كانت الحال ستكون مختلفة لو قبِل الإيرانيون مبدأ «الرزمة» التي عرضتها واشنطن في أكثر من رسالة بعثت بها إلى طهران، طالبة فيها المفاوضات المباشرة على تسوية جميع الملفات العالقة. لكن الرد الإيراني كان حاسماً، وعلى لسان المرشد علي خامنئي نفسه، الذي عبّر عنه في أكثر من خطبة علنية. قال ما معناه إن الجمهورية الإسلامية اختبرت الولايات المتحدة في أفغانستان، في إشارة على ما يبدو إلى مؤتمر روما في ٢٠٠١، وكذلك الأمر في العراق، في تلميح إلى لقاء السفيرين الأميركي والإيراني في بغداد في ٢٠٠٧ من أجل تنظيم انسحاب أميركي يحفظ لواشنطن ماء الوجه. وفي الحالين، التزم الإيرانيون بالتفاهم الذي تملّص منه الأميركيون؛ في الملف الأول، مع سقوط طالبان وفي خلال ترتيبات الحكم الذي أقيم على أنقاضها. وفي بلاد الرافدين بعد اكتمال الانسحاب في 2011، وعلى أكثر من جبهة. وعليه، خلص المرشد إلى أن التجربة علّمت الإيرانيين أنهم لا يستطيعون أن يطمئنوا إلى الحكومة الأميركية، وبالتالي فإن حكومة طهران ترى في المفاوضات النووية اختباراً لنيّات واشنطن التي إن نجحت فيه، عندها يمكن أن يقود إلى تفاهمات واتفاقات في مواضيع أخرى قد تصل إلى حد التطبيع.
رهانات واشنطن كانت مختلفة، لكن حسابات الحقل الخاصة بها اختلفت عن حسابات البيدر. كانت تعتقد، على ما يرى الإيرانيون، أن النظام الحاكم في طهران سينهار في حد أقصى في شهر شباط الماضي بفعل الرزمة الأخيرة من العقوبات على سوريا. وهو ما لم يحصل. كذلك فإن الواقع الميداني في سوريا، وعوض أن يتقهقر لصالح المجموعات المسلحة على ما كانت تأمل، يشهد تقدماً لصالح النظام. المعركة الأخيرة في دمشق مثال واضح. لم تؤدّ فقط إلى تأمين العاصمة حيال أي هجوم. ولكنها، بفضل استعادة بلدة العتيبة شرقي دمشق، تكون قد وضعت حاجزاً منيعاً ضد تدفق المقاتلين والعتاد من الأردن إلى المقاتلين في الغوطة الشرقية. حتى التحالفات الإقليمية تشهد تبدلاً. تصريح نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، محمد فاروق طيفور، عن أن إخوان سوريا يتعرضون لضغوط من الإيرانيين والمصريين، ومعه الصمت المصري حيال ما يجري في سوريا، يبدو لافتاً في هذا الإطار.
المؤشرات على حرص واشنطن على إبرام تسوية كثيرة. تصريح خافيير سولانا أواخر الاسبوع الماضي بأن واشنطن تمتنع عن التورط أكثر في الملف السوري، خاصة في ما يتعلق بتسليح المعارضة، خوفاً من أن يؤثر ذلك على المفاوضات النووية، بالغ الدلالة. قبلها، كانت زيارة العم أوباما لإسرائيل: جولة لرئيس الولايات المتحدة إلى المنطقة هدفها الأساس، ويمكن أن يكون الوحيد، لقاء بنيامين نتنياهو. ولماذا؟ ليحذره بنفسه مباشرة ومن داخل الكيان العبري، من الإتيان بأي حركة تفسد أجواء التسوية مع إيران. القرار الأميركي حاسم في هذا الشأن. تغيير السلوك الأميركي حيال إيران لصالح التعايش معها تكرس عملياً بتعيين جون كيري وتشاك هاغل في حقيبتي الخارجية والدفاع في الإدارة الجديدة، وذلك طبعاً بعد أكثر من ثلاثة عقود من الصراع فشلت خلالها جميع الوسائل في إجهاض نظام ما بعد الثورة أو تدجينه.
بل أكثر من ذلك. يعتقد المعنيون في إيران بأن اهتمامات أميركا باتت في مكان آخر، أو على الأقل أن أولوياتها تغيرت. يستندون في استنتاجهم هذا إلى معطيات متعددة: وقوف العم سام عاجزاً أمام الأزمة التي افتعلتها كوريا الشمالية أخيراً في الشرق الأقصى. القلق الأميركي الحتمي من الحراك الروسي الصيني في إطار مجموعة البريكس لبناء منظومة عالمية جديدة، بديلة ومستقلة من تلك التي أقيمت بقيادة أميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الاكتشافات النفطية الأخيرة في الولايات المتحدة نفسها، والتي ستجعلها تكتفي ذاتياً من حاجتها من الطاقة، بل وتحولها إلى دولة مصدرة خلال سنوات، مع ما يعنيه ذلك من استقلالية في مجال الطاقة لا شك في أن تداعياتها ستطال السياسة الخارجية الأميركية. كلها معطيات تدفع أجهزة التقدير في طهران للوصول إلى مجموعة من الاستنتاجات: انخفاض قيمة نفط الخليج في عيني واشنطن. ما عاد يشكل حاجة استراتيجية، وبالتالي ما عاد العم سام مستعداً لدفع الأثمان نفسها التي كان جاهزاً لتقديمها خلال الفترة الماضية من أجل ضمان بقائه تحت سيطرتها المطلقة والوحيدة. هذا طبعاً لا يقلل من قيمته الاستراتيجية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، مع ما يعنيه من إجماع دولي على ضرورة ضمان أمنه وتدفقه إلى الأسواق العالمية. تزايد أهمية الشرق الأقصى، بل احتلاله الصدارة على لائحة الملفات الاستراتيجية الحيوية بالنسبة إلى أميركا. لا يعني هذا طبعاً أن واشنطن فقدت اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، ولكنها تريد على ما يبدو الهروب من وحولها. في النهاية، لا تزال إسرائيل موجودة، مع ما تختزنه في الذاكرة الجمعية الأميركية، وما تعنيه من رابط إيديولوجي مع شرائح واسعة في الولايات المتحدة. وهناك المخزون الضخم من النفط والغاز الذي أعلن حديثاً اكتشافه في بحر وبر فلسطين وسوريا ولبنان.
ملفان يعتقد كثير من المعنيين أنهما سيتصدران جدول المحادثات المرتقبة بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين، اللذين يبدو أنهما يتبادلان الأمكنة: واشنطن تنتقل إلى أقصى الشرق، وموسكو تنتقل إلى الشرق الأوسط. لكن العم سام يريد أولاً الاطمئنان على إسرائيل، وضمان حصته من الثروة النفطية الجديدة، قبل إبرام التسوية التاريخية... مع إيران.
كل ذلك رهن الإجابة عن الأسئلة الآتية: هل إيران مستعدة لدفع ثمن التسوية؟ وهل ستسمح إسرائيل وتركيا بتسوية كهذه، ستكونان أكبر خاسرين إن تحققت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق