السبت، 22 ديسمبر 2012

الأسد والمعارضة في 2013: الاعتياد المتبادل ..نقولا ناصيف

في الشهر الـ21 للحرب على أرضها، تتثبّت موازين عسكرية داخل سوريا وأخرى سياسية من حولها، تجعل من المتعذّر على أيّ من طرفي النزاع توقع انتصاره، وفي الوقت نفسه إرغام الآخر على تسوية. بدّل معارضو الرئيس بشّار الأسد قواعد اللعبة مراراً، فيما يصرّ هو عليها كما هي




نقولا ناصيف

أيام قليلة وتنقضي سنة وتسعة أشهر من الأزمة السورية المرشّحة لمدّة مماثلة على الأقل، لا توحي بخاتمة قريبة حقاً. قبل أشهر، قال مسؤول سوري لشخصية لبنانية تتردّد على دمشق إن النظام لا يتوقع حلاً عام 2013، وهو سينظر إلى السنة الثانية للأزمة على أنها وقت عادي وطبيعي. في المقابل، يستعجل الائتلاف الوطني المعارض سقوط نظام الرئيس بشّار الأسد من دون أن يكون متأكداً من حصوله.



لم تعد موازين القوى هي نفسها عند اندلاع أحداث سوريا في آذار 2011: لا الرئيس السوري قويّ بالمقدار الذي كان عليه ونظامه، ولا المعارضة المسلّحة ضعيفة على نحو ما كانت عليه. وقد لا تصبح في أي حال أقوى من النظام. بعدما قيل في الطور الأول من أحداث سوريا إنها تدافع عن نفسها، أضحت رأس حربة إسقاطه.

لكن الوجه الآخر لمعادلة النزاع هذه، أن استمرار الحرب حتى هذا الوقت لا يعني بالضرورة احتمال إسقاط أحد طرفيها بالسرعة المتوخاة، ولا بالقوة الذاتية للطرف الآخر.

ببساطة، سيكون على النظام ومعارضيه، منذ السنة المقبلة، أن يعتاد أحدهما وجود الآخر الذي يكرهه، وأن يستمر اقتتالهما من دون إحراز أيّ منهما انتصاراً عسكرياً كبيراً.

على أن الحرب الدائرة في سوريا، على أبواب سنة جديدة، تعكس بضع ملاحظات:

1 ـــ لم تتوقف رحى هذه الحرب منذ 21 شهراً. لم تشهد وقفاً للنار، ولا هدنة استراح خلالها المتقاتلون بين جولة وأخرى لالتقاط الأنفاس. لم يكفّ الجيش عن تنفيذ عملياته العسكرية على مرّ هذا الوقت في المحافظات السورية الـ15، ولا قلَّ تدفق المسلحين والمقاتلين وسقوط آلاف القتلى والدمار الذي عمّ البلاد. كلا الطرفين يزداد شراسة، ويستخدم يوماً بعد آخر كل ما يملك من أسلحة. يُقال ذلك عن اللجوء إلى سلاح الجوّ والمدفعية الثقيلة، كما عن اللجوء إلى السيارات المفخخة ضد المنشآت والسكان، وقد بات في أيدي المعارضة عتاد ثقيل قادر على مطاردة الطائرات. لا خطوط تماس بين الطرفين، ولا مناطق محظورة على أيّ منهما في أي بقعة من سوريا. في الأرياف كما في المدن الكبرى، وكذلك في دمشق، على نحو جعل الحرب على امتداد سوريا كلها تقريباً. لم تكن تلك حال «حرب السنتين» اللبنانية، ثم جولات الاقتتال في عقدي الثمانينيات ومطلع التسعينيات. اختبأت الطوائف اللبنانية وراء خطوط التماس واحتمت.

2 ـــ رغم امتلاكه قوة نارية غير متكافئة مع معارضة مسلحة لا تقل عنه عنفاً وقسوة في استخدامها السلاح، يتمسّك الرئيس السوري بالخيار العسكري لحسم الصراع. ومع أن سيطرته على البلاد انحسرت كثيراً من دون أن يبدو ذلك تراجعاً تكتيكياً أو موقتاً، وخصوصاً في الأرياف البعيدة عن العاصمة، يتصرّف على أنه لا يخوض حرب استنزاف طويلة المدى.

في كل مرة تحاول فيها المعارضة فرض خطوط تماس يتدخّل الجيش لمنعها. فإذا بها تنتشر في كل مكان من دون أن تسيطر فعلاً ـــ كالجيش ـــ على رقعة تؤلمه والنظام معاً. لم تمنحها السيطرة على الأرياف النائية والفقيرة امتياز المدن الكبيرة، ولا الاستيلاء على معابر حدودية أضحت مسيبّة تماماً مع تركيا ولبنان والعراق، ولا نجحت في فرض مناطق عازلة في الداخل وعند الحدود.

بمنعه بالقوة نشوء خطوط تماس، حال الجيش دون استيلاء المعارضة المسلحة على المدن الكبرى، وأحكم ربط بعضها بالبعض الآخر، مستخدماً أعتى سلاحه لمنع قطع شرايين الاتصال. أضحى محو معرّة النعمان عن الخريطة أحد أسطع الأدلة على إبقاء طريق حلب بحماه وحمص مفتوحة.

مذ قرّر الأسد الاحتكام إلى الحلّ الأمني، قلّل قدراته في الحلّ السياسي، وأفقد نفسه صفة إدارة حوار وطني تعثّر في كل مرّة دعا فيها إلى هذا الحوار. ورغم أن المعارضة رفضت، قبل الائتلاف وبعده، الجلوس إلى طاولة حوار مع الأسد، إلا أنها لا تستطيع، بالتأكيد، ولوج تسوية سياسية من دونه. لم يعد الرئيس على رأس طاولة الحوار، بل أحد أطرافها.

3 ـــ يُميّز الحدث السوري عن الحدثين المصري والتونسي اللذين أنجزا بلا حرب داخلية، وعن الحدث الليبي الذي لجأ إلى الحسم العسكري، أن الرئيس السوري ـــ خلافاً لرؤساء الدول تلك وقد أطاحهم معارضوهم ـــ يمسك بكل مقدّرات البلاد ويضع السلطة والحكم والقرارات بين يديه وحده: الجيش والاستخبارات والمال والاقتصاد والإدارة والقضاء والمؤسسات والطوائف والأحزاب المرخّصة. لم تكن تلك حال الرئيس حسني مبارك، الذي امتلك المال والحزب الوطني، ولم يتمكّن من السيطرة على الجيش الذي أرغمه على التنحّي، ولا نظيره التونسي زين العابدين بن علي، عندما قبض على المال والاستخبارات من دون أن يتمكّن من زجّ الجيش في الصراع مع معارضيه. بدا الأسد أقوى من نظرائه هؤلاء، وأُعطي عربياً ودولياً فترة سماح لم تُمهل مبارك وبن علي، ولا خصوصاً الرئيس الليبي معمّر القذافي.

لم تشهد مصر وتونس انشقاقات في الجيش رافقت صراع الرئيس مع معارضيه، فيما خبرت ليبيا تفكّك جيش بنته عشائرها وقبائلها ثم تشتّت عليها. على طرف نقيض منها، حافظ الجيش السوري على تماسكه طوال أشهر استنزافه اليومي في حروبه مع المعارضة المسلّحة، وافتقر إلى ما اعتاده على مرّ تجربته في السلطة وتوجيه المجتمع والحياة السياسية عقوداً، وهو تجنيده مئة ألف متطوّع يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية. لم يقده ذلك إلى الانهيار والتفكّك. ببرودة ظاهرة تجاهل الرئيس السوري ألوف حالات الفرار من الجيش، ونظر بلامبالاة إلى انشقاقات عسكرية وسياسية كان يجد في تخلي أصحابها عن نظامه أفضل من بقائهم في صفوفه لئلا يبثّوا عدوى التحريض والتأليب من الداخل، ويتحوّلوا عبئاً عليه. لم يلتحق أيّ من المنشقين البارزين، عسكريين وسياسيين، بالمعارضة المسلحة، وأخرج نفسه من معادلة النزاع الداخلي إلى خارج البلاد.

بعد 21 شهراً من النزاع الدموي أثبت الأسد، وهو يواجه محاولات خلعه من السلطة بالقوة، أن نظامه ليس كرتونياً، كما أن جيشه القوي حاجة ضرورية لبقائه في الحكم. كذلك أعطى الجيش العرب والغرب أمثولة معاكسة في الوقت نفسه، هي أنه ضرورة حتمية لكل انتقال للسلطة. بات ذلك يبرّر تفهّم الغرب والأميركيين خصوصاً مغزى قوة الجيش، بإصرارهم على تنحّي الأسد من دون التسبّب بتفكك المؤسسة العسكرية.

لم ينظر الغرب والأميركيون مرة إلى الجيش السوري الحرّ على أنه نواة نظام سياسي جديد يخلف الأسد، ولا وجدوا فيه صورة جيش نظامي يرث قدرات الجيش العقائدي. لم يتلقوا بارتياح كتائب الجيش السوري الحرّ تحمل أسماءً دينية وجهادية مثيرة للقلق، تعكس واقع تكوين شلل هذا الجيش والتنظيمات المتشدّدة والسلفية التي تقبض على قيادته.

وقد تكون علاقة الأميركيين بالجيش العراقي إبّان حكم الرئيس صدّام حسين ذات دلالة. كان الجيش العراقي حينذاك توأم الجيش السوري بصفتهما جيشي الحزب الحاكم ـــ وهو حزب واحد انقسم على نفسه ـــ وجيشين عقائديين. كانا الجيشين العقائديين الوحيدين في المنطقة. قوّض الأميركيون عند احتلال العراق عام 2004 جيشه، فأدخلاه في فوضى لم يتخلّص منها حتى الآن.

4 ـــ رغم أن الأسد يعرف أنه انتهى في أي مكان آخر في العالم، ربما باستثناء روسيا وإيران، إلا أن العرب والغرب يتعاملون معه على أن لا مكان لديه في أي تسوية سياسية في المستقبل. يختلف العرب والغرب مع روسيا على بقائه في مرحلة انتقال السلطة، ويتفقان حكماً على أن التسوية المقبلة لا تحجز له مقعداً في مقدمها. بالتأكيد لن يسعه بعد اليوم، في ظلّ التسوية المحتملة، رفع صوره وصور والده الرئيس الراحل حافظ الأسد في شوارع سوريا. كذلك حال النظام. ومع أن أحداً من الدول المتورّطة في الحرب السورية لا يشكك في قدرات جيشه ومقدرته على الصمود طيلة هذا الوقت وهو يُواجه نصف العالم تقريباً ومعظم العرب وكلّ الغرب، إلا أنه لم يُمسِ جزءاً من معادلة تسوية لن تكون بالضرورة أفضل لسوريا تحت وطأة الصراع الدولي عليها. بيد أنها ستعكس حتماً موازين قوى جديدة ترتبط بمصالح البلدان الإقليمية والدولية المنخرطة في هذه الحرب.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق