إذّا منعت إسرائيل أهل غزة والخارج من الدخول للوطن..إذا منع أي عضو من قبل إسرائيل من الحضور من غزة أو من الخارج ، لا نستطيع عقد المؤتمر»..!
هذا النص يعني أن إسرائيل معنية بتسهيل انعقاد المؤتمر العام لحركة «فتح» في الداخل ، وليس في الخارج ، وأن عقده على هذا النحو يمثل استحقاقاً إسرائيلياً ـ أميركياً.
الأمر لا يقتصر على الإستنتاج والإستقراء ، فالرئيس عبّاس يؤكد في خطابه على جملة مواقف لا يمكن أن تصب في غير هذا الإتجاه والمفهوم :
أولاً : إعلان قراره إعادة تشكيل حكومة سلام فيّاض المطلوبة إسرائيلياً وأميركياً ، وذلك خلال 48 ساعة.
ثانياً : تأكيد موقفه المعروف الذي يعتبر المقاومة الفلسطينية للإحتلال الإسرائيلي ، وبكل أشكالها ، دون قصر ذلك على المقاومة المسلحة ، عبثية مرفوضة. ويتجاوز عبّاس هنا التعبير عن الرأي ، إلى كشف ممارسات تندرج تحت هذا المفهوم ، بقوله «لن نسمح لأحد أن يعكر أمن وأمان الشعب الفلسطيني باسم المقاومة الكاذبة.. لقد ألقينا أيدينا على الكثير من هذه القضايا التي يقومون بها باسم المقاومة».
ثالثاً : محاولته الترويج في أذهان المواطنين الفلسطينيين إلى أن عمليات تفكيك واعتقال ونزع أسلحة المقاومة والمقاومين الفلسطينيين في الضفة الغربية جلبت الأمن والأمان للمواطنين..!
رابعاً : تهيئة الرأي العام الفلسطيني لاستئناف عبّاس التفاوض مع حكومة بنيامين نتنياهو بقوله أنه غير معني بإسم أو شكل أو أعضاء الحكومة الإسرائيلية ، وأن ما يهمه هو التزامها بالشرعية الدولية ، وهو ما لا تلتزم به هذه الحكومة على أية حال.
خامساً : ضربه عرض الحائط بتحذيرات فصائل المقاومة من أنها تعتبر إعادة تشكيل حكومة جديدة في رام الله برئاسة فيّاض إغلاق لملف الحوار الوطني الفلسطيني.
مغالطات عبّاس في خطاب الإثنين ، الذي ألقاه ، ليس مصادفة أن تتم في ذات اليوم الذي يلتقي فيه الرئيس المصري نتنياهو. وهي لم تقتصر على ذلك ، لكنها تجاوزته إلى الإنفراد في تفسير قرار المجلس الثوري لحركة «فتح» عقد المؤتمر العام السادس للحركة في مصر أو الأردن ، أو داخل الوطن.. ذلك أنه يفترض في حال إعتذار مصر والأردن عن استضافة المؤتمر أن لا يعود تقرير عقده في الداخل لرئيس السلطة ، وإنما للمجلس الثوري ابتداءً باعتباره صاحب القرار..التوصية ، واللجنة المركزية انتهاءً باعتبارها صاحبة الولاية بموجب النظام الأساسي للحركة ، خاصة وأنها هي التي قررت باجتماعها في عمّان برئاسة فاروق القدومي ، وذلك في تموز/يوليو 2005 تشكيل اللجنة التحضيرية ، لا عبّاس ، وبعكس ما قاله في خطابه.
وقس على ذلك جميع فقرات وعناوين الخطاب.
إلى ذلك ، فإن عبّاس يبدو أنه قد استشعر حراجة موقفه ، في ضوء توحد اللجنتين المركزية والتحضيرية ضد الموقف الذي اتخذه ، في سياق ما يبدو أنه مناورة سياسية كبرى من قبله.
يتضح ذلك من :
أولاً : تراجعه عن عقد اجتماع للتنظيم في الضفة ، وتحول الإجتماع الذي تمت الدعوة إليه ، ليشارك فيه ما يزيد عن الألف شخص ، وفقاً لقائمة صفات المدعوين ، إلى مجرد إلقاء خطاب في عشرات الأشخاص ، لا يقارب عددهم المئتي شخص ، معظمهم من العاملين في مكتب الرئاسة ، كما بدا من على شاشات التلفاز.
ثانياً : تراجعه عن قراره حل اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام ، الذي تم إعلانه في اليوم السابق ، وتجاهله الإشارة إليه في خطابه ، برغم توجيهه انتقادت للجنة.
ثالثاً : عدم تكليفه جهة أخرى غير اللجنة التحضيرية باستكمال التحضيرات ، التي قال إنها لم تكتمل لعقد المؤتمر.
لقد اضطر عبّاس إلى ذلك ، في ضوء تكاتف اللجنتين المركزية والتحضيرية ، والتفاف التنظيم من حولهما ، وهو الأمر الذي عبّرت عنه مقاطعة الإجتماع ، المتحول إلى إلقاء خطاب ، والتصفيق الباهت الذي سمع لبضع مرات ، حين كان الرئيس يصمت لبرهة ذات مغزى ، وعدم إعطاء الإذن لأحد من الحضور ليعبر عن وجهة نظره في أي من قضايا الساعة التي تناولها الخطاب.
هذا المشهد غير المريح ، كان بدهياً أن ينعكس على نفسية الرئيس ، الذي بدا قلقاً مضطرباً ومنزعجاً ومتشنجاً حين بدأ بالتحدث للحضور ، وإن عمد بعد بعض الوقت إلى إبداء ارتياحه النفسي من خلال افتعاله بعض المواقف المؤشرة إلى ذلك.
إلى ذلك ، لقد تعمد عبّاس تناول موضوع المؤتمر العام للحركة في نهاية خطابه لسببين :
الأول : أنه أراد أن يقدم لقراره بشأن زمان ومكان عقد المؤتمر ، وعدد أعضائه ، بمقدمة سياسية هدفها إعطاء بعد وطني ، تنفي عن مكان عقد المؤتمر الذي قرره صفة الإستحقاق الإسرائيلي ـ الأميركي.
الثاني: إعطاء نفسه فرصة إنهاء الخطاب ، واللقاء مع مستمعيه في حال بدرت عن أي منهم لفتة أو إيماءة معارضة ، حتى لا يظهر على شاشة التلفزة رد فعل معارض لشخص ومواقف وسياسات الرئيس ، على نحو يحقق نتائج معاكسة لما يرومه من الخطاب ، والأغاني التي تمجد شخصه ، التي بثها التلفزيون الفلسطيني فور انتهائه من مخاطبة الحضور.
الإطار الذي قدم به عبّاس لقراره عقد المؤتمر العام في الداخل ، لا يصمد أمام أية محاكمة ، وكما يلي :
أولاً : لقد ركز عبّاس على سعيه للوحدة الوطنية الفلسطينية ، بالرغم من «انقلاب حماس» على سلطته في غزة ، ولإصراره على متابعة الحوار حتى يصل إلى نهايته الناجحة ، وهذا يتعارض مع :
1- إصراره على رفض الحوار مع «حماس» لأكثر من سنة كاملة ، قبل أن تنصاع للشروط الأميركية ـ الإسرائيلية.
2- وضعه العراقيل حتى الآن ، من خلال استمرار تمسكه بالشروط الإسرائيلية ـ الأميركية لنجاح الحوار مع «حماس». 3- اشتراطه تسلم حكومته لأموال المساعدات التي يفترض أن تنفق على إعادة تعمير ما دمره العدوان الإسرائيلي على غزة ، وتولي هذه الحكومة عمليات إعادة الإعمار.
4- إعادة تشكيله لحكومة سلام فيّاض رغم إعلان وتحذير حركة «حماس» علناً ، ومراراً وتكراراً من أن إعادة تشكيل هذه الحكومة يمثل حجر عثرة في طريق الحوار الوطني ونجاحه.
ثانياً : إن قول عبّاس إن حكومة فيّاض يمكن أن تستقيل فور نجاح الحوار الوطني ، لا يمكن أن يصمد أمام الحقائق التالية :
1- تمسك عبّاس بالشروط الأميركية ـ الإسرائيلية لنجاح الحوار ، وإصرار «حماس» على رفض الإعتراف بإسرائيل.
2- إمكانية انتظار عبّاس لجولة الحوار المقبلة في القاهرة يوم السادس عشر من الشهر الحالي..أي بعد فقط خمسة أيام من خطابه ، الذي يسبق موعد زيارته المقبلة لواشنطن في التاسع والعشرين من الشهر الجاري بـ 18 يوماً.
3- إمكانية تشكيل حكومة جديدة برئاسة شخصية أخرى غير فيّاض لو كان عبّاس معنياً بتسهيل نجاح الحوار.
ثالثاً : تأكيد عبّاس عدم إدخال أي تعديل على مشروع المبادرة العربية منذ أقرت في قمة بيروت سنة 2002 ، يتناقض مع الحقائق الثلاثة التالية على أقل تقدير :
1- قوله إن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني نقل معه في زيارته الأخيرة للعاصمة الأميركية «أفكاراً مكتوبة».. يفترض أن تكون شيئاً مغايراً ومختلفاً ، أو إضافياً على ما هو منصوص عليه في المبادرة العربية.
2- قول عبّاس في خطابه إن إدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما «منفتحة وجاءت بأفكار جديدة» ، في حين أن المبادرة العربية ليست جديدة ، إذ أقرت للمرة الأولى سنة 2002 ، ما يعني أن هذه الإدارة لديها جديد يعجب عبّاس وغير عبّاس لم يتم طرحه من قبل.
3- إشادة واشنطن في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش ، باستجابة قمة الرياض سنة 2007 للتعديلات التي طلبت واشنطن وإسرائيل إدخالها على المبادرة.
لقد أصرت تلك الإدارة على رفض التجاوب مع زيارة سابقة للعاهل الأردني لواشنطن ، وللخطاب الذي ألقاه أمام مجلسي الكونغرس بانتظار الإستجابة لهذه الشروط في قمة الرياض ، وهو ما صرح به في حينه ريتشارد ميرفي خلال مناظرة مع الكاتب عبر قناة «الحرة» الأميركية ، فور انتهاء الملك من إلقاء خطابه المشار إليه.
رابعاً : تأكيد عبّاس أنه لا يطلب من «حماس» أو من أي منظمة فلسطينية الإعتراف بإسرائيل ، وقوله إن هذا مطلوب فقط من الحكومات.
هل يمكن تصور الفصل بين مواقف حزب سياسي حاكم ، ومواقف الحكومة التي يقودها..؟
هل يمكن الفصل بين صفة عبّاس كعضو قيادي في حركة «فتح» وبينه كرئيس للسلطة الفلسطينية..؟
وهل يمكن تصور أن يعترف بعض أعضاء «حماس» بإسرائيل ، دون أن تحاسبهم حركتهم حزبياً على تجاوزهم للمواقف السياسية للحركة..؟!
وإن كان الأمر كذلك ، فلم تصر أميركا وإسرائيل على عقد المؤتمر العام لحركة «فتح» كي يعلن اعترافه بإسرائيل ، عبر شطب حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الإحتلال..؟
خامساً : يبدو أن عبّاس أراد أن يهيئ بخطابه لاعترافه بـ «يهودية دولة إسرائيل» ، رغم نفيه ذلك بلغة مشددة.
علينا أن ندقق بما قاله رئيس السلطة الفلسطينية. لقد قال بالحرف الواحد «خرجوا علينا (حكومة نتنياهو) بطلب الإعتراف بالدول اليهودية. سبق أن نوقشت هذه المسألة في مؤتمر أنابوليس ، وكاد أن يتفجر. قلنا نحن نعترف بدولة إسرائيل ، وليسموا هم الدولة الإسرائيلية بالإسم الذي يشاؤون..الدولة الإسرائيلية الصهيونية العبرية..إلخ. قلنا هذا في أنابوليس ولا ندري لم يكررونه».
انتهى الإقتباس ، ليبدأ السؤال : وماذا لو أن إسرائيل أسمت نفسها بالدولة اليهودية..؟ هل يبطل اعتراف السلطة الفلسطينية بها في هذه الحالة ، أم أنه يستمر بدولة إسرائيل اليهودية..؟!
لم يتعرض عبّاس لمثل هذا الإحتمال ، بل هو طالب إسرائيل أن تسمي نفسها بما تشاء ، مبدياً استغرابه لأنها لم تفعل ذلك حتى الآن..!
بقي أن نقول أن امتناع عبّاس عن تحديد عدد أعضاء المؤتمر الحركي الذي قرر عقده في الداخل ، يهدف إلى ضمان زيادة أعداد متتالية لعضويته ، كلما تم قبول أعضاء غير مضمونين له ، من أجل أن يكون المؤتمر مطواعاً بيده ، مقرراً لكل ما هو مطلوب من الرئيس.
وأخيراً ، هل تقبل اللجنتان المركزية والتحضيرية بعقد المؤتمر في الداخل..؟
يصعب تحديد إجابة قاطعة الآن على هذا السؤال ، غير أنه يمكن لفت النظر إلى أن اللجنة التحضيرية واصلت أعمالها التحضيرية الإثنين لما يبدو أنه مؤتمر آخر غير مؤتمر عبّاس ، الذي قدم تراجعاً تكتيكياً في خطابه ، وأصر على خياره الإستراتيجي الوحيد ، بأمل أن يلتحق به الآخرون..!
رئيس تحرير صحيفة «المستقبل العربي»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق