الثلاثاء، 25 ديسمبر 2012

تقسيم سوريا: دروس الماضي وشواهد الحاضر ... مصطفى اللباد

تحاول السطور الآتية الإضاءة على أحد السيناريوهـات المحـتملة للأزمة في سوريا، وهو سيناريو التقسيم، الذي تستبـعده معـظم الكتابات والتحليلات العربية لأسباب عاطفية وليست علمية بالضرورة. لا يعني ذلك أن المقال يريد التقسيم لسوريا أو يعتبره الحل الأفضل لمأساتها، إلا أن تقليب النظر في سير المعارك والتدخلات الإقليمية والوسـاطات الدولـية ينتهي ـ للأسف ـ عـند هذا السيـناريو. وإذ تهـدف التدخلات الإقليمية إلى مواجهة الاصطفافات المعاكسة على الأرض السورية، فإن الوساطات الدولية تبتغي التحكم بميـكانيزمات الـصراع الداخلي السوري، وتوجيهه في المسار الذي يخدم مصـالح دولية كبرى. هنا لا تهتم القوى الإقليمية والدولية بالضرورة بدعـم فـريق في مواجهة آخر، وإنما تغطية مصالحها بغطاء التعاطف مع النظام «الذي يتعرض لمؤامرة كونية» (حالة روسيا والصين)، أو مع مظلومية الشعب السوري الذي يقتله نظامه (حالة الولايات المتحدة الأميركية والغرب). في سياق آلة القتل المنفلتة من عقالها على الأرض السورية، يلحق الدمار الشامل بقرى وبلدات سورية بعينها، ولكن بما يثبت خريطة جديدة لسوريا والمنطقة. وبدورها تقـوم الخـريطة الجـديدة على تقسيم الموارد الكامنة من الغاز الطبيعي في المشرق العربي وشرق المتوسط بين القوى الدولية المتنافسة، والتي يشكل الصراع في سوريا ملمحها الرئيس. ومن المعلوم أن تقسيم سوريا ـ إذا حدث ـ سيترك تداعياته المباشرة على كل من العراق ولبنان، والأخير أصبح بالفعل على خريطة الطاقة بعد اكتشاف حقول الغاز في شرق البحر المتوسط.



النفط وسايكس ـ بيكو 1916



لم تكن القوى الدولية العظمى المتنافسة في بدايات القرن العشرين، أي انكلترا وفرنسا، متعاطفة مع شعوب المشرق في مساعيها للتحرر من نير الإمبراطورية العثمانية (الرجل المريض)، خصوصاً بعد بروز حزب «الاتحاد والترقي» وسياسة التتريك التي اتبعها وما جرته من مظالم على أهل المنطقة، وإنما ركزت على مصالحها في ثروات المنطقة من النفط. ومن هنا شكلت هذه المظالم الغطاء للقوى الكبرى، في إعادة ترسيم الحدود وفقاً لمصالحها، وهكذا قسمت اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916 جغرافيا المشرق العربي بين الغريمين الانكليزي والفرنسي.

رسمت الاتفاقية حدوداً جديدة لدول تضم مناطق جغرافية لم يتوقع أحد أن تنتمي إلى بعضها في يوم من الأيام، ثم اكتشف الباحثون لاحقاً أن الأساس الموضوعي للتقسيم الجغرافي السايكس ـ بيكوي تمثل في ثروات المنطقة النفطية، مثلما كان توازن القوى الطائفي والديموغرافي داخل الدول الجديدة وما حولها، محدداً ومسانداً لهذه الخرائط. ليس صعباً الآن أن تربط اكتشاف انكلترا للنفط في الشرق الأوسط قبل فرنسا، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبين خروج لندن رابحة من قسمتها لجغرافيا المنطقة.

وقتذاك ذهب لواء الموصل إلى العراق، والقامشلي والبو كمال إلى سوريا، فيما انضمت المدن الساحلية صور وصيدا وبيروت وطرابلس إلى جبل لبنان؛ ليظهر لبنان بحدوده الحالية في عشرينيات القرن الماضي. أما العراق، الذي تفننت موظفة الاستخبارات البريطانية الآنسة دارسي في رسم خرائطه، بأنهاره وضـفافه وحـدوده مـع جارتيـه إيران وتركيا، وتخومه الداخلـية مع الشـمال والجـنوب، فقد ظهر قوياً بإمـكاناته النفـطية الكـبيرة. ولم تنس الآنسة دارسي أن تكبح مدخل العراق على الخليج العربي بالكويت الغنية بالنفط هي الأخرى، فجاءت خلقته من البداية: عملاقاً برياً وقزماً بحرياً. وحكم على لبنان من وقتها بالتوازن بين الجبل والساحل، والشمال والجنوب، وبتحجيم جارته الأكبر سوريا وإطلالتها على البحر المتوسط (وبالرغم من ذلك فما زال كثيرون في لبنان حتى اللحظة يعتبرون بلدهم نتاجاً لقرار تاريخي كان بطله الحصري البطرك الحويك).

بدورها بزغت سوريا في ذات الظرف التاريخي وهي مجسدة لكل تناقضات سايكس ـ بيكو، إذ ضمت داخل حدودها كل العرقيات والطوائف الممثلة في الشرق الأوسط. من وقتها تركت خرائط سايكس ـ بيكو أثرها الكبير على سياسة وديموغرافية المشرق العربي، وحتى كتابة السطور، فلا يمكن فهم السياسة والاجتماع السياسي في هذا المشرق دون الإحاطة بخلفياته التاريخية والسايكس بيكوية.



الغاز الطبيعي وتوازنات المنطقة 2012



تشبه اللحظة الراهنة في المشرق العربي العام 1915، أي قبل سايكس ـ بيكو بعام واحد. ولا يمـكن للتحـليل السـياسي إلا أن يربط بين فورة النزاعات الطائفية في سوريا وجوارها والحرب الإقليمية المحتدمة على أراضيها واكتشافات الغاز في شرق المتوسط مع المصالح الدولية.

تغير تعريف الأخيرة فحلت الولايات المتحدة الأمـيركية وروسـيا والصين راهناً محل انكلترا وفرنسا قبل قرن مضى. وما انفك الصراع محتدماً منذ سنوات بين واشنطن وبكين، فالأخيرة هي الطرف الدولي الوحيد الأقرب إلى منافسة الأولى. ومن المعلوم أن الـيابان التي عول عليها كثيرون في العقود الماضية لمنافسة القطب الدولي الوحيد قد خرجت فعلياً من دائرة التـنافس مع أمـيركا قبل عقد ونصف. أما الاتحاد الأوروربي الذي يصـارع البقاء واستيعاب الأعضاء الجدد فيه، فلـن يتمكـن ـ حسـب مؤشرات الاقتـصاد والدفاع ـ في المـدى المنـظور من إزاحـة واشنطـن من موقـع الـقـطب العالمـي الأوحـد. ولا تزال روسيا، بالرغم من قدراتها النووية غير المنكورة، مفتـقرة إلى القدرة الاقتصادية والتكنولوجية التي تجعلها ولو نظرياً منافساً محتملاً لواشنطن.

تتميز واشنطن على بكين بعدة أمور، منها امـتلاكها احتـياطيا كبـيرا من موارد الطاقة داخل حدودها، فضلاً عن سيطرتها على الغالبية العظمى من موارد الطاقة في العالم خارج حدودها. ويحـكم الـصين اعتبار حاجتها الدائمة إلى النفط والغاز من أجـل رفد صناعاتها المتوجهة إلى التصدير؛ إذ أن التهديد الرقم واحـداً للأمن القـومي الصيني يتمثل في مشكلة البطالة، التي لو حدث وارتفعت نسبتها لأصبحت الصين أمام خطر انقسام بين شـرق غني وغرب أفقر ومتعدد الأعراق. لذلك يشكل التصدير الأولوية الرقم واحـداً لبكـين حتى تستطيع الحفاظ على نسبة التشغيل العالية لمواطنيها، وحـتى تستطيع الصين أن تصدر بوتائر عالية؛ فهي بحاجة إلى تأمين موارد الطاقة.

يلاحظ أن الشركة الصينية التي تنقب وتحوز أنصـبة في حـقول الطاقة حول العالم ليست تابعة للقطاع الخاص الذي يقود عملية التنمية في الصين، وإنما مملوكة للدولة الصيـنية، في إشـارة إلى الأهـمية الفائقة التي توليها الصين للحصول على منـابع الطاقة. وحسب مؤشرات القوة في العالم، يتوقع أن تتجاوز الصين الولايات المتحدة الأميركية خلال عقدين من الزمان، لذلك ما يجري في المنـطقة أحد أهدافه هو منع الصين من تولي هذه المكانة، عبر منعها من الوصول إلى موارد الطاقة في المنطقة. ومثلما تطلعت شعوب المشرق للخلاص والتحرر من الهيمنة العثمانية قبل قرن مضى، يتطلع الشعب السوري اليوم إلى حريته وأمنه الذي يستباح من قبل نظامه. ومثلما غطت سايكس ـ بيكو مصالحها النفطية بمظالم شعوب المشرق تحت الدولة العثمانية فأخرجت خريطة جديدة للمنطقة تخدم مصالحها النفطية، تبدو الأحداث في سوريا الآن غطاء مناسباً لخريطة جديدة للمشرق العربي بغرض مصالح القوى العظمى في غاز شرق المتوسط.



سيناريو تقسيم المشرق العربي



تبدو الحرب الكارثية في سوريـا مقـبلة على مفـترق طرق يفتح على مروحة احـتمالات لا يمـكن استـبعاد احتمال التقسيم منها نهائيـاً؛ وفق ذلك المقتـضى يتـوقع أن يبقى للنـظام السـوري سلطة على القـسم الشـمالي من الساحل السوري هبوطاً إلى حمص (وهو ما يفسر ضـراوة القـتال في مدينة حمص وريفها) حتى تلـتقي مع البـقاع الأوسط في لبنان، وربما لاحقاً هذا الشـريط بجـنوب لبـنان أيضـاً. أما المعارضـة السـورية فيتـوقع أن تسيطر على الداخل السوري؛ وذلك القسـم الصغير من السـاحل بحـيث تخترق مديـنة طرابلـس اللـبنانية ـ على الأرجح ـ الخريطة شمالاً. وبدوره سينعكس كل ذلك التغيير الجغرافي على هيكلية غاز شرقي المتوسط، لأن الساحل هو الذي يرسم الحـدود البـحرية وليـس الداخـل. ستؤثر الأحـداث الـسورية على لبنان، مثلما ستـترك تداعياتهـا المباشـرة أيضاً على العـراق ومعادلاتـه الداخلية وتركيـبته الطـائفية والعرقية والسياسية. خرائط التقسيم المحتمل للمشرق العربي ليست مؤامرات تدبر بليل، وإنمـا تـوازنات قوى جديدة تعكس احتدام تنافس دولي على ثروات الغـاز الطبـيعي في شرق المتوسـط. وينـزل ذلك السيـناريو إلى أرض الواقـع باستـخـدام حساسيات طائفـية وتباينات جهوية، ظلت حاضرة وقائمة وكرستها الممارسات السياسية للدولة في المشرق العربي طيلة العقود الممتدة من سايكس ـ بيكو وحتى اليوم. ما أكثر الـعبر وأقل الاعتبار!



رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية ـ القاهرة



"السفير"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق