تقدم ايران للاردن المختنق اقتصادياً ومالياً عرضاً كبيراً ومغرياً وهو توفير النفط مجاناً للشعب الاردني لمدة ثلاثين عاماً قادمة. الفاتورة الاردنية لاستهلاك النفط والتي تبلغ 2,5 مليار دولار سنوياً هي احد اهم جوانب العجز في الميزانية، والدعم الحكومي لأسعار المحروقات كان ولا يزال احد اكبر جوانب الاستنزاف في ميزانيات الحكومات المتتالية، كما كان تخفيض ذلك الدعم يشكل احد اهم اسباب الهبات الشعبية والانتفاضات ضد الحكم. في زمن الربيع العربي صمد النظام في الاردن واستوعب الكثير من الحراك الشعبي الذي بقي سقفه والى امد قريب محدوداً بالمطالبات بـ"اصلاح النظام". ولم يتم الانتقال الى المطالبة بـ"اسقاط النظام" الا عندما اضطرت الحكومة الى إلغاء الدعم للمحروقات والتي تمس الشرائح العظمى وخاصة شريحة ذوي الدخل المحدود وهي الاعرض في المملكة. معنى ذلك ان كل عواصف الربيع العربي لم تستطع ان تهدد الوضع القائم في الاردن، لكن المحروقات وحدها رفعت سقف ذلك التهديد (والحريق!) الى درجة غير اعتيادية.
على مدار السنتين الماضيتين او اكثر كان جيران الاردن يراقبون مد وجزر الربيع العربي في المدن الاردنية. صحيح ان الاردنيين يتشاركون مع بقية شعوب الربيع العربي في المطالبة بمحاربة الفساد المستشري، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز الديمقراطية، وانجاز اصلاحات حقيقية في النظام السياسي، بيد ان فتيل التدهور الحقيقي يكمن كما يبدو في الفاتورة النفطية وتوابعها. والنظام الآن يقف على مفترق طرق حقيقي لاسيما ان لا حلول سحرية في الافق، بما ينبئ بسيناريوهات مظلمة. بكلمة واحدة بقاء النظام واستمراره على المحك الآن.
وعلى مدار السنتين الماضيتين او اكثر وجيران الاردن، وخاصة في دول الخليج، لم يقوموا بما كان يؤمل منهم لدعم الاردن وشعبه والحفاظ على استقراره، والذي يتوافق الجميع على اهميته ومركزيته. والآن وبعد كل ذلك الانتظار تأتي ايران وحدها لتقدم للاردن طوق النجاة من خلال العرض المغري الكبير. لا يحتاج المرء الى كثير ذكاء وتحليل ليدرك ان العرض الايراني ليس "هبة خيرية" بريئة من المطامح والاهداف السياسية. ايران لا تتوقف عن توسيع نطاق نفوذها الاقليمي، وهي التي ترى ان ذلك النفوذ قد يتهدد في سورية ما بعد الثورة تريد ان تجد لها موطئ قدم بديلاً. ايران الموجودة في العراق، وسورية، واليمن، ولبنان بشكل مباشر، وتتواجد بشكل غير مباشر عن طريق دعم بعض الجهات في البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية، تريد الآن اضافة الاردن الى مناطق نفوذها الاقليمي. العرض الايراني يقول، ان كل ما تريده طهران "في المقابل" هو فتح بوابات "السياحة الدينية" امام الايرانيين لزيارة مقامات الصحابة في الاردن. طبعاً من السذاجة بمكان ان يقتنع المرء بأن ايران تريد انفاق كل تلك المليارات على الاردن، وتقديم منحة سنوية تساوي المنحة السنوية الاميركية لمصر، من اجل ان يُتاح للايرانيين زيارة قبور الصحابة في الارض الاردنية. وتدرك ايران ايضاً ان عرضها هذا مكشوف النوايا والغايات وان الاردنيين، على الصعيد الرسمي والشعبي، يعرفون ان اذرع ايران الاقليمية تمتد الآن إليهم. ورغم ذلك الادراك واستغلالاً للحظة الحرجة التي يمر بها الاردن فإن طهران تقدم عرضها المكشوف بكل جرأة وبلا تردد. كأنها تقول للاردن، انتم على مفترق طرق وعليكم ان تختاروا بين استمرار النظام والاستقرار، وبين اللجوء إلينا وتطويع الاردن تدريجياً امام النفوذ الايراني.
في اللحظات بالغة الحرج والتي تتعلق بصراع البقاء والاستمرار تتصرف الانظمة السياسية والبلدان كما الكائنات الحية، حيث تلجأ الى كل الطرق للبقاء على الحياة. في هذه اللحظات تُقبل المحظورات، وتنتهك المحرمات، وتنقلب النظم السياسية وبلدانها على التحالفات القديمة والتقليدية وتغير اتجاهاتها بالكامل. تاريخ السلوك السياسي والتحالفات للدول والانظمة قديماً وحديثاً يزودنا بأمثلة لا تحصى تؤشر على انقلابات جذرية في التوجه السياسي وحتى الايديولوجي مقابل البقاء. على ذلك لن يكون من المستغرب ان تكون هناك وجهات نظر في الاردن، رسمياً وشعبياً، ترحب بالعرض الايراني باعتباره مخرجاً طويل الامد للأزمات الاردنية. سوف تجادل وجهات النظر هذه بأن البلدان العربية، وخاصة دول الخليج، تركت الاردن وحيداً في مواجهة عواصف الربيع العربي. وان كوة الامل التي فتحت بدعوة الاردن للانضمام الى مجلس التعاون الخليجي مع المغرب، سرعان ما اغلقت وتم اغلاق الملف نهائياً. وان الاردن الذي قدم لدول الخليج موارده البشرية والتعليمية والطبية والهندسية على مدار عقود يترك الآن دون اي اسناد حقيقي، وانه ورغم الدعم المالي الذي كانت تقدمه دول الخليج لكنه لم يوصل الاردن الى عتبة الاستقرار والامان. مقابل التلكؤ الخليجي، تقدم ايران نموذجاً آخر للدولة الداعمة والمصممة على تعزيز نفوذها الاقليمي. عندما تدعم ايران بلداً ما، ورغم تردي اقتصادها وضعفه مقارنة بالاقتصادات الخليجية، فإن دعمها ذاك يكون صلباً وقوياً وفعالاً. والامثلة هنا حية ودالة من سورية والعراق، الى "حزب الله" والحوثيين وغيرهم. سوف يستخدم انصار قبول العرض الايراني للاردن مثال الدعم الايراني للنظام في سورية وكيف ان ايران تعتبر المعركة هناك معركتها هي وتنخرط فيها طولاً وعرضاً، تمويلاً ودبلوماسية وتسليحاً، في الوقت الذي لا يرتقي فيه الدعم العربي والخليجي للثورة هناك الى ذلك المستوى. وبالتالي يتم تسطير الاستنتاج التالي: عندما تدخل ايران على خط اي بلد من البلدان توفر له ظهراً صلباً غير متردد.
على ما سبق فإن السؤال الاردني الكبير اليوم موجه الى دول الخليج تحديداً. ماذا ستفعل وكيف سيكون ردها على العرض الايراني للاردن، وهل ستقدم بديلاً جدياً يحسم الرأي هناك، ام سيبقى التردد سمة ردود الافعال، وتبقى عروض الدعم النصفية والخجولة وغير الكافية هي جوهر التوجه الخليجي؟ صحيح ان هناك مساحة مراهنة خليجية على الاردن تفترض صعوبة وعدم تصور انقلاب السياسة الاردنية لتصبح حليفة لإيران بين عشية وضحاها، لكن هذا لا يحدث لحظياً او فور قبول المنحة الايرانية. لكن القبول ذاته وحتى لو لم يكن مشروطاً، وحتى لو كانت هناك شروط اردنية على قبول المنحة بغية تقليل المخاطر السياسية للحد الادنى، فإن النفوذ الايراني سوف يتعزز اكثر واكثر في المنطقة كتحصيل حاصل.
Email: khaled.hroub@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق