أصبحت أزمة حركة «فتح» أزمة علنية ، تتداول أخبارها كل وسائل الإعلام. وهي تبدو في جانب منها أزمة تخص الحركة وحدها ، بينما هي في العمق أزمة سياسية تتعلق بالسلطة الفلسطينية وبخيارات الرئيس محمود عبّاس ، وهي أيضاً تبدو في جانب منها أزمة موضوعها مؤتمر «فتح» ، بينما هي أزمة موضوعها المصير الوطني الفلسطيني كله.
نبدأ من أزمة «فتح» التنظيمية ، فنجد أن الحركة تبحث منذ أشهر في ضرورة عقد مؤتمرها السادس دون أن تستطيع الوصول إلى نتيجة ، فعدد أعضاء المؤتمر مشكلة ، تبدأ من 500 عضو وتكاد لا تتوقف عند 2000 عضو. ومكان عقد المؤتمر مشكلة ، هل يكون في داخل أراضي الحكم الذاتي أم في الخارج. والوثائق التي ستقدم إلى أعضاء المؤتمر للنقاش مشكلة ، هل هي وثائق بناء السلطة والمجتمع أم وثائق حركة تحرر وطني. وإذ يختلف أعضاء وكوادر وقادة «فتح» حول كل هذه المسائل ، تتكون الكتل داخل أعضاء المؤتمر ، ثلاث أو أربع كتل على الأقل ، وتتناقض هذه الكتل معاً وصولاً إلى التشابك بالأيدي. ويتدخل القادة التاريخيون لفض الخلافات فينتهي حتى حوارهم الهاتفي بتبادل السباب والشتائم.
إنها ليست أزمة فقط ، بل هي حالة عجز عن الحوار. ويأتي العجز من القضايا المخبوءة التي لا يعترف أصحابها بها علناً ، لأن الاعتراف بها علناً يعني الصدام والاختلاف والقطيعة. وهنا يقول أحد المقربين من الرئاسة الفلسطينية ، إن ثلاث قضايا لا تريد الرئاسة الفلسطينية الوصول بها إلى نتيجة محددة : مؤتمر «فتح» لا تريد الرئاسة عقده. الحوار مع «حماس» لا تريد الرئاسة له أن يصل إلى اتفاق. الانتخابات لا تريد الرئاسة إجراءها. وهنا تجري المناورات وصولاً إلى الهدف غير المعلن. فمن أجل منع عقد المؤتمر يتم طلب عقد مهلة لاستخراج رأي الدول العربية باستضافة المؤتمر ، وبعد أسابيع يأتي الجواب العربي بالرفض ، ولا يعود هناك مجال سوى القول بضرورة عقد المؤتمر بالداخل ، فيرفض الجانب الآخر أن يعقد مؤتمر «فتح» في ظل الاحتلال. ويقولون أيضاً إن قضية الاتصالات مع العواصم العربية كانت أمراً مرتباً لكسب الوقت. وكذلك الأمر من أجل تعطيل الحوار مع «حماس» ، يتم وضعها أمام شروط تعجيزية. وقد كشف الدكتور نبيل شعث في نقاشات المؤتمر الجارية ، أنه ليس من الصائب اتهام حركة «حماس» بتعطيل الحوارات الجارية معها ، فهي قد وافقت ، حسب قوله ، على كل ما تم نقاشه ، باستثناء نقطة واحدة هي الاعتراف بإسرائيل. وعند هذا التوضيح يحتدم الخلاف الداخلي ويبدأ شك في نوايا الطرف الآخر.
لماذا هذه المناورات؟ وماذا تخفي؟
أولاً : تخفي خلافاً حول طبيعة المرحلة. وتبلور هذا الخلاف وتوضح في الوثائق التي تم إعدادها لتناقش في المؤتمر. وقد تم حتى الآن إعداد أربعة برامج سياسية ، وكلها تتوقف عند جملتين : تثبيت أو حذف جملة «مواصلة الكفاح المسلح لإنهاء الاحتلال» ، وتركيز الجهود على البناء والتنمية لأننا في مرحلة بناء السلطة الوطنية». ومجرد وجود أربعة برامج سياسية ، تم اقتراح كل واحد منها في فترة معينة ، يكشف مدى عمق الأزمة داخل الحركة ، بين التيار الذي يرى أن الثورة قد انتهت ، وانتصرت ، وحققت أهدافها ، وبين التيار الذي يرى أن الاحتلال قائم ، وأن النضال ضد الاحتلال واجب.
ثانياً : بسبب هذا الخلاف الجوهري والأساسي ، بدأ الصراع منذ الأيام الأولى حول شروط العضوية. من هو عضو الحركة في «فتح» الذي يحق له أن يشارك في انتخاب المندوبين للمؤتمر؟ فالكتلة التي تريد مواصلة مقاومة الاحتلال ، تضع شروطاً للعضوية تضمن الفوز لمؤيدي وجهة نظرها. وكذلك يفعل الطرف الآخر. وحين لا يتحقق الهدف من خلال العضوية ، تبدأ المساومات والصراعات ، فالعضوية المقلصة تتهم بأنها وسيلة لاستمرار سيطرة القيادة التاريخية على الوضع ، والعضوية الموسعة تتهم بأنها وسيلة لاستقدام قيادة جديدة شابة تبعد القيادات التاريخية وتحل محلها.
ثالثاً : في ظل الصراع السياسي الخفي ، هناك من يعتقد أن عقد المؤتمر في داخل مناطق الحكم الذاتي ، يتيح للسلطة الفلسطينية أن تسيطر على أعمال المؤتمر ، فتقر البرنامج السياسي الذي تريده (برنامج التخلي عن مقاومة الاحتلال) ، وتنتخب القيادات السياسية التي توافقها الرأي (محمد دحلان وحسين الشيخ وسواهما). أما إذا عقد المؤتمر في الخارج فإن النتائج قد تكون مغايرة سياسياً وتنظيمياً.
رابعاً : ينطوي هذا الصراع على مكان عقد المؤتمر ، على صراع من نوع آخر يمكن أن يصبح خطيراً للغاية ، وهو الصراع بين الداخل والخارج. فإذا نجحت فكرة عقد المؤتمر في داخل أراضي الحكم الذاتي ، وتحت سيطرة الاحتلال ، فإن حركة «فتح» ستصبح حركة «الداخل» ، وليست حركة الشعب الفلسطيني. وستصبح حركة «فتح» حركة تيار سياسي واحد وليست حركة تيارات متنوعة ، وهو ما ميز وجودها طوال تاريخها.
خامساً : من الواضح أن هذه الخلافات (كلها أو بعضها) قد تنتهي بالانشقاق عند انعقاد المؤتمر. فإذا انعقد المؤتمر في «الخارج» ، حيث يتوفر النقاش الحر ، قد يقود الخلاف حول البرنامج وطبيعة المرحلة ، إلى الانشقاق. وإذا انعقد المؤتمر في «الداخل» فإن أعضاء ومناضلي حركة «فتح» على امتداد مناطق اللجوء ومناطق الشتات ، لن يعتبروا أن مؤتمر «الداخل» يمثلهم ، فينشأ انشقاق على هذا الأساس. مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن حركة «فتح» تكونت تاريخياً في أماكن اللجوء ، وأن البعض يطلق عليها وصف ثورة اللاجئين.
وما تظهره هذه النقاط الخمس ، أن الأزمة داخل «فتح» ، ليست من النوع الذي يمكن مراقبته من بعيد. وليست من النوع الذي يمكن اعتباره شأناً يخص مجموعة أو كتلة ويمكن مواصلة العمل السياسي بعيداً عنها ، بل إن نتائج هذا الصراع ستؤثر على الجميع. ولذلك فإن الاهتمام بها ضروري من قبل الجميع. ويخطئ كثيراً من يختلف مع حركة «فتح» ، ثم يشعر بالسرور بسبب الأزمة التي تعيشها «فتح» الآن ، ذلك أن انشقاق حركة «فتح» سيعني غياب طرف أساسي عن ساحة النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال. وانشقاق حركة «فتح» سيعني من جانب آخر احتمال سيطرة جناح التسوية بأي ثمن ، على شؤون الحركة ، وعلى شؤون السلطة الفلسطينية ، فتنشأ سلطة فلسطينية من نوع جديد ، لا تلقى أي اعتراف وطني فلسطيني بها ، وتصبح مع الزمن سلطة منعزلة وغير مقبولة.
وبسبب عمق هذه الأزمة ، فهناك من ينصح حركة «فتح» بأن تتوقف عن البحث في عقد المؤتمر السادس. فهذا المؤتمر ينعقد بعد عشرين عاماً من المؤتمر الخامس ، وهي فترة زمنية طويلة. والمؤتمر ينعقد بعد توقيع اتفاق «أوسلو» وتجريبه على الأرض. والمؤتمر ينعقد بعد انتقال حركة «فتح» من مرحلة إدارة ثورة إلى مرحلة إدارة سلطة ومجتمع ، وكل هذه قضايا تحتاج إلى دراسة وتقييم ، وإلى إحداث تغييرات جوهرية وأساسية في بنية الحركة ونظامها الداخلي ، لتتلاءم مع التغيرات الزمنية والسياسية. وبعد التوقف عن بحث عقد المؤتمر ، يبدأ الإعداد لعقد كونفرنس (لقاء مصغر) يناقش ولا يتخذ قرارات. يحضر هذا الكونفرنس أكفأ القيادات وأقواها ، ويناقش كل ما هو مطروح ، وكل ما هو مختلَف عليه ، ومن دون ضغط زمني. ويمكن للنقاش أن يتحلى بالموضوعية والعمق لأنه ليس المطلوب اتخاذ قرارات ، بل تكوين مناخ فكري وسياسي وتنظيمي ، يلتقي حوله أعضاء الكونفرنس. وحين يتم إنجاز هذه المهمة على مدى شهر أو شهرين ، يمكن الدعوة من جديد لعقد المؤتمر ، حيث يلعب أعضاء الكونفرنس ، بعد أن درسوا وتعمقوا وتفاهموا ، دور القائد ، ودور الموجّه ، ودور الناظم لنقاشات المؤتمر ونتائجه. هذا إذا أردنا أن نجد طريقاً يخرج «فتح» من الأزمة العنيفة التي تعيشها الآن. أما إذا كان البعض مرتاحاً إلى الأزمة ، ويعتقد أنها تدفع الأمور نحو طريق مسدود ، يتيح له أن يدفع المسائل في اللحظة الحرجة نحو الهدف الخفي الذي يضمر عليه ، فإنه يستطيع مواصلة السير في نمط مناقشات اللجنة التحضيرية ، والمنتهية حتماً نحو الانشقاق.
يتداول أعضاء «فتح» تحليلاً يقول : منذ غياب الرئيس عرفات ، خسرنا الانتخابات ، وخسرنا الحكومة ، وخسرنا قطاع غزة ، وها نحن على وشك أن نخسر حركتنا التاريخية ، فأي جهة سياسية نحاسب على ضوء هذه النتائج؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق