لا شك في أنّ أحداث تشرين الثاني 2012 في الأردن (والتي سمّاها الناشطون: هبّة تشرين، في استذكار واضح لسابقتها، هبة نيسان 1989) كانت غير مسبوقة في نوعها وكمّها، منذ فترة الأحكام العرفية (1957 ــ 1989). ورغم أنّ الهبّتين (نيسان 1989 وتشرين الثاني 2012) اشتعلتا بسبب رفع أسعار الوقود، إلا أنّ هبة تشرين كانت أكثر راديكالية من سابقتها لجهة الموقف من النظام الحاكم، وعلى وجه الخصوص: العائلة الهاشمية، والملك نفسه.
انتقاد الملك خط أحمر
قبل عام 2012، كان انتقاد الملك شخصياً والعائلة المالكة أمراً يقدم عليه قلة من «الشجعان جداً» تعدّ على أصابع اليد الواحدة، بل يمكن تحديد اثنين فقط ممن امتلكوا هذه الشجاعة واكتسبوا احتراماً عالياً بين الناس نتيجة لذلك: ليث شبيلات وتوجان فيصل. بدلاً من توجيه الانتقادات إلى رأس السلطة، كان أغلب المعارضين يوجهون انتقاداتهم تلميحاً، أو يستعيضون عن انتقاد الملك بانتقاد الحكومة ورئيسها، رغم أنّ الجميع في الأردن يعرفون أنّ رئيس الوزراء وطاقم الحكومة هم شخصيات تنفيذية لا تملك من أمرها شيئاً، لا ترسم الاستراتيجيات ولا تحدد السياسات، لأنّ كلّ هذه الأمور تتم صياغتها في أماكن أخرى أعلى شأناً: الديوان الملكي وجهاز المخابرات العامة.
انتقاد الملك والعائلة المالكة هو ببساطة أمر لا يجري التساهل معه في الأردن، والقانون يرتب على مرتكب هذه «الجريمة» عقوبة تراوح بين سنة وثلاث سنوات في السجن تحت مسمى مغرق في الفكاهة: إطالة اللسان! أنا لم أكن واحداً من أولئك «الشجعان جداً»، ولكن بدلاً من توجيه سهام النقد إلى الحكومة، دائماً ما استعملت في كتاباتي تعبير «السلطة السياسية» التي تشير مباشرة إلى المسؤول عن اتخاذ القرار، لا المسؤول عن تنفيذه.
كل السلطة للملك
دستورياً، تتركز جميع السلطات بلا استثناء في يد الملك، وفي الوقت ذاته، الملك محصن من أية تبعة أو مسؤولية، أي أنّه يحكم بشكل مطلق بينما هو فوق المساءلة. يشار إلى الأردن في بعض الأحيان، وخصوصاً في الغرب، إلى أنّه بلد ذو نظام «ملكي دستوري» (آخر تلك الاشارات وردت في مقابلة جون ستيوارت مع الملك عبد الله الثاني بتاريخ 25/9/2012) (1). لا يمكن وصف نظام حكم مثل الذي يرتبه الدستور في الأردن سوى أنّه نظام حكم يشبه ذاك الذي كان شائعاً في أوروبا القرون الوسطى، أي حكم بالتوكيل الإلهي. فلننظر تالياً إلى السلطات التي يعطيها الدستور الأردني لشخص الملك حتى نستطيع فهم تلك المقاربة:
1- يعيّن الملك رئيس الوزراء والوزراء ويقيلهم (المادة 35 من الدستور).
2- يصدّق الملك على القوانين ويصدرها ويأمر بوضع الانظمة اللازمة لتنفيذها (المادة 31 من الدستور).
3- يصدر الملك الأوامر بإجراء الانتخابات النيابية (المادة 34 ــ 1 من الدستور).
4- للملك أن يحل مجلس النواب (المادة 34 ــ 3 من الدستور).
5- يعيّن الملك ويقيل مجلس الأعيان (المادة 34 ــ 4 والمادة 36 من الدستور).
6- الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية (المادة 32 من الدستور).
7- الملك هو الذي يعين قضاة المحكمة الدستورية (المادة 58 ــ 1 من الدستور).
8- قضاة المحاكم النظامية والشرعية يعينون ويعزلون بإرادة ملكية (المادة 98 ــ 1 من الدستور).
ولإسباغ الحصانة على كل هذه السلطات الواسعة:
9- الملك مصون من كل تبعة ومسؤولية (المادة 30 من الدستور).
10- انتقاد الملك مجرّم بالقانون (المادة 195 من قانون العقوبات).
الملك عبد الله الثاني: ضعف في الأداء وابتعاد عن الحرس القديم
كان الملك الراحل، الملك حسين، قوياً وقادراً على تركيز جميع هذه السلطات في يديه وإدارة توازنات المشهد الداخلي بكفاءة عالياً. كان نظامه قويّاً ومتماسكاً ولا يمكن المساس به. جاء الملك عبد الله الثاني إلى السلطة في اللحظات الأخيرة، كبديل سريع عن الأمير الحسن ولي العهد في ذلك الحين (2)، دون أن يتم تحضيره على مدى زمني طويل ليكون ملكاً، ودون أن يكون متمرّساً في السياسة وإدارة البلاد، خاصة وأنّه قضى فترة طويلة من سنوات حياته (حين كان أميراً) منشغلاً في سباقات السيارات (كان بطلاً لرالي الأردن عدة مرات في الثمانينيات والتسعينيات) وقيادة القوات الخاصة (3). لذلك جاء أداؤه ضعيفاً، خصوصاً عندما أدخل «رجاله» (سنسميهم من الآن فصاعداً: الحرس الجديد) إلى النظام. أفراد الحرس الجديد لم يختلفوا كثيراً عن سابقيهم سوى في نقطة مفصلية واحدة: كانت كلتا المجموعتين (الحرس الجديد والحرس القديم) فاسدة، وكلاهما ليبرالي جديد يؤيد الخصخصة وتصفية القطاع العام (لنتذكر أنّ ما يسمى «إصلاحات» البنك وصندوق النقد الدوليين بدأت في الأردن منذ أواخر الثمانينيات (4)، وكانت هي السبب المباشر لهبة نيسان 1989 (5))، لكن ما كان ينقص تلك المجموعة المتعلمة في الغرب والمهتمة بكفاءة «البزنس» هو دعم التشكيلات الاجتماعية العميقة: العشائر. لم يكن لهذه المجموعة أي عمق اجتماعي يذكر.
لقد حافظ الحرس القديم (عندما كانوا في الحكم) على ارتباطات اجتماعية كبيرة مع عشائرهم، بل تحوّل جزء منهم إلى شيخ أو زعيم لعشيرته، ولهذا السبب كان جزء صغير من امتيازات وأموال الفساد يصل الى البنى الاجتماعية التحتية بأشكال مختلفة (وظائف بالواسطة، مقاعد وبعثات جامعية، مساعدات مالية مباشرة...الخ). كانت هذه الآلية هامة لضمان استقرار دولة رعوية (clientele state) مثل الأردن.
وبينما قوّى قانون الصوت الواحد (6) (الذي لا يزال يعمل به حتى الآن) العشائر بشكل كبير، وحوّلها من وحدة اجتماعية إلى وحدة سياسية، كان الانفكاك عن العشائر في أعلى الهرم السياسي والبيروقراطية الإدارية تضع النظام على مسار اصطدام حتمي معها. عندما أتحدث عن انفكاك النظام عن العشائر هنا، فأنا لا أعني «فلسطنة» النظام، فالعديد من أفراد الحرس الجديد هم ذوو الأصول الشرق أردنية، لكنهم ــ بحكم تنشئتهم «الغربية» الطابع ــ يفتقدون للارتباطات والتأثير العشائريين. لهذا تمت تسميتهم بـ«الديجيتال»، وهم لم يفعلوا شيئاً سوى الاستمرار في مشروع الخصخصة الذي بدأ في عهد الملك حسين وبواسطة الحرس القديم، لكن الفساد هذه المرة لم تصل قطرات منه إلى الأسفل. انتهت الرعوية المستندة إلى الفساد، بينما استمر الفساد كما هو.
الانهيار الاقتصادي العالمي وانفجار الربيع العربي
ازدادت الأمور سوءاً بالانهيار المالي العالمي. لم تعد هناك أية أموال متوفرة بالمجّان، وصار شعار «فلينقذ كل واحد نفسه» هو أساس التعاملات المالية لدرجة أنّ الاتحاد الأوروبي صار يفكر في طرد بلد مثل اليونان للحفاظ على تماسكه الاقتصادي. لم يعد هناك أية فوائض لتمويل الفساد والأنظمة الفاسدة. في الأردن: توقفت فجأة المشاريع العقارية الخليجية، وتحوّلت عمّان الى مدينة تشوّهها الحفر الكبيرة لبنايات لم تبن وأبراج توقف العمل بها فتركت واقفة على حالها غير مكتملة (7). فقد الكثير من الوظائف، وبما أنّ كل ما قد يدر دخلاً للدولة قد تمت خصخصته، أفلست الحكومة وهي تحمل ديناً عاماً يبلغ أكثر من 22 مليار دولار (8) ذهب أغلبه لتمويل الفساد. هكذا تسارعت موجة زيادة الضائب وسحب الدعم عن السلع الأساسية بما فيها المشتقات النفطية. أفقر الناس بشكل متزايد، وصار مشهد نابشي القمامة في عمّان عادياً، هذا بالإضافة الى مشهد تكوّم القمامة نفسها في مدينة طالما تباهت بأنها من أنظف المدن (9) بعد أن عجزت أمانة العاصمة عن شراء جامعات قمامة جديدة نتيجة للديون المتراكمة عليها، وهي أمانة العاصمة نفسها التي كانت تتباهى بفوائضها المالية قبل سنوات.
بينما أفلس النظام مالياً، انفجر بركان جديد: الربيع العربي. لم تكن تظاهرات الأردن لتقارن مع ما شهدته بلدان عربية أخرى مثل تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين، لماذا؟ لأنّها كانت 1- نخبوية، تتشكل من النشطاء السياسيين والحزبيين المعتادين. 2- صغيرة الحجم، باستثناء تلك التي يقيمها الاخوان المسلمون. 3- حميدة (أو «راشدة» بحسب تعبير الاسلاميين) تطالب بإصلاح النظام لا إسقاطه. 4- لا تملك هدفاً واضحاً يتفق عليه الجميع (10).
في ظل احتجاجات كهذه، استطاع النظام رفع الاسعار قليلاً قليلاً وبشكل تدريجي بقرارات متوالية لم تلق استجابة شعبية، لكن رفع الاسعار الأخير كان كبيراً إلى درجة عالية، فقد ارتفعت اسعار الوقود (بما فيها البنزين والكاز الذي يستعمل للتدفئة المنزلية) بنسب تراوحت بين 15 و54%. وارتفع ثمن جرّة الغاز المنزلي (الأساسية للطهي والتدفئة) من 6.5 دينارات (9 دولارات) إلى 10 دنانير (14 دولاراً) مرة واحدة! كل هذه الارتفاعات تؤثر مباشرة على الشرائح الأفقر اقتصادياً، وبما أنّ أسعار الكهرباء والنقل تعتمد مباشرة على أسعار الوقود، فقد أدى ارتفاع أسعار هذه الأخيرة إلى ارتفاع اوتوماتيكي في أسعار جميع السلع تقريباً. هذا أدى إلى انفجار شعبي كبير. لكنه انفجار نجح النظام في امتصاصه مرّة أخرى.
الأردن: مساحة للخواء السياسي
لعب النظام الأردني أوراقه بشكل جيّد طوال عقود حتى حوّل الأردن إلى أرض محروقة سياسياً، فتم إخضاع المعارضة «الكلاسيكية» عام 1989 من خلال إدماجها ببنية النظام من خلال «قوننتها» و«شرعنتها» واختراقها، ومن ثم تضييق الخناق عليها أكثر فأكثر بتعديل القوانين بما يضمن تقييد حركتها ونشاطها بالكامل. من جهة أخرى، عمل النظام على تفتيت البنية الاجتماعية وقسمها عمودياً بحسب الأصول (أردني / فلسطيني)، وأفقياً بحسب المنطقة والجهة والعشيرة والعائلة...الخ، هكذا صارت «النزاعات الداخلية» تتمحور حول قضايا تافهة أساسها المصالح الضيقة للمجموعات الصغيرة، وهو أمر آخر يميّز الدولة الريعية.
المعارضة «البديلة» التي طرحت نفسها على أنها أكثر راديكالية، كانت في الواقع أكثر سوءاً. فبينما أسست المعارضات الكلاسيكية نفسها على مقولات هويّاتية كبرى مثل الأممية والعروبة والإسلام، قامت المعارضة «البديلة» بتأسيس خطابها انطلاقاً من الهوية القُطرية الأردنية الانعزالية، وصارت «الوطنيّة الأردنية» هي المميّز الأساسي لقوى تدّعي أنّها «يسارية». مثل هذا الطرح جاء منسجماً تماماً مع برنامج النظام الذي عمل جاهداً على 1) «أردنة» القوى السياسية وسلخها عن عمقها الأممي/القومي/الإسلامي من جهة (وذلك من خلال الإصرار الكامل على فك ارتباط الأحزاب المحلية مع امتداداتها خارج الأردن، والعمل على حملات العلاقات العامة ذات البعد الهويّاتي مثل «الأردن أولاً» و«كلّنا الأردن» (11))، و2) تفتيت المجتمع إلى ما دون الهويّة الوطنية من جهة أخرى (من خلال قانون الصوت الواحد).
المعارضة، التي طالما اتهمها مؤيدو النظام بأنّها «فلسطينية» لتسهيل الشحن الداخلي ضدّها، سقطت في الفخ، وصارت مهووسة بإثبات «أردنيّتها» على صعيد الأصل والجذور والبرنامج بل واللهجة واللباس أيضاً! حتى الإسلاميون أنفسهم دخلوا هذه اللعبة وتصاعدت خلافاتهم الداخلية الهويّاتية إلى أن برز أخيراً تيار شبه انشقاقي يقوده ارحيل غرايبة على قاعدة أردني/فلسطيني (12). ولأنّ الهوية الأردنية (مثلها مثل أية هويّة قُطرية انعزالية أخرى مثل الهوية اللبنانية أو الفلسطينية...الخ) هي هوية مفرغة من امكاناتها الجامعة وغير قادرة على أن يؤسس عليها مشروع تحرر، فقد فقدت «المعارضة» في الأردن (ما نجم عنها من احتجاجات) أية امكانية لتحوّلها إلى حركة شاملة، وصار من السهل وصمها وتجييرها والتلاعب بها، وبالتالي احتواؤها. لقد صارت تلعب في ملعب الخصم، وبقواعده.
لماذا فشلت هبة تشرين في التحوّل إلى انتفاضة عارمة؟
1- كانت التظاهرات كبيرة من حيث الأعداد المشاركة فيها، لكنها لم تكن هائلة الحجم. بعكس التظاهرات والتحركات التي سبقتها، لم تكن هبة نيسان نخبوية الطابع، ورغم ارتفاع عدد المشاركين فيها، إلا أنّ هذا العدد لم يصل إلى الكتلة الحرجة التي تسمح باحتلال المواقع والبقاء فيها. يرجع هذا جزئياً الى الانقسام المفبرك (أردني/فلسطيني) من جهة، وإلى استحالة تحوّل «الوطنية الأردنية» إلى هوية جامعة من جهة أخرى.
2- لم تكن الهبة جادّة بما فيه الكفاية. فقد تفرّق الناس وذهبوا إلى بيوتهم في كل يوم من أيام التظاهرات دون أن يحتلوا أي ميدان أو يتمسكوا بمواقعهم بشكل دائم. يعود هذا إلى عاملين: الأول عدم الوصول الى الكتلة الحرجة الضرورية المذكورة أعلاه من حيث العدد، والثاني هو عدم اتفاقهم على هدف إسقاط النظام، وبالتالي عدم اتفاقهم على أي هدف واضح ومحدد تعمل التظاهرات على تحقيقه. قامت قطاعات كبيرة من المتظاهرين برفع شعار إسقاط النظام بالفعل، لكن كل قوى المعارضة الكلاسيكية والبديلة إضافة الى كثير من شخصيات المعارضة أعلنوا موقفاً واضحاً داعماً للنظام (أنظر النقطة التالية). لقد اتفق كل اللاعبين الأساسيين في النظام (بجناحيه القديم والجديد) والمعارضة (بشكليها الكلاسيكي والبديل) على ضرورة بقاء النظام. لا يوجد خطة بديلة، والحرس القديم قد يريدون تغييراً في رأس السلطة (13) لإحكام عودتهم القوية إلى الحكم، لكنهم لا يريدون تغيير السلطة بذاتها.
3- نفضت «المعارضة» يدها من المتظاهرين، وخانتهم، قبل وبعد هبة تشرين. فقد أعلن الاخوان المسلمون غير مرّة أنهم لا يريدون زوال النظام، وأكدوا أنّهم إصلاحيون فقط (وبالتالي فهم ضد أي خيار ثوري)، وحرصوا في كل مسيرة، شاركوا أو لم يشاركوا بها، على توضيح أن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» لا يمثلهم (14). خالد كلالدة، الأمين العام السابق لحركة اليسار الاجتماعي (أحد فصائل «المعارضة الراديكالية البديلة»)، أوضح الأمر ذاته أكثر من مرة (15). قبل الهبة بأيام، كانت الأحزاب القومية واليسارية تعلن مشاركتها في الانتخابات النيابية القادمة التي ستعقد على أساس قانون الصوت الواحد الذي طالما انتقدته، قبل أن تخجل من الهبة وتعلن «تعليق» مشاركتها، تلك الانتخابات التي حاول النظام أن تكون الورقة الأساسية لتفريغ حركة الشارع، وروّجها على أنّها المكافئ الأردني للربيع العربي (16)! وفي السياق نفسه، تحوّلت شخصيات «معارضة» إلى منابر دعاية للنظام وربيعه الانتخابي: سعود قبيلات (سجين سياسي سابق ورئيس سابق لرابطة الكتاب) كتب مقالاً يدعم فيه المشاركة في تلك الانتخابات (17). موفق محادين (أحد شخصيات «المعارضة» والرئيس الحالي لرابطة الكتّاب) ذهب إلى حد ترويج الخطاب القائل بأنّ الأمن والدولة خطوط حمراء (18)، وهو الخطاب نفسه الذي يستعمله النظام لتبرير القمع. ناهض حتّر (كمثال آخر) يعتبر نفسه شخصية من شخصيات «المعارضة»، ورغم ذلك لا يجد حرجاً في اعلان ارتباطاته بمحمد الذهبي رئيس الاستخبارات العامة حين كان على رأس عمله (هو مدان بقضايا فساد حالياً)، وترويجه كشخصية وطنية في مقال نشر في صحيفة «الأخبار» اللبنانية (19)، وهو أيضاً المنظّر الأول لـ«الوطنية الأردنية» الانعزالية، ومعروف بعدائه للمواطنين الأردنيين من أصول فلسطينية (20) لذلك فليس غريباً أن يروّج هو أيضاً وبقوّة للمشاركة في الانتخابات، بل ودعا مجموعات الحراك الشعبي إلى فرز مرشحين فيها (21)!
4- الانقسام حول الانتفاضة السورية، وهو انقسام كبير في الأردن، انعكس على الحركات الاحتجاجية الداخلية ومجموعات المعارضة المختلفة التي فقدت الثقة ببعضها البعض، إضافة إلى أن مؤيدي النظام السوري (مثل الأحزاب القومية و«اليسارية»، ومجموعة من شخصيات المعارضة مثل الثلاثة المذكورين أعلاه) أعادوا انتاج مقولاتهم حول الدولة القطرية التي تحوّلت عندهم إلى ضمانة في مواجهة الفوضى بعد أن كانت (وأنظمتها) عقبة أمام مشروع التحرر، وسحبوا دعمهم السابق للانتفاضات التونسية والمصرية وغيرها (باستثناء البحرينية طبعاً!) بعد انفجار الانتفاضة السورية، وتم سحب هذا الخطاب وتطبيقاته على الأردن، فكانت هذه القوى (بالإضافة إلى خصمها اللدود حالياً: الاخوان المسلمون، وهو لقاء غريب للمصالح) عامل دفع ضد تحوّل الهبة الى انتفاضة كاملة، خصوصاً أن هؤلاء يرون في «استقرار» الأردن عاملاً داعماً لنظام الأسد.
5- العوامل الخارجية: تعرّف الأردن تقليدياً بأنها دولة عازلة (22)، تعزل «إسرائيل» (الحليف الأكثر قيمة للغرب في المنطقة) عن محيطها العربي «المعادي». مع صعود إيران كقوة إقليمية، أخذت وظيفة العزل هذه بعداً إضافياً: صار الأردن الآن «درعاً» يحمي دول الخليج «السنية» من «الهلال الشيعي» المار من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان. فلنتذكر أنّ الملك عبد الله الثاني بن الحسين هو من صاغ تلك العبارة (23). لقد حافظ الأردن على استقراره وسط منطقة متفجرة بشكل شبه دائم، هذا ليس مجرّد صدفة، فوظيفة الأردن العازلة مهمة لكل من «إسرائيل» والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، والآن: دول الخليج. ويضمن هؤلاء اللاعبون الكبار (من خلال خليط من المساعدات المالية والمقاربات الأمنية) ألا تخرج الأمور عن السيطرة في الأردن: آخر الأمثلة كانت دعوة البحرين دول الخليج إلى مساعدة الأردن في محنته (24)، فدول الخليج لن تتحمّل سقوط نظام ملكي بواسطة انتفاضة شعبية، لأن ذلك يمثل تهديداً مباشراً لأنظمتها وإلهاماً لشعوبها. لهذا عرض مجلس التعاون الخليجي عضويته على النظامين الملكيين الوحيدين الموجودين خارجه: الأردن والمغرب (25).
خطوة إلى الأمام رغم الفشل
حققت هبة تشرين 2012 انجازين ايجابيين. الأول: كسر حاجز الخوف من انتقاد الملك والعائلة المالكة، فكانت الهتافات في التظاهرات ذات سقف غير مسبوق منذ عام 1989، وتناولت الملك نفسه والعائلة المالكة والنظام. بل إن بعضها ذهب أبعد من ذلك: المطالبة بجمهورية في الأردن (26). والثاني: تحفيز قطاعات جديدة من الناس على النزول الى الشارع والتظاهر.
حتى الآن، نجح النظام في امتصاص الاحتجاجات وتفتيتها، وبرز بشكل رئيسي نجاح الحرس القديم في العودة الى دفة الحكم من خلال ارتباطاتهم القوية بالبنى الاجتماعية والحركات الاحتجاجية وشخصيات المعارضة. لقد نجح الحرس القديم في تصفية الحرس الجديد، وتقديم الكثير منهم ككبوش فداء في محاكمات الفساد، بينما حصنوا أنفسهم ضد أي ادعاء او اتهام ضدهم بالفساد.
أي أمل مستقبلي؟ لا يوجد. الأردن يشبه لبنان، مصمم سلفاً ليكون مفرغاً من أي امكانات تحررية. أي حراك يهدف الى تحرر الأردن عليه أن يبني استراتيجيته على أرضية ما فوق قطرية تشمل (على الأقل) فلسطين وسوريا، وربما الخليج والعراق أيضاً. أي منظور محلّي الطابع سيكون محصوراً وقابلاً للتلاعب به. هبة تشرين 2012 هي الدليل الأخير من سلسلة طويلة من الدلائل حول هذا الأمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق