صارت الرؤية الأميركية للوضع السوري كالآتي: يجب أن يرحل بشار الأسد، يجب أن يسقط نظامه. معادلة كانت كافية لفتح أبواب الجحيم. كانت التجربتان التونسية والمصرية مشجعتين: مسألة أسبوعين ويسقط حجر الدومينو التالي. بعد سنتين لم يتغير شيء. باستثناء بعض «الأضرار الجانبية»، مثل مقتل مئة ألف إنسان وتهجير أربعة ملايين آخرين في إقليم يطفو على الوقود المشتعل أطماعاً تحت الأرض، والمتفجر حروباً من النوع الذي لا ينتهي فوقها... لا بد إذن من إعادة النظر. حسناً، فلنضع المعالم الجودزية لساحة المعركة السورية كما تطورت: أولاً التجرية العراقية علمتنا أنه لا يمكن أن نقضي على الجيش السوري. كي لا نُدخل هذا المكان في فوضى أخرى، من نوع بول بريمر، خصوصاً أنه «مكان» محاذ لإسرائيل، التي لا تحب الفوضى على حدودها. ولا تحب واشنطن ما لا تحبه تل أبيب. ثانياً التجربة الليبية، كما المصرية وحتى التونسية، علمتنا أيضاً أنه لا يمكن الاعتماد على «الإخوان». صحيح أنهم مندفعون وموالون لنا بالكامل، حتى إنهم باتوا أكثر صهيونية من الحكام الذين نظمنا انقلابهم عليهم... لكنهم فشلوا في الإمساك بدولهم. لم يؤمنوا لنا الاستقرار البديل، الذي كان علة إطلاقنا لكل هذا المشروع في الأساس. قد لا يكون ذنبهم بالكامل. فالخبرة تنقصهم، والأزمة أكبر من قدراتهم. حتى حلمنا لمنطقتهم قد يكون شديد التعقيد، حتى التناقض. بين ضرورة قبول دولة يهودية، من قبل دول إسلامية، من دون ديمقراطية فعلية، بنمط اقتصاد سوق كلية... أو قد تكون هي لوثة الحرية التي استخدمناها لإيصالهم، من دون أن نتحسب لتبعاتها اللاحقة، ومن دون أن ندرك مسبقاً هذا التناقض بينها كلوثة وبين «الإخوان» كمشروع سلطة... ثالثاً تبين لنا بعد سنتين أن المجتمع السياسي السوري أكثر تعقيداً من سواه. كنا نعتقد مثلاً أن المسيحيين السوريين ليسوا مغرمين ببشار الأسد. بدليل ما يكتبه ميشال كيلو وجورج صبرا وأمثالهما. لكننا اكتشفنا على الأرض أن المسيحيين السوريين مذعورون مرعوبون من فكرة سقوط الأسد نفسه. ثم اكتشفنا أن هذا النمط من التفكير ينسحب على أكثريات سورية من كل الجماعات تقريباً. رابعاً، لم نكن مدركين من قبل إلى أي مدى هي سوريا دولة مركزية في منطقتها، طرفية في داخلها. طرفية بمعنى أن أكثر من تسعين في المئة من أهلها يعيشون على أطرافها، في مقابل وسطها الصحراوي شبه الخالي. ومركزية في إقليمها، لأن «طرفية» سكانها جعلتهم على تماس تاريخي وسوسيولوجي واقتصادي وعلائقي ومصالحي مع جوارهم. من تركيا والعراق إلى الأردن وفلسطين وطبعاً لبنان، ما يعني أن أي أزمة سورية هي أزمة لكل منطقتها، وأن أي تغيير في شكل سوريا هو تغيير لكل إقليمها... ليس تهويلاً علينا ما يقوله الأسد في هذا السياق.
وسط هذه المعالم المكتشفة بعد سنتين من الحرب السورية، أعادت واشنطن ترميم مشهدها الدمشقي: حسناً، علينا أن نضغط على بشار كما على خصومه للجلوس إلى الطاولة معاً. الأسد نلزّّم أمر إقناعه للروس. أما معارضوه فنستعين بالأصدقاء عليهم. لم يعد يمكننا الأخذ برأي الأتراك، ولا القطريين. لقد «تورطوا» عاطفياً وشخصياً بشكل أثّر على «موضوعيتهم». الإماراتيون أكثر عقلانية في هذا المجال. ثم إنهم مثلنا مذعورون من «النصرة» ومثل بشار يسمون «الإخوان» الشياطين. فلنتكل عليهم. ولا ضير إذا استعانوا بالخبرات«الأمنية» اللازمة من بيروت لذلك. انطلقت عملية البحث. تغربلت الأسماء. انتهت إلى سليم إدريس. ممتاز. ضابط، لكنه مسيس. سنّي، لكنه مدرك لخصوصيات الطوائف السورية الأخرى. معارض، لكنه لم ينخرط في صراعات زواريب المعارضة السورية وحروبها الصغيرة. كيف العمل من هنا؟ نضغط على الجميع، لنصل إلى ما اقترحه وسام الحسن على دايفيد بترايوس آب الماضي: حصر كل قرش ورصاصة بإدريس. بعدها يتحرك جون كيري لتقصير المهل اللازمة لتحقيق المهمة. نسد كل المنافذ من الأردن والعراق إلى لبنان. نعزل أردوغان وحمد لبعض الوقت. نترك لهما مهمة المعارك الصوتية، ثم نطلب من المسؤولين الإماراتيين الجديين المجيء إلى واشنطن. ننسّق معهم الخطوات التالية. هم يفتحون خطوطهم مع الألمان للدعم الإنساني، ومع البريطانيين للدعم العملاني والميداني. أمامنا أشهر قليلة للوصول إلى نتيجة واحدة: إقناع الأسد بالتفاوض على أساس اتفاق جنيف، فيصير انتقال السلطة بالكامل قبل انتخابات الرئاسة السورية المقبلة مطلع صيف 2014. عند هذا الاستحقاق، تذهب سوريا إلى انتخابات رئاسية حرة نزيهة وعادلة، بإشراف دولي كامل. نرشح نحن سليم إدريس. قد يترشح ضده بشار الأسد. من يفوز عندها؟ فليقرر السوريون. وليتحملوا مسؤولية خيارهم وقرارهم. في النهاية، لا يمكن لواشنطن أن تفكر أبعد من ذلك. فنماذج تفكيرها السابقة، من حميد كرزاي إلى أياد علاوي إلى محمد مرسي، كلها كانت متعبة لتفكيرها مقلقة لخيارها... أوف! كم هي معقدة منطقتكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق