هذا عنوان معروف لعدد شجاع من جريدة «السفير» في 5 آب من 1982. تذكّرت قبل أيام هذا العنوان الذي أصبح شهيراً، عندما كنت أقرأ في المجلّد النفيس عن فلسطين الذي صدر للتوّ، والذي جمع ملاحق «السفير» الثريّة عن فلسطين (لم تخدم جريدة قضيّة فلسطين كما خدمتها وتخدمها «السفير» ربما، باستثناء جريدة «المحرّر» في الستينيات والسبعينيات قبل أن تحرق قوات النظام السوري مكاتبها في بيروت).
تذكّرت ذلك اليوم جيّداً من صيف صعب في 1982. كنت في منطقة الحمراء عندما صدرت الصحيفة وقرأت ذلك العنوان في ذاك الصباح المدلهم. وأتذكّر تلك الليلة الصعبة _ التي سبقت ذلك الصباح _ جيّداً: كيف لم ننم للحظة بسبب جنون القصف العدوّ على بيروت الغربيّة (فيما كانت الأجواء الاحتفاليّة تعمّ بيروت الشرقيّة). كانت ليلة مجنونة بالفعل. وكانت «السفير» الصوت المدوّي، وخصوصاً أن تغيرات سياسة «السفير» عبر السنوات لم تصب التزامها القوي بالقضيّة الفلسطينيّة بالوهن. هذه مسألة حازمة بالنسبة إليها. لكن أذكر ردّ فعلي عندما قرأت ذلك العنوان صباح ذلك اليوم المتعب.
أذكر أنني تبرّمت وكدت أصيح بالجريدة وكاتبيها. لا، كدت أشتمها. أذكر أنني عبّرت عن موقفي أمام كل من كان أمامي ذلك اليوم. اعترضت على صدقيّة العنوان. لم أشعر بأنه كان يعبّر عن موقف بيروت بتاتاً. كنت أشعر بأن المدينة رفعت الأعلام البيض قبل أن تبدأ المعارك. عودوا إلى تأريخ تلك المرحلة من العلاقات الإسرائيليّة _ القوّاتيّة تدركوا المدى الذي كانت قد بلغته الاختراقات الإسرائيليّة في المجتمع اللبناني. وكانت القوّات اللبنانيّة واستخبارات الجيش اللبناني (بقيادة جوني عبده الذي حوّل منزله إلى بيت مضافة لأرييل شارون، والذي، وفق المراجع الإسرائيليّة، كان يحثّ العدوّ الإسرائيلي على تكثيف قصفه لبيروت الغربيّة) تنفذان أوامر العدوّ في الإرهاب والتفجير والتخريب في مختلف أنحاء بيروت والجنوب. مهّد الطرفان الطريق أمام العدوّ كي يقتحم مسخ الوطن. المسرحيّة الدمويّة لأبي عريضة في صيدا كانت نموذجاً. (وأبو عريضة، مثل كل عملاء إسرائيل في تلك الحقبة، بات حريريّ الهوى).
رفعت بيروت الأعلام البيض قبل أن يبدأ الاجتياح: ليس بمعنى أنه لم يكن هناك نَفَس مقاوم في المدينة وبين أهلها. لكن كان هناك شرخ قد تعمّق بين المقاومة الفلسطينيّة والشعب اللبناني. لم يكن هذا الشرخ وليد ساعته: كان نتيجة مقصودة وغير مقصودة لعوامل عديدة، أهمّها: 1) إن حركة «فتح» كانت أبعد ما يكون عن الانضباط، ولم يكن ياسر عرفات يكترث لعقيدة ماو تسي تونغ حول السمكة والماء، وحول الجماهير والمقاومة. على العكس، الانفلاش في حركة «فتح» ومنافسة التنظيمات العقائديّة الثوريّة بالمال النفطي أدّى إلى جلب كمية من المرتزقة (والكثير منهم كانوا من اللبنانيّين رغم الكلام العنصري اللبناني الذي ينسى جرائم اللبنانيّين في الحرب الأهليّة، وعلى مقلبي النزاع) إلى صفوف «الثورة» وحركة «فتح» و«المرابطون» و«الصاعقة» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» وغيرها من دكاكين الثورة، أفسدوا سمعة الثورة وهيّأوا الأجواء أمام الإسرائيلي كي يزرع فساداً في الأنفس. 2) كانت الدعاية الكتائبيّة، عبر الإذاعة الإسرائيليّة الناطقة بالعربيّة وعبر «صوت لبنان» التي كانت تعمل بإشراف إسرائيلي مباشر، ناجحة في تأليب قطاع كبير من الرأي العالم في بيروت الغربيّة على المقاومة الفلسطينيّة. 3) فشلت الحركة الوطنيّة اللبنانيّة في الاحتفاظ بتأييد الناس (ماذا تتوقّع من حركة كان رئيسها وليد جنبلاط وكان محمد قبّاني وسنان برّاج وعدنان زيباوي وفؤاد شبقلو وتوفيق سلطان من أبرز قادتها؟) وابتعدت عن نبض الجماهير. ونجح المؤتمر الشعبي بقيادة كمال شاتيلا آنذاك (وكان قد انتقل برشاقة الساسة في لبنان من صف النظام السوري إلى صف النظام السعودي) في تعبئة الناس بالمدينة ضد مشروع «الإدارة المدنيّة» التي كانت الحركة قد تبنّته. 4) ترهّلت المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة في لبنان وزال بريق مشروعهما بسبب ابتعاد كل من الحركتيْن عنهما. لم يعد الناس يتبيّنون حقيقة الهدف المنشود. 5) نجح عملاء العدوّ الإسرائيلي في صفوف الحركتيْن وخارجهما في افتعال اشتباكات وتفجيرات عمّقت الفجوة بين القيادة المتنفّذة في بيروت الغربيّة وبين الناس. 6) شكّلت حركة «فتح» ودكاكينها المكتظّة بالأوغاد مغناطيساً يجتذب عملاء إسرائيل من كل حدب وصوب.
المزاج الشعبي في 5 آب 1982 كان مميّزاً. أذكر أنني كنت أحدّق في وجوه مقاتلي حركة «فتح» في صيف 1982 وكم كنت أتبيّن معالم الأزمة. كان المقاتل الفتحاوي (أو أي مقاتل من أي من تنظيمات المقاومة الفلسطينيّة أو الحركة الوطنيّة اللبنانيّة) يمشي خافض الرأس والجناح. تبخّرت العنجهيّة المُتكبّرة التي رافقت صعود مقاتلي حركة «فتح» وغيرهم في سنوات الحرب. عرف المقاتلون يومها (رغم ما يُكتب عن تلك الفترة اليوم) أنهم خسروا الناس العاديّين. هناك من كان ينتظر العدوّ (في الجنوب وفي بيروت لجهلهم بطبيعة العدوّ وعنصريّته وإرهابه) ليخلّصه من «الغريب»، وكأن أوغاد السلاح لم يكونوا من اللبنانيّين أنفسهم (ألم يعترف يوسف بزّي، الكاتب في جريدة عائلة الحريري، أنه كان «أزعر» في الحرب؟). كل التحذيرات التي كانت تصل إلى أسماع ياسر عرفات عن تنامي النقمة الشعبيّة على المقاومة في بيروت الغربيّة والجنوب اللبناني، لم تكن تصيبه إلا بالحنق.
كنت تلميذاً في الجامعة الأميركيّة آنذاك، وكان رشيد الخالدي أستاذي هناك. وذات يوم، أثناء حديثي معه عن عمل أطروحتي، قلت لرشيد: أنت لديك معرفة بعرفات وتلتقي به دوريّاً وتستطيع أن تنقل له ما يُقال بين الناس. الحالة باتت خطيرة وتفيد مصلحة العدوّ. ألححت عليه أن ينقل الصورة إلى عرفات لعلّه ينقذ الوضع. وعندما لقيته بعد أسابيع سألته عن ردّ فعل عرفات. كما توقّعت، وكما توقّع رشيد: غضب عرفات وحنق وثار. لا ينفع معه الحوار ولا المصارحة.
كيف لا ينفر الناس من الثورة الفلسطينيّة في لبنان، وكان «أبو الزعيم» بين قادتها؟ «أبو الزعيم» (الذي عاد سالماً إلى رحم الاستخبارات الأردنيّة بمجرّد حصول الاجتياح الإسرائيلي في 1982 والذي _ نسي البعض _ قاد انشقاقاً هاشميّاً في صف حركة «فتح» لكن عرفات عاد وصفح عنه) كان يقطن في شارع «فردان»، وكانت أخبار أفعاله ومجونه تصل إلى مختلف أنحاء لبنان. كانت حفلاته في رأس السنة حفلات مجنونة مُستقاة من الخيال الغربي عن الشرق. وكانت له أفعال مشينة وصلت إلى مداولات اللجنة المركزيّة في حركة «فتح.» وكان هناك لقاء عاصف في اللجنة ذات يوم عن حادثة بين «أبو الزعيم» هذا (المُتطفّل على الثورة) وفتاة من بحمدون. وطال النقاش والصخب في الاجتماع. فما كان من «أبو الزعيم» إلّا أن قال، على ما وصل لي يومها: يستحقّ «عضوي» أن يُقام له تمثال؛ لأن اللجنة المركزيّة في العمود الفقري للثورة الفلسطينيّة تعقد اجتماعاً لساعات حول نشاطاته.
كانت النقمة الشعبيّة على المقاومة والحركة الوطنيّة قد وصلت إلى الحدّ الذي أنعش المراجع الإسلاميّة الرجعيّة، من أمثال صائب سلام والتجمّع الإسلامي (السنّي) وجبهة المحافظة على الجنوب (الشيعيّة). صائب سلام تحوّل بقدرة قادر (بدعم سعودي) إلى صوت بيروت الغربيّة يفاوض باسمها، فيما كان وليد جنبلاط وقادة الحركة الوطنيّة مشغولين بليالي السمر وكنز المال الليبي. صائب سلام، الذي نبذته بيروت في 1975 وأفشلت مساعيه (ومساعي الأمير سلطان والاستخبارات السعوديّة) في البروز عبر إنشاء ميليشيا «روّاد الإصلاح» (قادها تمّام سلام)، التي هزأ بها سكّان بيروت وسموها «روّاد الفضاء»، أصبح الناطق باسم بيروت بعد سنوات من التهميش والإقصاء الشعبي. باتت العائلات البيروتيّة تتقاطر إليه كي يضغط على المقاومة الفلسطينيّة لتغادر بيروت.
أخجل من الاعتراف ويؤلمني الاعتراض، لكن بيروت لم ترفض رفع الأعلام البيضاء. من غادر بيروت نحو الجنوب في ذلك الصيف شاهد القرى والمدن البيضاء في طول الطريق. كل الشراشف البيضاء كانت تغطّي السطوح، بأمر من جيش الغزو الإسرائيلي. لا ينفع الإنكار ولا تفيد المكابرة. بيروت تلك التي نبذت المقاومة في ذلك الصيف كانت مغلوبة على أمرها لكن الناس لم يكونوا يهمسون بـ«قرفهم» من الحالة. هذه هي بيروت نفسها التي عادت ونبذت أنزه تجربة في العمل السياسي (أعني تجربة سليم الحصّ) واندفعت نحو أسوأ تجربة وأكثرها فساداً (أعني تجربة رفيق الحريري وذريّته).
ليس هناك من سياسة مدن ثابتة. كم تزعجني أبواق الممانعة في لبنان عندما يكرّرون برتابة: إن طرابلس وبيروت وصيدا هي مدن المقاومة وجمال عبد الناصر والوحدة العربيّة. أقول في نفسي عندما أسمع ذلك: كان ذلك في ماضٍ سحيق. يتغيّر مزاج المدن. هناك في الجيل الجديد من لا يعرف عن عبد الناصر إلا أنه كان ضد آل سعود، وهم في صف آل سعود. مزاج الكثير في طرابلس وصيدا وبيروت أصبح مزاج الفتنة المذهبيّة وأحمد الأسير وفضل شاكر وآل الحريري. لكن العبرة أن المدن والقرى لا تستقرّ على موقف ثابت. ألم يكن مزاج معظم أهل الجنوب في 1982 مزاجاً متوافقاً مع القوّات اللبنانيّة وكان مُرحّباً بالقوّات الإسرائيليّة الغازية؟ ألم تمشِ تظاهرات في مدينة صور بقيادة داوود داوود (كنا في الصفّ المناصر للمقاومة الفلسطينيّة نسمّيه «ديفيد ديفيد») وهتفت: «الفلسطيني عدوّ الله؟». لكن مزاج المدن يتغيّر، ويتغيّر من جديد. لا تثبت مدينة على موقف. باريس هادنت الاحتلال النازي ثم عادت وهتفت للمقاومة الفرنسيّة بعد رحيل الغزاة. طرابلس هتفت لعبد الناصر في حربه مع آل سعود، وهي (بمعظمها) اليوم أداة لآل سعود. (أخبرني رضوان السيّد أن مستشاري سعد الحريري في انتخابات 2005 أشاروا عليه بضرورة الحديث عن عبد الناصر في جولاته في طرابلس، لكن سعد أبدى استغراباً وتساءل أمامهم: وما علاقة عبد الناصر بطرابلس؟ الجاهل كان على حقّ هنا، ومن دون علمه).
لم تستسلم كل بيروت عام 1982، لكن جزءاً منها كان مستسلماً عندما سلّم أمره لصائب سلام الذي كلّفه آل سعود تدبير احتضان إسلامي لبشير الجميّل، كما أن محمد مهدي شمس الدين دبّر احتضاناً شيعيّاً لبشير الجميّل وأخيه. لكن وفداً من بيروت الغربيّة برئاسة فاروق شهاب الدين ذهب إلى بكفيّا للتعزية بالمقبور بشير وفي حضور وفود إسرائيليّة وأعلن تأييده للمشروع الإسرائيلي في لبنان. إن عنوان «السفير» هو عنوان التمنّي، ولكن آن الأوان كي تعكس الصحافة الحقيقة على ما هي من دون تزيين.
لا يفيد الإنكار، لا في الصحافة اليوميّة ولا في الكتابة المتأخرة للتاريخ. إن محاولة تصوير احتضان كل لبنان للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي هي جزء من مشروع خبيث لسرقة فضل المقاومة ومقاتليها من أجل وأد المقاومة وتسليم لبنان للعدوّ الإسرائيلي. لا، إن حركة المقاومة ضد العدوّ في 1982 وحتى التسعينيات كانت حركة أقليّة (مثل معظم تجارب التاريخ في المقاومة) ولم تحظ بدعم أو إجماع شعبي، ويجب أن تستمرّ حتى لو عارضها 90 في المئة من الشعب في مسخ الوطن. عسى ألا تحترق بيروت مرّة أخرى، لكن الأعلام البيض سترتفع من جديد لدى كل فريق 14 آذار وبعض فريق 8 آذار. الحقائق بشعة أحياناً ولا تحتمل التجميل.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق